حين تنهض الحجارة ..

عكس الاتّجاه نيوز _ مقالات
بقلم عبدالستار الموسى
في صباحِ يومٍ مليئ برائحة البارود ، كانت المدينة الألمانية القديمة تشبه جرحاً مفتوحاً في قلب الأرض. الشوارع غارقة في الغبار، والنوافذ المكسورة تروي بصمتٍ قصة زمنٍ خان الوجوه.لكن في وسط الساحة، وقف شابٌّ يُدعى يوهان، يحمل معولاً على كتفه، وينظر إلى السماء كما لو كان يبحث فيها عن ملامح وطنٍ ضاع.
قال لنفسه:”ربّما الوطن لا يموت، بل يختبئ في صدورنا حتى نجد له جسداً من جديد.”
بدأ يوهان بالحجر الأول، لا لأنّ البناء ضروري، بل لأنّ الصمت أصبح لا يُحتمل. ومع كل ضربة معول، كانت ذاكرةٌ تستيقظ: ضحكة أمه، رائحة الخبز، موسيقى الجيران في الأعياد.
كان يؤمن أن إعادة بناء الجدران ليست سوى وسيلة لإعادة بناء النفس.ومع الأيام، انضم إليه صبيّ صغير قال له بخجل: “أبي مات في الحرب، هل أستطيع أن أساعدك؟”
ابتسم يوهان، وأعطاه حجراً، وقال:”احمل هذا الحجر كما لو أنّك تحمل حلماً.”من حجرٍ إلى حجر، ومن يدٍ إلى يد، تحوّلت المدينة من مقبرةٍ إلى قصيدة.
لم تكن الأبنية وحدها تنهض، بل القلوب أيضاً.
لقد تعلّم الناس أنّ الأوطان لا تُبنى بالحجارة والطين ، بل تقوم على الإيمان والمحبة و التعايش بين الناس . وأنّ كل جدارٍ يُقام بصدقٍ، يُعيد جزءاً من الروح التي فقدوها،
حين أشرقت شمس الربيع على المدينة الجديدة، وقف يوهان مخاطباً الناس بصوتٍ يشبه الصلاة وقال :
“الذين يزرعون الحجارة في أرضهم، يزرعون معنى الحياة. أمّا الذين يتركونها صامتة، فسيعيشون بين الأطلال وإن سكنوا القصور.”
مرّت سنوات، وصارت المدينة التي بناها يوهان تضجّ بالحياة. الأزقة التي كانت يوماً موحشة، امتلأت بأصوات الأطفال، والمصانع القديمة تحوّلت إلى مدارسٍ للعلم والفن.
لكن يوهان كان يعلم أن الجدران مهما علت، تظلّ هشة إن لم تسكنها روح العدالة والمحبة.
جلس ذات مساء في ساحة المدينة، حيث اجتمع الناس يحتفلون بمرور عامٕ على إعادة البناء، وقال لهم بصوتٍ عميق:
“لقد بنينا الجدران، لكن علينا الآن أن نبني الجسور. فالحجر لا يُخلّد الأوطان، بل التعايش بين من يرفعون معنا التعايش قتل الثأر والحقد .”كانت بينهم عائلات من أطرافٍ مختلفة،
متخاصمون منذ الحرب، كلٌّ يرى في الآخر سبب ألمه. فنهض أحد الشيوخ وقال: كيف نتصالح والذكريات ما زالت تنزف؟”فأجابه يوهان:
“حين نعجز عن نسيان الماضي، فلنحوله إلى درس. الخلاف يُطفئ الضوء، والعلم يشعل شمعة. فلنُطعِم أجيالنا معرفةً بدل مرارة، ولنفتح أبوابنا للعلماء كما نفتحها للسلام.”
ومنذ تلك الليلة، قرر أهل المدينة تأسيس بيتٍ كبير للعلم، لا يُسأل فيه الداخل عن أصله أو مذهبه، بل عن فكره وعن ما يحمله من علم ومعرفة. هناك أجتمع العلماء والحرفيون والفلاسفة، ليبدأ يبنون للأمة فكرها كما بنى بنو الجارة و شيدوا الأزقة .
وفي كل صباح، كانت تُرفع على أبواب المدرسة عبارة نقشها يوهان بنفسه:
“الوطن الذي لا يسكنه علمٌ وعدل، يبقى ناقصاً ولو اكتمل بناؤه.”
وهكذا تصالحت النفوس، لا لأنهم نسوا ما جرى، بل لأنهم اختاروا أن يعلّموا أبناءهم كيف يُطفأ الحقد بالعلم، وكيف يُرمَّم القلب بالمحبة لا بالانتقام.
في شيخوخته، كان يوهان يسير في المدينة التي صنعها قلبه، يسمع أصوات الناس بلغاتٍ ولهجاتٍ شتّى، ويبتسم.
“ها هو يدرك الآن،” تكلم وهوه يحدّق في الغروب:”أن الأوطان لا تُبنى لتحتوي شعباً واحداً، بل لتحتوي الإنسان في كلّ إنسان.”
في صباحٍ باردٍ من شتاءٍ متأخر، جلس يوهان على مقعدٍ خشبي في ساحة المدينة التي بناها بيديه. كانت يداه مرتجفتين من العمر، لكن عينيه بقيتا تلمعان كأول يومٍ رفع فيه الحجر الأول.
أمامه، كان الأطفال يركضون بين الأشجار المزروعة حديثاً، يضحكون بلغاتٍ مختلفة، ولا أحد يسأل عن نسبٍ الأخر أو مذهبه أو جهة؛ اقترب منه أحد تلامذته، وهو عالمٌ شابٌّ كان يوهان قد رعاه صغيراً، وقال له: “يا معلّمي، هل تظن أن ما بنيناه سيبقى بعد رحيلنا؟ ابتسم يوهان ابتسامةً هادئة، ومسح بيده على الحجر الذي يسند قاعدةالمقعد، وقال: “الأوطان يا بني لا تبقى بالحجر، بل بالقلوب التي تتصالح. حين يتصالح الإنسان مع نفسه، يصير كل حجرٍ في الأرض زهرة.”
ثم أغمض عينيه، كما لو أنه يستمع إلى موسيقى خفية تأتي من أعماق الأرض.
لم يشعر أحدٌ متى غفا، لكنه غفا مبتسماً.
وفي اليوم التالي، وجدوه وقد رحل بهدوءٍ بين الأشجار، والثلج يغطي كتفيه كوشاحٍ أبيض.
لكن الغريب أن شجرةً صغيرة نبتت بعد أيامٍ عند قدميه، في مكانٍ لم يزرع فيه أحد شيئاً.
قال الناس: “لقد أورقت الحجارة.”
ومنذ ذلك اليوم، صارت الشجرة تُسمّى “شجرة الصلح”، وصار الناس يأتون من كل مكانٍ ليجلسوا تحتها، يقرؤون وصية يوهان المنقوشة على لوحٍ حجري قرب جذعها:
(ازرعوا علماً حيث تسقط دمعة، وابنوا جسراً حيث يقع خلاف.
حين يتصالح البشر، تبتسم الأرض، وحين تبتسم الأرض، يولد الوطن من جديد.
عكـس الاتّـجاه نيـوز
الحقيقـة الكاملـة
معــاً نصنع إعـلاماً جـديداً




