منبر الفلاسفة صار مسرحاً للتهريج هذا ليس عصرنا

بقلم محمد ضياء الدين بديوي رئيس تحرير عكس الاتجاه نيوز ومستشار إبداعي في الشؤون الإعلامية والرمزية
عصر التّفاهة وتغييب العقل حين يُقصى الفكر ويُحتفى بالفراغ
ففي زمن كانت فيه العقول تُصاغ في محراب الحكمة وكانت الكلمة تُحمل كأمانة أصبح الضجيج هو المعيار والتفاهة هي العملة الأكثر تداولًا لم نعد نُكرم من يُنير بل من يُثير لم يعد يُحتفى بالمعلم أو الفيلسوف أو الصحفي الاستقصائي بل بمن يُسمى زوراً صانع محتوى دون أن يعرف عن أي محتوى يُنتج أو أي قيمة يُضيف هذا التحول ليس مجرد تغير في الذوق العام بل هو انهيار في البنية القيمية التي كانت تحكم المجتمعات المتحضرة
التحول القيمي من التنوير إلى التهريج
في كتابه نظام التفاهة يُحلل آلان دونو كيف أصبحت المجتمعات الحديثة تُكافئ الرداءة وتُقصي العمق حيث يُستبدل المثقف بصاحب الشعبية ويُستبدل التحليل بالانفعال ويُستبدل المعنى بالترند هذا التحول يُعيد إنتاج منطق السوق داخل الثقافة حيث يُقاس النجاح بعدد المتابعين لا بجودة الفكرة ويُكافأ من يُثير الجدل لا من يُنتج المعرفة
فالتفاهة البصرية العري كأداة جذب لا كقضية تحرر
و في قلب هذا الانحدار تبرز ظاهرة العري المُفرط على المنصات الرقمية حيث يُستخدم الجسد كوسيلة تسويقية لا كقضية تحرر أو تعبير فني ما يُعرض اليوم لا يُمثل تمرداًعلى القمع بل خضوعاً لمنطق السوق الذي يُكافئ الإثارة ويُقصي المعنى
تشير دراسة نُشرت في مجلة الاتصال عام ألفين وواحد وعشرين إلى أن المحتوى الجنسي يُعيد إنتاج الصور النمطية للمرأة كجسد قابل للاستهلاك مما يُضعف حضورها الفكري والاجتماعي
أما بحث صادر عن جامعة كامبريدج عام ألفين وعشرين فيُبين أن التعرض المُستمر للعري غير السياقي يُعيد تشكيل مفاهيم الجمال والنجاح والعلاقات ويُضعف الحس النقدي تجاه القيم الأخلاقية
وتُحذر الجمعية الأمريكية لعلم النفس في تقريرها لعام ألفين واثنين وعشرين من ارتباط استهلاك المحتوى الجنسي بارتفاع القلق وتدني احترام الذات خاصة لدى الفتيات في سن المراهقة
حين يُصبح الجسد هو الرسالة يُقصى العقل من الحوار وتُختزل الذات في سطحها
تغييب الفكر النقدي من التبعية إلى الانقراض المعرفي
الفكر النقدي ليس ترفاً فلسفيّاً بل هو آلية دفاع حضارية ضد الانحدار تجاهله يُنتج نمطاً من الإنسان المُستهلك لا المُفكر ويُضعف مناعته الأخلاقية والمعرفية
على مستوى الفرد يُصبح الإنسان تابعاً للخطاب السائد دون مساءلة ويَفقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والدعاية مما يُؤدي إلى تبلد إدراكي وقرارات شخصية هشة كما تتآكل مناعته الأخلاقية تدريجيًا فيَتبنى سلوكيات منحرفة دون وعي نتيجة تطبيع المحتوى الهابط
على مستوى المجتمع تتفشى التفاهة ويُقصى أصحاب الرسالة وتَغيب المساءلة الواعية مما يُضعف الديمقراطية ويُحول النقاش العام إلى استعراض شعبوي التعليم الحقيقي يتراجع ويُنتج حفظة لا مفكرين وتُهمش أدوات التحليل
أما على مستوى الحضارة فإن تغييب العقل يُفضي إلى تكرار أخطاء التاريخ وانطفاء الإبداع وفقدان الهوية الثقافية الأمم التي لا تُحلل ماضيها تُعيد إنتاجه والمجتمعات التي تُقصي العقل تُمهّد لانهيارها الداخلي
دروس من التاريخ حين يُقصى العقل تنهار الأمم
في دراسة مقارنة نُشرت في مجلة التاريخ والنظرية عام ألفين وتسعة عشر تم تحليل أسباب سقوط الحضارات الكبرى وتَبين أن تهميش النخبة الفكرية وتقديس اللهو وتراجع التعليم كانت عوامل مشتركة في كل الانهيارات
سقوط الأندلس لم يكن فقط عسكريّاً بل سبقه تراجع في التعليم وتفكك في البنية القيمية وتهميش للعلماء لصالح أصحاب النفوذ
روما لم تَسقط فجأة بل تآكلت تدريجيّاً حين تحول المسرح من منصة فلسفة إلى ساحة تهريج وحين أصبح الشعب يُطالب بالخبز والفرجة لا بالعدالة والمعرفة
ويُحذر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس من أن المجتمعات التي تُقصي الفضاء العام العقلاني تُمهّد لانهيار الديمقراطية وتُحول المواطن إلى مُستهلك لا فاعل سياسي
خاتمة بين البقاء والانقراض
إن لم نُعد الاعتبار للعقل فسنُسلم أنفسنا لزمن يُصفق فيه الجميع بينما ينهار كل شيء خلف الستار الخيار ليس بين التفاهة والعمق فحسب بل بين البقاء والانقراض الحضاري
الفكر النقدي ليس ترفاً فلسفيّاً بل هو شرط وجودي لأي مجتمع يُريد أن يبقى حيّاً واعيّاً ومُحصنًا من الانحدار
عكـس الاتّـجاه نيـوز
الحقيقـة الكاملـة
معــاً نصنع إعـلاماً جـديداً