مقالات

سوريا بعد قيصر .. ملامح التّحوّل في عهد الرّئيس أحمد الشّرع

عكس الاتّجاه نيوز _ مقالات
يشهد التّاريخ السّوري في هذه المرحلة واحدة من أكثر لحظاته مفصليّة منذ عقود طويلة ، بعد سقوط النّظام السّابق واستلام الرّئيس أحمد الشّرع قيادة الدّولة ، في تزامن رمزي مع إلغاء قانون قيصر الذي شكّل طوال سنوات أحد أقسى أدوات الحصار والعزل الاقتصادي والسّياسي المفروضة على البلاد .
هذا التّحوّل المزدوج — السّياسي والاقتصادي — يعكس انتقال سوريا من منطق العقوبات والاحتكار إلى منطق الانفتاح والحوكمة والإصلاح ، ويطرح أسئلة جوهريّة حول شكل الدّولة المقبلة ، وإمكانات إعادة الإعمار ، وآفاق العدالة والمصالحة الوطنيّة في ظلّ المتغيرات الإقليميّة والدّوليّة .

أولاً : التّحوّل السّياسي وبناء الشّرعية الجّديدة

سقوط النظام السابق مثّل نهاية لمرحلة الحكم المركزي الأحادي، التي اتسمت بتغليب السلطة على الدّولة ، وبغياب المشاركة السّياسيّة الحقيقية.
تولّي الرّئيس أحمد الشّرع زمام القيادة جاء في سياق وطني توافقي ، استند إلى إرادة داخلية للتغيير السلمي المنظّم ، وإلى دعم إقليمي ودولي يرى في هذا الانتقال فرصة لإعادة دمج سوريا في منظومة الاستقرار الإقليمي.

الشرعية الجّديدة لا تُبنى فقط على إسقاط النظام القديم، بل على تأسيس عقد اجتماعي جديد، يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، ويرتكز على:

سيادة القانون وفصل السلطات.

حرية التعبير والمشاركة السياسية.

بناء مؤسسات مدنية مهنية تُدار بالكفاءة لا بالولاء.

وفي هذا السياق، تبرز أهمية إطلاق حوار وطني شامل يشمل القوى السياسية والمجتمعية كافة، بهدف صياغة دستور يعبّر عن هوية سوريا الحديثة، ويضمن الانتقال السلس نحو نظام ديمقراطي تعددي متوازن.

ثانياً : إلغاء قانون قيصر وتداعياته الاقتصادية

إلغاء قانون قيصر يُعدّ نقطة انعطاف استراتيجية في مسار الاقتصاد السوري، إذ يرفع أحد أبرز العوائق التي كبّلت قدرات البلاد على التعافي.
فالقانون لم يكن يستهدف فقط النظام السّابق ، بل شلّ قطاعات حيوية مثل الطّاقة ، المصارف، الإعمار، والتّعليم والصّحة، وأدى إلى انهيار الثّقة بالنظام المالي السّوري.

إن رفع القيود الاقتصادية الآن، بالتزامن مع استقرار سياسي نسبي، يتيح فرصًا واسعة أمام تحول هيكلي في الاقتصاد الوطني، يمكن تلخيص ملامحه في النقاط الآتية:

  1. استعادة الثقة الداخلية والخارجية عبر إعادة تفعيل النظام المصرفي، وإدماج سوريا تدريجيًا في النظام المالي الدولي.
  2. عودة رؤوس الأموال السورية المهاجرة بفضل مناخ سياسي مستقر وإصلاحات تشريعية.
  3. استقطاب استثمارات عربية وغربية في قطاعات البنية التحتيّة والطّاقة المتجدّدة والصّناعات الزّراعيّة.
  4. تحسين سعر العملة المحلّيّة وعودة النّشاط التّجاري ، ممّا يخفّف من معدّلات التّضخّم والفقر .

لكن هذا الانفتاح الاقتصادي لن ينجح دون إصلاح مؤسّساتي جذري يضمن الشّفافيّة والمساءلة ، ويكافح الفساد الإداري والمالي الذي كان من أبرز معوقات التّنمية في المرحلة السّابقة.

ثالثاً : العدالة الانتقاليّة والمصالحة الوطنيّة

أحد أعمدة المرحلة الجّديدة هو العدالة الانتقاليّة بوصفها الضّامن الأخلاقي والسّياسي لبناء الثّقة بين الدّولة والمجتمع .
فالتغيير السّياسي لا يكتمل دون معالجة إرث الانتهاكات السّابقة وردّ المظالم ، من خلال خطوات مدروسة تشمل :

كشف الحقيقة والمساءلة القانونيّة ضمن إطار وطني لا انتقامي.

تعويض المتضرّرين وإعادة دمجهم في المجتمع.

إصلاح الأجهزة الأمنيّة والقضائيّة لتكون خاضعة لرقابة مدنيّة.

إطلاق مبادرة “الذّاكرة والصّفح” لتوثيق التّجارب المؤلمة وتحويلها إلى طاقة وعي جماعي .

هذه المقاربة تضع أسس سلام اجتماعي مستدام ، يمنع تكرار العنف ويكرّس مفهوم المواطنة المتساوية.

رابعاً : السّياسة الخارجيّة وإعادة التّموضع الإقليمي

تولّي الرّئيس أحمد الشّرع السّلطة في مرحلة دوليّة مضطربة يجعل من السّياسة الخارجيّة ركيزة حاسمة في إعادة بناء الدّور السّوري .
المطلوب اليوم ليس الاصطفاف في محور ، بل انتهاج سياسة توازن ذكي تعيد لسوريا مكانتها كجسر بين الشّرق والغرب ، وكمركز استقرار لا ساحة صراع .

يمكن ملامسة هذا التّوجّه عبر :

إعادة تفعيل العلاقات مع الدّول العربيّة ضمن إطار الجامعة العربيّة ، وفتح قنوات تعاون اقتصادي وأمني .

إعادة هيكلة العلاقات مع روسيا وإيران على أساس المصالح المشتركة لا التّبعيّة .

فتح حوار متوازن مع الاتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدّة لتأمين الدّعم في إعادة الإعمار .

الانفتاح على المنظّمات الدّوليّة لإعادة إدماج سوريا في الاقتصاد العالمي .

خامساً : إعادة الإعمار والتّنمية البشريّة المستدامة

التّحدّي الأكبر أمام القيادة الجّديدة هو إعادة بناء الإنسان قبل الحجر .
فإعادة الإعمار لا تقتصر على ترميم المدن المدمّرة ، بل تشمل إعادة تأهيل البنية الاجتماعيّة ، والتّعليم ، والصّحة ، والثّقافة المدنيّة .

يتطلّب ذلك وضع خطّة وطنيّة للتنمية البشريّة المستدامة تستند إلى ثلاثة محاور :

  1. تمكين الشّباب والنّساء كمحرّك رئيسي للتنمية.
  2. تطوير التعليم المهني والتّقني بما يخدم اقتصاد المعرفة.
  3. بناء نظام صحي وبيئي متكامل يواكب معايير الحوكمة الحديثة .

بهذا المعنى ، تتحوّل التّنمية إلى أداة للسلام ، لا مجرّد مشروع اقتصادي ، وتغدو العدالة الاجتماعيّة جوهر العقد الوطني الجديد.

إن مرحلة ما بعد قيصر تمثّل ميلاد سوريا الجّديدة — دولة تتجه من الاستبداد إلى المشاركة ، ومن الحصار إلى الانفتاح ، ومن الانقسام إلى المصالحة .
قيادة الرّئيس أحمد الشّرع تُختبر اليوم بقدرتها على تحويل هذا التّحوُّل السّياسي إلى مشروع وطني جامع ، يحفظ الكرامة ، ويستعيد الثّقة ، ويؤسّس لاقتصاد إنتاجي مزدهر .

إن مستقبل سوريا لن يُبنى فقط بإلغاء القوانين المقيدة ، بل بإحياء روح المواطنة والعدالة ، وإطلاق مشروع حضاري يستعيد مكانة البلاد في محيطها العربي والإنساني .
وإذا نجحت القيادة الجّديدة في تحقيق هذا التّوازن بين الحرية والاستقرار ، فستدخل سوريا القرن الحادي والعشرين من أوسع أبوابه — دولة مدنيّة قويّة ، متصالحة مع ذاتها ، وفاعلة في محيطها الإقليمي والدّولي .
د. خالد الخالد
10/10/2025

عكـس الاتّـجاه نيـوز
الحقيقـة الكاملـة
معــاً نصنع إعـلاماً جـديداً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى