الدولة الفلسطينية تقوم تلقائياً بعد التحرير
أنيس فوزي قاسم
في وسط هذه المحرقة التي تلتهم أهلنا في غزة وتقطع أنفاسنا، يخرج علينا بعض المترفين البلهاء بمقولة إنه لا بدّ من منح الفلسطينيين «دولة»، والمثير للشك ان يتبنى هذه الدعوى فجأة زعيم الإمبريالية العالمية السيد جو بايدن، ويسايره في ذلك وزير خارجية بريطانيا دافيد كاميرون. كيف ولماذا اكتشف هؤلاء «الأسياد» هذه الدولة؟ وهل طرح هذا الاقتراح وسط المحرقة، صرفاً للانتباه عن جريمة الإبادة التي تجري بسلاح وطائرات أمريكية وبريطانية؟ إنه طرح مشبوه!
إنه ـ تاريخياً- طرح مشبوه حقاً منذ أن أعلنه ياسر عرفات، فقد رأى أبو عمار أنه غير قادر على «تحرير» الأرض، فراح يتلطى خلف شعار «الدولة»، وأعلن عن قيام تلك «الدولة العتيدة» من الجزائر، مستغلاً تاريخ النضال المشرّف لأهلنا في الجزائر. ومن المثير للانتباه والاستغراب أن قام قادتنا الكرام بعد إعلان «قيام الدولة» من قبل أبو عمار بعناق بعضهم بعضاً مهنئين بـ»الدولة» التي لم تغادر «طائرة أبو عمار». وربما لم ينتبه أحد، أو ربما انتبه البعض من هؤلاء الكرام، أن أبو عمار قد مرّر في ذلك الاعلان قبوله بالقرار الأممي (242) توطئة لدخول «بيت الطاعة الأمريكي». وحين دخل بيت الطاعة ذاك، بدأ مسلسل التنازلات، حيث أعلن من باريس في العام التالي لإعلان «الدولة»، إن الميثاق الوطني أصبح «كادوك»، اي عفا عليه الزمن. ثم دخل إلى نفق أوسلو، حيث أعلن اعترافه ليس بإسرائيل، بل بـ»حق» إسرائيل في الوجود، ومضى استسلامه حيث وقّع على مسلسل أوسلو، الذي على الأرجح لم يقرأه ولا من حوله من مستشارين، قبل ان يوقعه، وسلّم راية الاستسلام إلى خليفته الذي كان أول مهندسي أوسلو، وما زال أبو مازن يكرر مقولة «الدولة الفلسطينية» ولكنه يبحث عمن يقدم الحماية لها تحت شعار «احمونا»!
إن إنجاز التحرير ودحر المستوطنين هما القضية الوطنية، التي لا يعلو عليها أي مطلب، إذا أنجز شعبنا قضية التحرير فإن الدولة تأتي تحبو على قدميها
ويجب أن نستذكر ما روّجته القيادة الفلسطينية لتسويق أوسلو من أن «الدولة» هي في نهاية نفق أوسلو. ولو راجعنا اتفاقيات أوسلو جميعها والمرفقات والخرائط ومحاضر الاجتماعات المرفقة بها لا نعثر على كلمة «دولة»، مجرد ذكر. ومع ذلك، استمرت القيادة في الحديث عن «الدولة» التي هي، حسب قول القيادة «مفهومة ضمناً» في نهاية المرحلة الانتقالية. ولكن لم تشرح لنا القيادة أين تقع هذه «الدولة» في سطور أوسلو. ومضى زمن غرق فيه الباحثون عن المقارنة بين حلّ الدولتين، أو الدولة الواحدة، وأن الأولى أقرب إلى التحقيق من الثانية، إذ أن الدولة الواحدة تعني تفكيك الصهيونية، وهو بلا شك أقرب إلى تطهير العالم من أيديولوجية عنصرية أقسى وأشد أذى من أيديولوجية الحزب الاشتراكي النازي، وهذه عملية صعبة ومعقدة باعتبار أنها عقيدة مكرسة في خدمة الإمبريالية العالمية، وهذا مناط بقائها. ولا أقصد هنا التقليل من أهمية المفاضلة الأكاديمية بين الفريقين، وقد قدما أطروحات غاية في الذكاء والتفكير العميق.
ومنذ اندلاع محرقة غزة، أعيد إحياء حلّ «الدولة الفلسطينية» من جديد، إلاّ أنه إحياء مشبوه جداً ومضلل إلى درجة كبيرة، حيث إنه ورد على يد رموز الإمبريالية العالمية، ما يجعل الأمر برمته تحت طائلة الشك. فمنذ متى تسعى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إلى مصلحة الشعب الفلسطيني؟ ومنذ متى يجرؤ الاتحاد الأوروبي على طرح مشاريع خاصة بالقضية الفلسطينية خارج الإطار الأمريكي؟ وازدادت حميّة الولايات المتحدة لطرح مشروع الدولة الفلسطينية أثناء محاولاتها ما تطلق عليه تضليلاً، اسم «التطبيع» بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، أي هي رشوة و»جرّ رجل» المملكة إلى مستنقع التطبيع ـ والتطبيع في الواقع هو التعريف المهذب لخلق واقع «السيطرة» الصهيونية. وإذا نظرنا إلى الخريطة السياسية في إسرائيل، نجد أن هناك شبه إجماع على المعارضة الصريحة والقوية، لفكرة إنشاء دولة فلسطينية. إن الإسرائيليين يعتبرون إنشاء مثل هذه الدولة يشكل خطراً أمنياً ووجودياً على إسرائيل، فضلاً عن أن قيام دولة فلسطينية سوف يكبح جماح التوسع والتمدد الصهيوني في الإقليم المحيط. والمقولة الإسرائيلية التي يرددونها في معارضة قيام دولة فلسطينية بلا ملل وبلا شرح هي «الأمن»، وهي الهاجس الذي يهيمن على عقل وتفكير وأحلام كل حركات الاستيطان الاستعماري. إن تفتيت فلسطين إلى ضفة غربية ممزقة بالمستوطنات، والقدس التي يجري تهويدها بسرعة هائلة، وقطاع غزة الذي يجري تدميره ومحاولات مسمومة لتهجير سكانه، أو تصفيته بالطائرات إن قاوم التهجير، هي جزء من مخطط «الأمن» الصهيوني، حتى إن اتفاقيات أوسلو تم تصميمها لتحويل الثوار إلى أجهزة أمن تحمي المستوطنات والمستوطنين، وهو ما نشاهده حالياً في ما تقوم به سلطة أوسلو وأجهزتها الأمنية.
فعن أي دولة أو دولتين يتحدث هؤلاء السادة الإمبرياليون؟ إن النفاق الأنكلوأمريكي بلغ مدى هزلياً، إذ أن ديفيد كاميرون وزير خارجية الاستعمار البريطاني يقترح دولة فلسطينية «منزوعة السلاح»، على غرار ما جرى في الضفة الغربية، في ظل حكم أبو مازن، وفي الوقت نفسه تقوم بريطانيا حالياً بتزويد إسرائيل بكل أنواع أدوات التدمير والقتل لشعب غزة، وطائرات النقل الإسرائيلية، لا تتوقف عن الإقلاع والعودة إلى مطارات بريطانية من قاعدتها في أكروتيري، في جزيرة قبرص، ومطارات بير السبع العسكرية. وهذا التنقل هو إضافة للجسر الجوي والجسر البحري بين الولايات المتحدة والقواعد العسكرية الإسرائيلية. وهل يعتقد السيد ديفيد كاميرون أنه بعد ان شاهد الفلسطيني درجة التوحش، بل الهمجية التي يتصف بها الإسرائيلي في قطاع غزة يمكن أن يقبل بالإقامة في دولة منزوعة السلاح؟ وأظن ان المنطق يفرض على الفلسطيني بعد محرقة غزة أن يضاعف تسليحه. إن أعمال الإبادة، التي ما زال يباشرها المستوطنون الصهاينة تجعل من إقامة الدولة فكرة سخيفة.
وتثور ثائرة بعض الصهاينة المسيحيين واليهود (وربما بعض المسلمين) على حدٍّ سواء، حين يرفع المتظاهرون في مدن العالم شعار «من النهر إلى البحر، ستكون فلسطين حرّة»، ولكن حين رفعت منظمة التحرير الفلسطينية شعار إقامة دولة فلسطينية على حدود حزيران/يونيو عام 1967، لم يرق لهم ذلك، وراحوا يفاوضون، مرة على مبادلة أراضٍ، وأخرى على الإبقاء على المستوطنات. ثم راحت إسرائيل تبني مستوطناتها في داخل الأراضي المحتلة، ما يعني أن إسرائيل رفضت حتى إبقاء الأراضي المحتلة للفلسطينيين. فإذا رفضت إسرائيل ذلك العرض لماذا يلام الفلسطينيون إن سحبوا عرضهم بإقامة دولتهم في الأراضي المحتلة وطالبوا الآن بكامل الأرض التاريخية من النهر إلى البحر؟
وخلال هذه المناظرات، أين يقترح شيوخ الإمبريالية إقامة الدولة العتيدة؟ إن الهم الأكبر والطلب الأكثر إلحاحاً هو التحرير وليس قيام الدولة. إن إنجاز التحرير ودحر المستوطنين هما القضية الوطنية، التي لا يعلو عليها أي مطلب، إذا أنجز شعبنا قضية التحرير، فإن الدولة تأتي تحبو على قدميها. وهل أنجز اهلنا في الجزائر إنشاء دولتهم قبل إنجاز التحرير؟
محام وكاتب فلسطيني