في ميلانو حين التقت الغربة بالقدر واشتعلت الذّاكرة من رماد النّسيان

بقلم محمد ضياء الدّين بديوي رئيس تحرير عكس الاتّجاه نيوز و مستشار إبداعي في الشّؤون الإعلاميّة و الرّمزيّة
في عام 1982 كنت غريباً في مدينة لا تعرفني ولا أفهم لغتها ولا أملك فيها سوى اسمي و الجوع عصرني عصراً فدخلت مطعماً فخماً أبحث عن وجبة تطفئ نار الغربة وتسكت صراخ المعدة جلست أتناول عشائي و أراقب الوجبة كمن يراقب حلما تحقّق بعد طول انتظار
وفجأة دخل ثلاثة رجال كأنهم خرجوا من إعلان لماركات عالميّة أحدهم شاب أسمر وسيم يرمقني بنظرات غريبة كأن بيننا ماضٍ لم يكتب بعد اقترب مني وقال بصوت رخيم
ضياء لا تذهب انتظرني سأعود إليك
كلماته كانت كالصاعقة مزقت سكون اللحظة وأشعلت نار الأسئلة في رأسي كيف عرفني و من يكون ولماذا تشبه كلماته صفعة على ذاكرة مثقوبة ؟
انتظرته وعاد عانقني قبلني وقال
أكيد لم تتذكرني لكنني لن أطيل
ثم بدأ يسرد حكايته حكاية طفل من حلب كان يتيماً يعيش تحت رحمة زوجة أب قاسية لا تعرف للرحمة باباً كانت تسرق المازوت من زوجها وتعطيه للطفل ليبيعه ثم تأخذ المال منه وحين سكب المازوت ذات يوم إنهالت عليه ضرباً كأنّها تنتقم من الحياة فيه
هرب الطّفل بلا وجهة و بلا سند إلى بيروت نام على الأرصفة أمام دور السّينما حتى رقّ له قلب صاحب إحدى الدّور فوظفه عامل نظافة ثم فتح بسطة صغيرة أمام السّينما يبيع فيها ما تيسّر وفي يوم أسود صادرت البلدية كل ما يملك لم يبقَ له سوى بعض النّقود اشترى بها كيلو موز وبدأ يبيعها موزة موزة
كبرت الموزة وكبرت معها أحلامه ثم جاءت الأفلام القديمة ثم جاءت الأردن ثم جاءت دور السّينما ثم جاءت الثّورة الرّقميّة ثم جاءت الشّركات ثم جاء المال ثم جاء المجد
لكن لم تأتِ الرّاحة ولم تأتِ الطّمأنينة ولم تأتِ الأجوبة
قال لي وهو يبكي بصمت
أنا غني يا ضياء أملك شركات لكنني أشتاق لإخوتي و لا أعرف هل أدعو على زوجة أبي التي أحرقت طفولتي أم أدعو لها لأنها جعلتني اعتمد على نفسي .
من رحمِ القسوة يولد العزم
من ظلامِ الطّفولة تشرق شمس الإرادة
ليست كل صفعة ظلماً وليست كل دمعة ضعفاً
فبعض الجراح لا تشفى لكنها تصنع رجالاً لا يكسرون
فأشكر من أوجعك إن جعلك أقوى
لأنّ الحياة لا تصنع الأبطال في القصور بل في الأزقّة على الأرصفة وتحت سياط الألم
والطّفل الذي بكى تحت الضرب هو نفسه الذي ضحك تحت أضواء المجد
عكـس الاتّـجاه نيـوز
الحقيقـة الكاملـة
معــاً نصنع إعـلاماً جـديداً