مقالات

بخارى وسمرقند وشام شريف

د. م. محمد رقية

في صيف عام ١٩٩١ وأثناء وجودي في موسكو بمهمة تدريبية مجانية لمدة ثلاثة أشهر في المعهد العالي للأبحاث الجيولوجية ، الذي حصلت منه على شهادة الدكتوراه عام ١٩٨٠
وبناء على دعوة عدد من الباحثين في طشقند وأوكرانيا لزيارة بعض المناجم والاطلاع على بعض التقنيات الحديثة للمسح الاستشعاري واجراء تجارب عليها ، فقد قمت وأحد الأصدقاء الذي كان يحضر الدكتوراه بالاستشعار عن بعد في موسكو بزيارة طشقند وبخارى وسمرقند ومنجم النحاس والرصاص في الماليك ومن بعدها زيارة دنيبر بتروفسك في أوكرانيا وإجراء تجارب المسح الاستشعاري هناك .
بدأنا سفرنا بالطائرة من مطار فنوكافا جنوب موسكو الى طشقند واستمرت الرحلة أكثر من أربع ساعات ومسافة الطيران تبلغ حوالي ٢٨٠٠ كم .
تم استقبالنا في المطار وقضينا ليلة في طشقند.
في اليوم التالي خصص لنا طائرة هيلوكبتر لمدة ثلاثة أيام لزيارة بخارى وسمرقند ومنجم الماليك جنوب العاصمة طشقند
سافرنا من طشقند الى بخارى مباشرة التي تصل مسافتها الأرضية حوالي ٥٧٠ كم والمسافة الجوية حوالي ٤٤٠ كم وكانت سرعة الطائرة حوالي ٢٨٠ كم بالساعة
وصلنا بخارى بعد حوالي ساعتين وتم استقبالنا هناك من بعض المسؤولين في المدينة وبعد استراحة قصيرة تم أخذنا في رحلة سياحية لمعالم المدينة الأثرية الاسلامية العتيقة مع دليل سياحي يشرح تاريخ المدينة وتاريخ المواقع التي زرناها .
ويوجد في بخارى أكثر من (140) معلم أثري وأثر معماري من أشهرها:
▪︎قُبة السامانيين التي شيدت خلال الفترة ما بين ٨٩٢- ٩٠٧ ميلادي
▪︎مسجد نمازكاه الذي شيد في القرن السادس الهجري.
▪︎مئذنة أو منارة كاليان، التي أقامها أرسلان خان سنة 1127 م. وترتفع خمسين مترا” ويمكن رؤيتها من أي جزء من المدينة وهي مزيَّنة بالطوب المزخرف
▪︎مسجد بلند
▪︎ مسجد بولاحاووظ: الذي شيد خلال القرن 11هـ/17م، ويمتاز بنقوشه وأعمدته العشرين الرائعة التي تنعكس في الماء أمامه، فتبدو وكأنها أربعون عمودًا.
▪︎مسجد ماجوكي أتوري
▪︎ضريح البخاري ( ٨١٠- ٨٦٩ م) الشهير بصحيح البخاري
▪︎حوض «ماء لب»: الذي شُيِّد بأمر أحد مسؤولي بخارى، والحوض يكسوه الحجر الكلسي، وحوله حدائق غنَّاء.
▪︎مدرسة مير عرب التي بنيت في القرن السادس عشر ميلادي على يد الشيخ عبدالله يمني وهو أحد الأمراء العرب القادم من اليمن ويتزين مبناها بقباب زرقاء وفيها يتم تدريس العلوم الاسلامية
▪︎جدار قلعة بخارى المسمى السفينة وهي قديمة جدا”

ومن المفيد الاشارة الى أن
مدينة بخارى تأسست بشكل رسمي في عام 500 قبل الميلاد في المنطقة المسماة آرك. وعلى الرغم من ذلك فقد سكنت واحة بخارى من زمن أقدم من ذلك .

وتعتبر مدينة بخارى إحدى المدن الإسلاميّة العريقة التي لها تاريخ حافل بالإنجازات على مرّ العصور
حيث أصبحت مدينة اسلامية منذ عام (54 هجري) على يد عبيد الله بن زياد، وعندما دخلها قتيبة بن مسلم عام (86 هجري) أحضر العرب إليها ووطّنهم فيها وبنى فيها المسجد الكبير
وهي تحوي مائتي مدرسة وسبعة مساجد جامعة، وأربعين حمامًا عامًا، ومائة وخمسين سوقًا تجاريًا كبيرًا، بالإضافة إلى المكتبات التي كان أغلبها مكتبات خاصة .

وقال القزويني عنها: “بخارى مدينة عظيمة مشهورة بما وراء النهر، قديمة، طيبة.. ولم تزل بخارى مجمع الفقهاء، ومعدن الفضلاء، ومنشأ علوم النظر.. وكانت الرئاسة في بيت مبارك، ونسبهم ينتهي إلى عمر بن عبد العزيز، وتوارثوا تربية العلم والعلماء كابرًا عن كابر.. ولم تر مدينة كان أهلها أشد احترامًا لأهل العلم من بخارى”.
ومن علمائها اضافة الى البخاري أيضا” الطبيب والفيلسوف الشهير ابن سينا الذي توفي عام ٤٧٨ هجري والزمخشري(١٠٧٤-١١٤٣ م) وهو علامة فارسي واسحاق بن راهويه وغيرهم
وعند تجوالنا في المدينة ولقاء الناس وعند معرفتهم بأننا من سورية يباركون ويقولون شام شريف
في نهاية جولتنا زرنا بئر النبي أيوب وهو بئر تبقى مياهه ثابتة صيفا” وشتاء” ،وبني فوقه جامع يسمى جامع النبي أيوب وهنا حدثت معنا مفاجأة غريبة ، حيث كنا في عز الصيف في حزيران والحر شديد وكانت الشمس ساطعة طيلة الجولة ولا أثر لأي غيوم أو عواصف
وعندما دخلنا جامع النبي أيوب لنقرأ الفاتحة أمام البئر والاطلاع على معالمه وقضينا حوالي ثلث ساعة في الجامع وعند خروجنا من هناك تفاجئنا بهبوب رياح عاصفة شديدة تبعها أمطار غزيرة لم أر مثلها حتى في الشتاء ومن شدة العاصفة تأخر طيراننا الى سمرقند أكثر من ساعتين وتفاجأ الجميع هناك بهذا الحدث الغريب ، الذي لم يحدث سابقا” والكل أصبح يتبارك فينا لأنا جلبنا لهم المطر في الصيف .
بعد ساعتين من الانتظار أضطررنا ان نقلع قبل الغياب رغم عدم انتهاء العاصفة ، كي لا نتأخر كثيرا” عن البرنامج الموضوع، وأثناء الطيران الى سمرقند عندما كنا نقترب من طرف العاصفة كانت الطائرة ترتجف بطريقة مخيفة .
وصلنا بخير الى سمرقند ، التي قضينا فيها ليلتنا .
سمرقند هي ثاني أكبر مدينة في أوزبكستان، يصل عدد سكانها الى أكثر من نصف مليون نسمة وهي من أجمل المدن التاريخية المزينة والمزركشة أبنيتها وجوامعها بكل الزخارف المتاحة وتشبه بزخارفها مقام السيدة زينب في دمشق.
وتعتبر مركز التقاء الثقافات في العالم، ولها تاريخ يمتد إلى 1500 سنة قبل الميلاد، حيث نشأت فيها أولى الابنية البشرية ، وصولا إلى القرنين الـ 14 و15 اللذين شهدا أوج ازدهارها.
وتتألف سمرقند من 3 أقسام، ففي الشمال الشرقي المدينة القديمة التي تضم عددا من الآثار أهمها: بقايا القلعة القديمة والتحصينات، قصر الحاكم، الأحياء السكنية والحرفية، بقايا مسجد يعود بناؤه إلى القرن الثامن الميلادي.

والقسم الثاني بالجنوب، وفيه مجموعات معمارية، مدينة العصر التيموري التي تضم مرافق اجتماعية كالمدارس والمساجد والمساكن، وهي نموذج مدهش لتطور العمارة وتخطيط المدن وبنائها.
أما القسم الثالث فإلى الغرب، وفيه المنطقة التي بناها الروس على الطراز الأوروبي.
وهي تضم أكثر من الف مبنى ثقافي يعكس تاريخها العريق
ويعد ضريح قثم بن العباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أحد المعالم الدينية الهامة في المدينة
تم الفتح الاسلامي لمدينة سمرقند ( ٨٧ هجرية، ٧٠٥ ميلادية ) على يد القائد قتيبة بن مسلم ، ثم أعاد فتحها مرة أخرى سنة ٩٢ هجرية وفي العصر العباسي ازدهرت المدينة بشكل كبير .

هنا حصلت معنا أيضا” حادثة غير عادية ، فقد دعونا الى زيارة ضريح قثم بن العباس ابن عم الرسول الكريم (ص) المقام عليه جامع كبير .
فعندما دخلنا الى المكان لم يكن أحد موجود سوانا مع مرافقنا الأوزبيكي
قرأنا الفاتحة وحاولنا الرجوع وإذ نفاجأ بمجموعة سياحية غربية تقف وراءنا والكل رافع يديه ومن شدة الهدوء المرافق لحركتهم لم نشعر بدخولهم أبدا”.
في اليوم التالي سافرنا الى منجم الرصاص والنحاس في الماليك جنوب طشقند وهو من المناجم الهامة عالميا” لاستخراج النحاس والرصاص وهو منجم مفتوح قضينا فيه نصف نهار تابعنا خلالها عمليات استخراج الخامات من المنجم وعمليات التركيز والاغناء للخامات قبل ارسالها الى معامل الصهر .
في نهاية الجولة عدنا مساء” الى طشقند .
أما رحلة أوكرانيا فسأخصص لها مقال لاحق
١٢ /٧/ ٢٠٢٤

نشر على موقع اضاءات وموقع فينكس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى