زيارة الرّئيس أحمد الشّرع إلى موسكو : بين السّيادة الوطنيّة وتوازن المصالح الدّوليّة

عكس الاتّجاه نيوز _ مقالات
تمثّل زيارة الرّئيس أحمد الشّرع إلى روسيا لحظة مفصليّة في مسار العلاقات السّوريّة – الرّوسيّة ، إذ تأتي في مرحلة انتقالية دقيقة بعد سقوط النّظام السّابق، وبروز مرحلة سياسية جديدة في دمشق تحمل شعار “السّيادة أولاً”.
إنها ليست زيارة بروتوكولية، بل اختبار حقيقي لمعادلة القوة والمصالح بين بلدين تجمعهما ذاكرة ثقيلة من التحالف والتبعية، ويسعيان اليوم إلى إعادة صياغة العلاقة على أسس جديدة تقوم على الندية والاحترام المتبادل.
أولاً: الأبعاد السياسية والدبلوماسية
يُدرك الرّئيس الشّرع أن مفتاح استعادة التوازن الدولي لسوريا يبدأ من موسكو، القوة التي كانت لعقدٍ كامل اللاعب الأكثر تأثيراً في الشأن السوري. لذلك جاءت الزيارة لتأكيد شرعية الدولة الجديدة، وطلب اعتراف روسي صريح بها كسلطة شرعية تمثل الشعب السوري في المرحلة الراهنة.
من الجانب الروسي، تُظهر التصريحات الرسمية رغبة في الحفاظ على نفوذ موسكو في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، لكن ضمن علاقة أكثر انفتاحًا على الحكومة الجديدة، بعيداً عن شخصنة التحالفات التي كانت تدور سابقاً حول رأس النظام.
ثانياً: البعد العسكري والأمني
يشكل ملف الوجود العسكري الروسي في سوريا أحد أبرز محاور الزيارة.
القواعد الروسية في حميميم وطرطوس كانت رمزاً لعهدٍ مضى، والمرحلة الراهنة تتطلب إعادة تعريفها ضمن إطار قانوني يضمن السيادة السورية الكاملة، دون المساس بالتعاون الدفاعي المشروع بين الدولتين.
كما تسعى دمشق إلى تحويل طبيعة الوجود الروسي من طابع قتالي إلى طابع تدريبي واستشاري، مع إلغاء أي نشاط خارج إشراف القيادة السورية، في خطوة تهدف إلى ترسيخ صورة الجيش الوطني كمؤسسة سيادية مستقلة.
ثالثاً: البعد القضائي والرمزي
من أكثر الملفات حساسية في الزيارة مطالبة دمشق بتسليم بشار الأسد ومن معه من رموز النظام السابق، لمحاكمتهم أمام القضاء السوري.
هذه الخطوة، رغم رمزيتها السياسية، تعكس رغبة القيادة الجديدة في طيّ صفحة الماضي عبر العدالة لا الانتقام، وإرسال رسالة واضحة بأن سوريا الجديدة لا تحكمها الصفقات بل القوانين.
ورغم إدراك موسكو لحساسية الطلب، إلا أن مجرّد طرحه علناً يمثل إعلانًا لميلاد سياسة خارجية سورية مستقلة لا تخضع لإملاءات الحلفاء أو الأعداء.
رابعاً: البعد الاقتصادي وإعادة الإعمار
يُتوقّع أن تكون الزيارة مقدّمة لمرحلة تعاون اقتصادي جديدة، تتضمن مشاريع طاقة، واتفاقات لإعادة إعمار البنى التحتية في الساحل والداخل السوري.
الهدف من ذلك ليس استبدال التبعية العسكرية بتبعية اقتصادية، بل بناء شراكات متوازنة تضمن المصلحة الوطنية السورية، وتشجع الاستثمار المشترك مع انفتاح متزايد على الشركاء العرب والدوليين.
كما يسعى الشرع للحصول على دعم روسي في تخفيف العقوبات وتسهيل وصول سوريا إلى المنظمات المالية الدولية، بما يمهّد لمرحلة تعافٍ اقتصادي تدريجي.
خامساً: البعد الإقليمي والدولي
تأتي الزيارة ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تموضع سوريا في الخارطة الإقليمية.
فبينما كانت دمشق في السابق جزءاً من محور واحد مغلق، يسعى الرئيس الشرع اليوم إلى سياسة توازن محاور: علاقة مستقرة مع موسكو، وانفتاح على واشنطن وأوروبا، وتفاهمات بنّاءة مع الدول العربية، خاصة مصر والسعودية والأردن والإمارات.
ومن خلال هذه الزيارة، تبعث سوريا برسالة مزدوجة: أنها حليف يمكن الوثوق به، لكنها لم تعد دولة تدور في فلك أحد.
سادساً: السيناريوهات المحتملة لما بعد الزيارة
- سيناريو الشراكة المتوازنة: نجاح المباحثات في إرساء علاقة جديدة قائمة على التعاون الاستراتيجي والاحترام المتبادل.
- السيناريو التحفظي: الاكتفاء ببيانات دبلوماسية دون تقدم فعلي، مع بقاء العلاقات في حالة اختبار.
- السيناريو المتوتر: تصاعد الخلاف حول ملفات القواعد العسكرية وتسليم الأسد، ما يؤدي إلى فتور في العلاقات.
- السيناريو المركب: صفقة تدريجية تشمل بقاء رمزي للوجود الروسي مقابل دعم اقتصادي وسياسي للحكومة الجديدة.
زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو ليست مجرد حدث سياسي عابر، بل هي إعلان عن ولادة سياسة خارجية سورية جديدة تسعى إلى إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة المستقلة ذات القرار السيادي.
بين المصالح الروسية والمطالب الوطنية، وبين ذاكرة الحرب وطموح السلام، تمضي دمشق اليوم في طريقٍ صعب لكنه ضروري نحو إعادة بناء الدولة على أسس العدالة والسيادة والانفتاح المتوازن على العالم.
إنها بداية مرحلة جديدة، قد تحدد ملامح سوريا لسنوات طويلة قادمة.
د. خالد الخالد.
15/10/2025
عكـس الاتّـجاه نيـوز
الحقيقـة الكاملـة
معــاً نصنع إعـلاماً جـديداً