مقالات

الأخطاء الطّبّيّة بين المسؤوليّة المهنيّة والمساءلة القانونيّةدراسة تحليليّــة في المسؤوليّة الشّرعيّة والقانونيّة للأخطاء الطّبّيّة

عكس الاتّجاه نيوز _ مقالات
بقلم : د. خالد محمد الخالد

في غرفة العمليات ، حيث تُزرع الحياة من جديد ، يمكن أحياناً أن تُزرع المأساة بدلاً منها .
قصة المريض الذي اكتُشفت أداة جراحية داخل بطنه بعد عام من عملية سابقة، ثم أُعيد فتح بطنه لاستخراجها، لكنه لم ينجُ من مضاعفاتها ، ليست مجرّد خطأ طبّي… إنها مرآة تعكس خللاً أعمق من سهوٍ فردي : خلل في المنظومة، في الرّقابة ، وفي الضمير.

الطّب ليس معصوماً… لكنه مسؤول
الخطأ في الممارسة الطبية ممكن، لكن الإهمال غير مقبول.
فأن تُترك أداة جراحية في جسد مريض بعد العملية، هو إهمال جسيم لا يمكن تبريره بضغط العمل أو صعوبة الحالة.
المعايير الجراحية العالمية تشدد على “العدّ الثلاثي” للأدوات قبل وأثناء وبعد الجراحة.
تجاهل هذا الإجراء يُعتبر خروجاً عن أبسط قواعد السلامة المهنية، وينقل الخطأ من كونه “اجتهاداً طبياً” إلى “تقصير مهني جسيم” يستوجب المساءلة العلمية والقانونية.

الطب في ميزان الشريعة
في الشريعة الإسلامية، الطبيب مؤتمن على أرواح الناس، لا على أجسادهم فحسب.
قال النبي ﷺ: «من تطبّب ولم يُعلم منه الطب فهو ضامن»، أي أن الطبيب مسؤول عمّا يصدر عنه من ضرر إذا كان ناتجاً عن جهل أو إهمال.
القاعدة الفقهية تقول: «لا ضمان مع الإذن والمصلحة، وضمان مع التعدي والتقصير.»
فإذا التزم الطبيب بالأصول العلمية واجتهد بصدق فلا إثم عليه، أما إذا أهمل أو تجاوز، فالمسؤولية عليه شرعاً وقانوناً.
فالطب أمانة، ومن قصّر في الأمانة ضَمِنَ، ولو لم يتعمد.

العدالة القانونية… بين حق المريض وواجب الطبيب
القانون لا يعاقب الطبيب لأنه أخطأ، بل لأنه أهمل أو خالف الأصول العلمية.
ويُفرّق بين الخطأ البسيط الناتج عن الاجتهاد، والخطأ الجسيم الناتج عن الإهمال.
في الحالة المذكورة، حيث تُركت أداة داخل جسد المريض، تُعد الواقعة إهمالاً جسيماً يوجب المسؤولية الجزائية والمدنية، وقد تُصنّف كجريمة تقصير مهني أفضت إلى الوفاة.

من المحاسبة إلى الوقاية
الهدف ليس معاقبة الأطباء، بل منع تكرار الأخطاء.
والحل لا يكون باللوم فقط، بل بتأسيس نظام وقائي صارم.
من ذلك:

  • اعتماد قوائم التحقق الجراحية لضمان عدم نسيان الأدوات أو الإهمال في الإجراءات.
  • تدريب الكادر الطبي على إدارة المخاطر ومتابعة معايير الجودة.
  • إنشاء لجان فنية مستقلة لمراجعة الأداء وتحقيق المساءلة المهنية.
  • تطبيق التأمين الإلزامي ضد الأخطاء الطبية لحماية المريض والطبيب معاً.
  • تشجيع ثقافة الاعتراف بالخطأ والتعلم منه بدلاً من إخفائه.

نحو عدالة طبية أكثر إنصافاً
لا بد من تطوير نظام قضائي طبي متوازن، يضمن العدالة والرحمة معاً.
وأبرز المقترحات لذلك:

  1. محاكم طبية متخصصة تضم قضاة وأطباء خبراء.
  2. صندوق وطني لتعويض ضحايا الأخطاء الطبية بتمويل من شركات التأمين والمستشفيات.
  3. إلزامية التأمين المهني لكل الممارسين الصحيين.
  4. تحويل الأخطاء إلى مادة تعليمية ضمن التدريب الطبي المستمر.

خاتمة: الضمير هو الجراحة الأولى
الطب ليس مجرد علم، بل ميثاق أخلاقي وإنساني.
والمشرط الذي يشق الجسد لإنقاذه، قد يتحول إلى سلاحٍ قاتلٍ إن غاب عنه الضمير.
القوانين وحدها لا تصنع الأمان، إنما يصنعه وعي الطبيب والتزامه الإنساني.
وحين تصبح العدالة الطبية ثقافة لا عقوبة، والضمير قاعدة الممارسة لا استثناءها، حينها فقط…
يعود الطب كما أراده الله: مهنة الرحمة لا سبب الألم.

عكـس الاتّـجاه نيـوز
الحقيقـة الكاملـة
معــاً نصنع إعـلاماً جـديداً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى