مقالات

من سقراط إلى صانع المحتوى كيف إنهارت القيم

بقلم محمد ضياء الدّين بديوي رئيس تحرير عكس الاتّجاه نيوز و مستشار إبداعي في الشّؤون الإعلاميّة و الرّمزيّة

في زمنٍ كان فيه سقراط يحاكم لأنه علم الشباب كيف يفكرون أصبح من يرقص على سطح سيارة يكرم لأنه كسر الروتين
زمن كانت فيه الفلسفة تناقش في الساحات أصبح فيه الترند يصنع في الحمامات
نحن لا نعيش عصراً تافهاً فحسب بل نعيش عصراً تكرس فيه التّفاهة كقيمة اجتماعية ويقصى فيه العقل ويحتفى بالفراغ

حين صار الجهل نجومية والعقل جريمة
لم يعد يطلب من الإنسان أن يفكر بل أن يثير
لم يعد يكافأ من ينتج معرفة بل من ينتج ضجيجًا
صانع المحتوى اليوم لا يحتاج إلى فكرة بل إلى كاميرا وشيء من العري وعبارة بذيئة تشعل التعليقات

وهكذا يتحوّل الجسد إلى منصة وتختزل الذات في سطحها وتستبدل الرسالة بالإيحاء والوعي بالإثارة

ضمير الفلاسفة صار مسرحاً للتهريج
كان المسرح في أثينا يناقش العدالة واليوم يناقش من الأفضل في تحدي الأكل السريع
كان سقراط يسأل عن معنى الفضيلة واليوم يسأل صانع المحتوى عن عدد عمليات التجميل التي أجراها
المنصات التي كان يفترض أن تكون امتداداً للوعي تحوّلت إلى ساحات استعراض للابتذال حيث يكافأ من يظهر أكثر لا من يفكر أعمق

حضارة تستهلك جسد المرأة وتقصي فكرها
ما يعرض اليوم من محتوى لا يحرر المرأة بل يعيد إنتاجها كسلعة
العري المفرط والإيحاءات الجنسية لا تعبر عن تمرد بل عن خضوع لمنطق السوق الذي يكافئ الإثارة ويقصي المعنى
المرأة تستخدم كأداة جذب لا كفاعل فكري ويعاد تشكيل وعي المراهقين على أن الجمال يقاس بالمتابعة لا بالمعرفة

زمن الترند لا يقرأ ولا يفكر
في هذا الزمن لا أحد يسأل ما الفكرة بل كم عدد المشاهدات
لا أحد يكافئ من ينير بل من يثير
الترند أصبح معياراً لنجاح حتى لو كان قائمًا على البذاءة أو على تحديات تهين الكرامة الإنسانية
وهكذا يستبدل النقاش بالاستعراض ويستبدل العمق بالضحك القصير ويستبدل الإنسان بالمؤثر

من نخبة الفكر إلى نخبة الضجيج
كان يقال إن النخبة تصنع التاريخ واليوم يقال إن المؤثر يصنع الترند
لكن الترند لا يبني حضارة ولا ينتج معرفة ولا يحصن مجتمعًا من الانهيار
إنه فقط يلهي يشتت ويعيد إنتاج التفاهة كقيمة مركزية

أمة بلا فكر نقدي تسير نحو الهاوية بابتسامة رقمية
حين يقصى العقل تنهار الأمم من الداخل
حين يستبدل التعليم بالتحديات الفارغة تنتج المجتمعات حفظة لا مفكرين
وحين يكرم من يرقص ويهمش من يفكر فإننا لا نعيش فقط أزمة أخلاقية بل بداية انقراض حضاري

لا تضحك
هذا ليس عصرنا
هذا عصر من يصرخ أكثر لا من يفكر أعمق
هذا عصر من يظهر أكثر لا من ينير أكثر
وإذا لم نعد الاعتبار للعقل فسنُسلم أنفسنا لزمن يصفق فيه الجميع بينما ينهار كل شيء خلف الستار

عكـس الاتّـجاه نيـوز
الحقيقـة الكاملـة
معــاً نصنع إعـلاماً جـديداً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى