التطبيع أَولى من دعم الفلسطينيين.. تركيا تعتصم بـ”الحيلة الأوكرانية”:
محمد نور الدين
فيما كانت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة تسطّر واحدة من أروع ملاحم المجد في التاريخ العربي والإسلامي والفلسطيني الحديث، ضُبطت تركيا الرسمية بالجرم المشهود. ففي يوم التجديد له زعيماً لـ”حزب العدالة والتنمية”، أول من أمس، ساوى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بين “الذئب الصهيوني” و”الحمل الفلسطيني”، مختاراً مواصلة الانحياز إلى جانب القاتل على حساب الضحية. لم ينتهز إردوغان فرصة التجديد له، وهو منتهز فرصٍ بامتياز، لاكتساب قلوب الشعب الفلسطيني والعربي والمسلمين عموماً، بل حاول أن يتذاكى، وأن يكرّر الموقف من الحرب في أوكرانيا، بالوقوف على “الحياد” بين فلسطين والعدوّ، علماً أن المقارنة بين الحالتَين الأوكرانية والفلسطينية غير واقعية وغير منطقية. ومع ذلك، وقف الزعيم التركي أمام أكثر من 1500 مندوب في المؤتمر العام السابع لـ”العدالة والتنمية”، داعياً “الأطراف” إلى “الاعتدال، والامتناع عن اتّخاذ خطوات انفعالية تُصعّد من التوتّر”. لم يقف إردوغان إلى جانب الضحية، ولم يُشِر إلى القاتل الذي يأكل أراضي فلسطين كل يوم، منذ أكثر من 75 عاماً، بالمستعمرات، والذي يزجّ في سجونه بآلاف المعتقلين، ويحتفظ بجثامين المئات من الأسرى الشهداء.غابت عبارات “الأخوّة” عن الفلسطينيين، شأنها شأن مصطلحات “القاتل والإرهابي وغيرهما” التي كان يحلو لإردوغان أن يصف بها الإسرائيليين أحياناً؛ ولم يجد ما يقوله سوى كلمة “توتّر”، بعدما أصبحت المقاومة الفلسطينية للمحتلّ، من منظوره، خروجاً عن “الاعتدال”. اختار إردوغان، رئيس الدولة المسلمة الأولى التي اعترفت بالكيان الصهيوني عام 1949، استكمال مسار التطبيع مع العدو الإسرائيلي الذي بدأ قبل سنتَين، من أجل كسْب ودّ رأس المال اليهودي، ومساعدة الاقتصاد التركي على النهوض، وحتى لا يخسر هو أكثر من رصيده الشعبي. مسارٌ كان قد انطلق بزيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحق هرتسوغ، له في قصره السلجوقي في أنقرة، على وقع خبب الأحصنة التي ترفرف فوقها أعلام العدو. وأكمل إردوغان التطبيع بمواقف مخزية، وخصوصاً عندما وصف، في أكثر من مناسبة، عمليّات المقاومة في الضفة بأنها “إرهابية وشنيعة”. وقبل أيام فقط، كان إردوغان يجتمع، في نيويورك، في “البيت التركي” تحديداً”، برئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو. وفي طريق العودة، كان يتحدّث متباهياً عن التعاون والتنسيق مع إسرائيل في مجال التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، والعمل على تصدير الغاز الإسرائيلي عبر أنبوب تحت البحر من قبالة إسرائيل إلى ميناء جيحان في تركيا ومنها إلى أوروبا.أمّا وزارة الخارجية التركية، فلم تخرج في بيانها الذي تأخّرت في إصداره حتى مساء السبت، عن السقف الذي وضعه إردوغان، وعن وضع “شاهد ما شافش حاجة”. فوصفت ما جرى، بـ”التوتّر والعنف في فلسطين وإسرائيل”، معربةً عن “قلقها” إزاء ذلك؛ إذ قالت إن “الهدوء في المنطقة أمر مهمّ جدّاً”. كما دانت بشدّة “الخسائر في الأرواح المدنية”، داعيةً إلى الامتناع عن اتّخاذ خطوات تصعّد التوتّر، ومعربةً أيضاً عن استعداد تركيا للتحرّك مع كل الأطراف قبل توسُّع التوتّر.من جهته، كرّر الناطق باسم “العدالة والتنمية”، عمر تشيليك، معزوفة الدعوة إلى “الاعتدال”، فدان أولاً الخسائر في صفوف المدنيين، من دون أن يحدّد هويتهم، ودعا الجميع إلى “البقاء بعيداً من العنف، لأن الاعتدال مهمّ”.غابت عبارات “الأخوّة” عن الفلسطينيين، شأنها شأن مصطلحات “القاتل والإرهابي وغيرهما” التي كان يحلو لإردوغان أن يصف بها الإسرائيليين أحياناًولعلّ ما يلفت في بعض ردود الفعل التركية، أن التيار الإسلامي كان الأكثر “حيادية” في الموقف ممّا يجري، علماً أن الحقبات الأكثر ازدهاراً لجهة العلاقات مع إسرائيل كانت في عهود توصف بأنها “إسلامية” الطابع، مِن مِثل عهد عدنان مندريس في الخمسينيات، وطورغوت أوزال في الثمانينيات، وصولاً إلى حقبة “العدالة والتنمية”. فحتى علي باباجان، زعيم “حزب الديموقراطية والتقدّم” الصغير، والذي انشقّ سابقاً عن إردوغان، كرّر حرفيّاً مفردات هذا الأخير، من خلال وصْفه ما جرى في قطاع غزة بـ”التوتر”، ودعوته هو أيضاً إلى “الاعتدال والامتناع عن اتخاذ خطوات تصعيدية”.في المقابل، كان زعيم “حزب الشعب الجمهوري”، كمال كيليتشدار أوغلو، الأكثر وضوحاً وتأييداً للشعب الفلسطيني، عندما قال إن “فلسطين بلد يبحث عن حقوقه. نحن دائماً إلى جانب الشعب الفلسطيني. نحن لا نريد الحرب أساساً، وعلى المؤسّسات الدولية أن تتدخّل وتفرض السلام وتسلّم بحقوق فلسطين”.بدوره، أبدى أحمد داود أوغلو دعمه “اليوم وغداً وكما في الأمس، للمقاومة المحقّة لإخوتنا الفلسطينيين الذين تركهم العالم الاسلامي لمصيرهم”، داعياً إلى رفع الحصار عن غزة والعمل على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة.في الإطار نفسه، بدت لافتةً قلّة التعليقات على “طوفان الأقصى”، حيث انشغلت معظم الصحف بالتجديد لإردوغان على رأس “العدالة والتنمية”، أو بتطوّرات العملية العسكرية في سوريا. حتى إن بعض الصحف الموالية جدّاً للرئيس التركي، كتبت في عناوينها الرئيسة ما يعكس موقفاً حياديّاً، مِن مثل صحيفة “تركيا” التي عنونت: “الصدام بين فلسطين وإسرائيل يتحوّل إلى حرب: الشرق الأوسط بحيرة دم”، فيما عنونت “حرييات”: “العالم في صدمة. الشرق الأوسط يتحوّل إلى جهنّم”. كما لم يتردّد أحمد حاقان، في “حرييات”، بالقول إن “العالم كما يرفض قتل إسرائيل للمدنيين، كذلك فإن منظر المدنيين الإسرائيليين الذين قتلوا على يد حماس أمر مدان ومرفوض”، متسائلاً: “هل الوقوف على الحياد ممّا يجري أمر صعب؟”.ووفق الكاتب المعروف، إيلنور تشيفيق، فإن “إسرائيل ضُبطت نائمة، والاستخبارات الأقوى في الشرق الأوسط مفلسة”، وإن “الدولة اليهودية في صدمة، لكنها للأسف ستستجمع قوّتها من جديد وتضرب بشكل شديد. فحماس، مهما كانت قوّتها، لن تستطيع الصمود حتى النهاية. والإسرائيليون يريدون بعد رؤية أسراهم وقتلاهم في الشوارع الردّ بأقصى طاقة. مع ذلك، فإن ما قامت به حماس كان كبيراً جدّاً لجهة السريّة والتنسيق، والدور الآن على الداخل الإسرائيلي الذي سينفجر في وجه استخباراته”. أمّا فهمي قورو، فقال إن “إسرائيل ضُربت من حيث لم تتوقّع، وهي الضربة الأقسى منذ حرب 1973″، معتبراً أن “كل شيء كان يسير وفق ما تريده إسرائيل من التطبيع مع العرب، وآخرها الخطوات مع السعودية، ومحاصرة غزة وغير ذلك، إلى أن حصل الهجوم من غزة وبدت القبّة الحديدية بلا معنى. وبدت إسرائيل في عجز مدهش”. ورأى أنه “مهما يكن الردّ، فإن إسرائيل لن تعود كما كانت. وستترك الحرب أثرها على السياسة الإسرائيلية”. لكنه اعتبر أيضاً أن “مكاسب الفلسطينيين غير واضحة، فمعظم دول العالم صامتة، وربّما يزداد الفلسطينيون عزلة… لكن هذا لا يلغي أن الشارع في كل مكان مع الفلسطينيين وسيبقى معهم، ولا سيما في العالمَين العربي والإسلامي، وهذا قد ينعكس ارتدادات داخلية في هذه الدول. وستستعيد مقولة حلّ الدولتَين قوّتها وتُطرح من جديد على الطاولة. وفي حال حصول ذلك، يمكن القول إن الفلسطينيين حقّقوا مكسباً مهمّاً”.