مقالات

تصريحات بايدن: الخلفيات والغايات

حيّان نيّوف

  15/12/2023

شكّلت التصريحات المفاجئة التي أطلقها الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرًا مادة إعلامية دسمة لجميع وسائل الاعلام الأمريكية والعالمية على أساس أنها المرّة الأولى التي تنتقد فيها واشنطن وعلى لسان رأس هرم السلطة فيها حليفها الأول بلا منازع، ونقصد الكيان الصهيوني ممثلًا برئيس حكومته نتنياهو، وذلك منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الفائت.

أبرز ما قاله بايدن:

. “إسرائيل” تقصف قطاع غزة بشكل عشوائي، وذلك أفقدها دعم دول العالم.
. نتنياهو صديق جيد لكن أعتقد أن عليه أن يتغير، ومع هذه الحكومة في “إسرائيل” يصعب عليه التحرك.
. وزير “الأمن القومي الإسرائيلي” إيتمار بن غفير ورفاقه لا يريدون أي شيء يقترب ولو من بعيد من حل الدولتين.. إنهم يريدون فقط الانتقام.
. طلبت من الكونجرس مزيدًا من الدعم لـ”إسرائيل”.
. يجب أن يفهم نتنياهو أن عليه القيام ببعض التحركات لتعزيز السلطة الفلسطينية.
. لا يمكن لنتنياهو القول إنه لا توجد دولة فلسطينية على الإطلاق في المستقبل.
. العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية معقدة فى الوقت الراهن.
. الولايات المتحدة ملتزمة بمساعدة “إسرائيل” حتى تُهزم حماس.
. علينا أن نكون حذرين، فالرأي العام العالمى كلّه يمكن أن يتغير بين عشيّة وضحاها.
. الولايات المتحدة ستواصل العمل من أجل تحرير “الرهائن” الذين ما زالوا محتجزين فى غزة، وتسريع تقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين.

* من حيث الشكل

التمعّن في تصريحات بايدن يوحي بأنه يريد التقدم خطوة الى الأمام والتراجع خطوة الى الخلف. فهو يبدو كمن يريد إيصال موقف أو رسالة من دون أن يمسّ بجوهر سياساته المؤيدة بالمطلق للكيان الصهيويي. وهذا يبدو واضحًا بالنظر إلى تفاصيل تصريحاته، فهو ينتقد نتنياهو بشدّة ثم يصفه بالصديق، وينتقد تماديه بالقصف العشوائي ثم يبدي التزامه بالتخلص من حماس، وينتقد حكومته اليمينيّة ويبدي استعداده لتقديم مزيد من الدعم لـ”إسرائيل”.

إذًا كلام بايدن هو كلام المرتبط عضوًيا وجوهريًا بصهيونيّته، والباحث عن تحقيق أهداف خفيّة لاستراتيجيته.

* سرّ التوقيت

بالنظر إلى التوقيت الذي أطلق فيه بايدن تصريحاته؛ فإنه يمكن ملاحظة الآتي:

. جاءت تصريحات بايدن بعيد احتفاله مع الحاخامات اليهود بعيد الأنوار اليهودي، وكأن بايدن أراد أولًا تثبيت ولائه للصهيونية واليهود و”إسرائيل” قبل أن يجرؤ على إطلاق تصريحاته.
. صدرت تصريحات بايدن بُعيد إطلاق حملة للضغط بدأتها إدارة بايدن على لسان الرئيس ووزيري الحرب والخارجية لإقناع الكونغرس بتمرير قرار تمويل وتقديم المساعدات لأوكرانيا، وسبق للجمهوريين في الكونغرس أن مرّروا في السابق قرارًا لدعم “اسرائيل” لا يتضمن دعمًا لأوكرانيا كما كان يطالب الديمقراطيون.
. تزامنت تصريحات بايدن مع وصول الرئيس الأوكراني زيلينسكي لواشنطن بناء على استدعاء من بايدن للمشاركة في حملة الضغط التي تمارسها إدارته للحصول على موافقة الكونغرس لتخصيص الدعم اللازم لأوكرانيا.
. أعقبت التصريحات فَشَل إدارة بايدن في تسويق الخطة البديلة المتمثلة بمشروع “حلّ الدولتين”، على الرغم من حشد التأييد لها من حلفاء واشنطن الإقليميين والدوليين، وذلك بعد رفض حكومة نتنياهو لهذه الخطة.
. جاءت التصريحات مع دخول عاملين ميدانيين بشكل مباشر على خط المواجهة، وهما العامل العراقي المتمثل بالهجمات المتزايدة كمًّا ونوعًا التي تنفذها المقاومة العراقية ضد قواعد الإحتلال الأمريكي في العراق وسورية، والعامل اليمني المتمثل باغلاق البحر الأحمر بوجه السفن المتعاملة مع الكيان الصهيوني.
. صدرت تصريحات بايدن مع اتساع وتيرة الضغط الذي تتعرض له إدارته داخليًا وخارجيًا بسبب الموقف من الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة.

* من حيث المضمون

استنادًا إلى التوقيت والعوامل التي رافقت تصريحات بايدن، يمكن تحليل الخلفيات التي تقف وراء تلك التصريحات والغايات التي تسعى إدارة بايدن لتحقيقها، ويمكن حصر ذلك في أربعة محاور رئيسة:

المحور الأول – أمن “إسرائيل”
تعتقد واشنطن أن استمرار الحرب على غزة سيؤدي حكمًا الى اتساع المعركة بفعل التفلّت والتفرّد الذي يمارسه قادة اليمين المتطرف الأعضاء في حكومة نتنياهو، وأكثر ما تخشاه واشنطن هو اتساع المعركة باتجاه الضفة الغربية ولبنان وسورية، وهو ما سيؤدي بنظرها إلى تشكيل خطر وجودي على الكيان الصهيوني المأزوم أصلًا بفعل طوفان الأقصى.

المحور الثاني – النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط
ترى واشنطن بأن الموقف المتصاعد لكل من اليمن والمقاومة العراقية سيؤدي بالنهاية الى تثبيت معادلة إخراج الأميركي من الإقليم، وهذا التثبيت سيّفرض ميدانيًا وسياسيًا في حال استمرار العدوان الصهيوني على غزة وغياب الأفق السياسي لوقف العدوان، وهو ما يعني بالنهاية ضرب النفوذ الأمريكي في الإقليم الأكثر أهمية لواشنطن في ظل الصراع الجيوسياسي العالمي.

المحور الثالث – سمعة الولايات المتحدة
قدمت واشنطن نفسها طوال المراحل الأولى للعدوان على غزة كقائد فعلي للمعركة سياسيًا وعسكريًا، وأرسلت بوارجها وحاملات طائراتها وقوات المارينز وأقامت جسورًا جوية وبحرية لإيصال السلاح والذخيرة إلى جيش الاحتلال الصهيوني ورفضت مرارًا وقف إطلاق النار، وأسقطت مشروعين في مجلس الأمن الدولي لوقف الحرب، وكل ذلك في ظل التدمير والقتل والحصار والتجويع الممارس على الفلسطينيين في غزة، وهو ما انعكس سلبًا على إدارة بايدن وعلى سمعتها داخليًا وخارجيًا إلى الحد الذي لم يعد بمقدورها التغطية عليه. ولذلك فإن تصريحات بايدن جاءت في سياق التضليل السياسي والإعلامي لنزع التهمة عن إدارته وتحميلها للمتطرفين داخل حكومة نتنياهو بحسب زعمه، وفي محاولة لتبرئة بلاده من المجازر التي ارتكبت بحق غزة وأهلها.

المحور الرابع – مساعدة أوكرانيا
تدرك إدارة بايدن بأن الهزيمة في أوكرانيا باتت حتمية، وتعتقد أن باستطاعتها تأخيرها عبر توفير الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا بما يحقق لها هامشًا جديدًا للمناورة السياسية في أي حل أو مفاوضات قادمة..

ولأن الجمهوريين يشكلون العقبة الرئيسة في إقرار هذا الدعم عبر الكونغرس، وبما أن الجمهوريين يؤيدون بالمطلق اليمين الإسرائيلي، فقد اختارت إدارة بايدن وتزامنًا مع إطلاق حملتها للضغط على الجمهوريين في الكونغرس لتأمين الدعم لأوكرانيا، اختارت الضغط على اليمين الإسرائيلي حليف الجمهوريين ظنًا منها بأن ذلك يمكن أن يدفع بالجمهوريين إلى تمرير الدعم لأوكرانيا بالتوازي مع تمريره للكيان الصهيوني، عبر الضغط على اليمين الإسرائيلي في محاولة لدفعه لإقناع الجمهوريين بذلك.

أخيرًا؛ لا يشكّ عاقل بأن الجمهوريين والديمقراطيين على خلاف لجهة الدعم المطلق للكيان الصهيوني، وإن اختلفت السياسات فالإستراتيجية واحدة من حيث الهدف، وكذلك الأمر بالنسبة إلى القوى والأحزاب في داخل الكيان الصهيوني، فجميعها بالمحصلة متطرفة وتسعى لابتلاع فلسطين بالكامل وما بعد حدود فلسطين، وإن اختلفت سياساتها واستراتيجياتها المتفقة بالأهداف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى