اضطرابات تل أبيب والإدارة المأزومة…
بقلم د. حسن أحمد حسن
إذ كان التعصّب يقود إلى التزمّت، والتزمّت إلى التطرّف، والتطرّف إلى الإرهاب، فماذا يمكن أن يُقال عن حكومة متعصّبة ومتزمّتة ومتطرّفة وإرهابية، وفوق هذا وذاك يترأسها نتنياهو الذي كان يحلو لبعضهم وصفه بأنه (آخر ملوك بني «إسرائيل») وإذ بتطوّر الأحداث وتداعيات الاضطرابات الداخلية في التجمّع الاستيطاني يؤكد أنّ «النتن ياهو» هذا هو أكثر مسؤوليها مسؤولية عن إمكانية دفع كيان الاحتلال نحو حافة الانتحار وإطلاق النار على الصدر والرأس، وليس على الأقدام فقط، وبالتالي قد يكون من حقه أن ينتظر الشكر على ركوب رأسه من قبل جميع أنصار الحقّ والعدل والسلام والاستقرار في العالم أجمع، لكن هذا مشروط بالاستمرار في ما بدأه وبإصرار أكثر على فرض مفرزات تطرف حكومته الإرهابية فرضاً، والردّ بخشونة أكثر على المتظاهرين في شوارع تل أبيب، وهذا ليس صعباً على حكومة سبقتها حكومات متعدّدة، وجميعها قائمة على القتل والبطش والإجرام على امتداد عقود حتى قبل قيام تلك الغدّة السرطانية عام 1948.
ما يشهده الداخل الإسرائيلي لا يمكن اختزاله بإجراءات قضائيّة وتعديلات في التشريعات تفضي إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا وتطلق يد حكومة اليمين المتطرّف بزعامة نتنياهو، فدلالات الغضب المتراكم والمتزايد، وحجم المظاهرات الذي انتقل من أصوات منفردة تقدّر ببضع عشرات إلى أن أصبح يتجاوز عشرات الآلاف وربما المئات منها يؤكد أنّ الشروخ بنيويّة، والخيارات ضيقة بالأساس وهي تزداد ضيقاً وتكاد تكون محصورة بأحد خيارين لا ثالث لهما:
1 ـ التراجع عن إقرار التعديلات المطلوبة من أطراف فاعلة في حكومة نتنياهو، وهذا يعني انفراط عقد الحكومة وحلّها، وبالتالي فقدان هذه الفرصة التي قد لا تتكرّر، وهذا من مصلحة جميع أنصار العربدة والتفلت من أي مراقبة وإخضاع للمسؤولية وإمكانية المساءلة من أي جهة كانت.
2 ـ الإصرار على فرض التعديلات بغضّ النظر عن ارتداد ذلك على الشارع وازدياد الغضب وموجات حدّته التي قد تظهر بأشكال متعدّدة، وهذا هو المتوقع. فالأصوات العالية في الشارع يمكن ضبط إيقاعها مع الوقت، وهناك كثر في مفاصل صنع القرار لا يرون ضيراً من زيادة العنف في قمع تلك المظاهرات وتفريقها بقوة كمقدمة لمنعها لاحقاً من إمكانية التشكل والخروج إلى الشارع، وقد تكون المسألة مسألة وقت. فمن شأن الخيالة التي تقتحم الجموع أن تلزم أولئك على إعادة التفكير قبل التوجّه إلى الشارع، وقد تتبدّل القناعات لدى نسبة لا بأس بها من هؤلاء إذا تذوّقوا طعم السقوط على الأرض جراء اندفاع الخيالة المكلفة بفضّ تلك الاعتصامات والتظاهرات المحكومة بفقدان بريقها مع مرور الوقت، ولعلّ العمل يتركز الآن على هذا الخيار.
القراءة المتأنية والمسؤولة للوحة المتشكلة تتطلب النظر بعمق إلى جميع المدخلات، ومعرفة آلية عمل فرن الصهر والتفاعل الداخلي لتقديم مقاربة معقولة عن المخرجات المحتملة أو المتوقعة. ومن المهمّ الإشارة إلى بعض النقاط المساعدة والضرورية، ومنها:
ـ ما يحدث في الداخل الإسرائيلي دليل توتر واضطراب وتشوّش في الرؤية، وفقدان الثقة بقدرة حكومة نتنياهو على اتخاذ القرارات الاستراتيجية المتناسبة مع مصالح كيان الاحتلال.
ـ لا يمكن فصل ما يجري عن «فيروس الهزيمة» الذي يسكن في الوعي واللاوعي الإسرائيلي، ويسري مع دماء المستوطنين جميعاً مدنيين وعسكريين، وعلى مختلف درجات الأهمية والمسؤولية الوظيفية.
ـ ارتباطاً بالنقطة السابقة لا يمكن للمستوطن أن يتعامى أو يتجاهل عن حقيقة تآكل الردع الإسرائيلي بوتائر متسارعة تفوق القدرة على التعامل مع تداعياته. فمن كان يصدق أنّ خيمة ينصبها حزب الله في الجنوب اللبناني تبقى بكلّ أمان واطمئنان وجيش الاحتلال الذي يرعد ويزبد لا يتجرأ أن يوجه باتجاه الخيمة ولو مروحة على البطارية لتحريك الهواء. وليس هذا فحسب، بل العربدة الإسرائيلية المنفلتة من كلّ عقال نراها فجأة، وبشكل تلقائي تخف فتهمد وتخمد، ويعرف مطلقوها كيف يضبطون وقع حتى الكلمات، ويتوجّهون إلى المنظمة الدولية ومجلس الأمن يستجدون أصدقاءهم في العالم الحفاظ على ما تبقى من ماء وجه، والمساعدة في إزالة الخيمة بأي شكل كان وتحت أيّ مسمّى.
ـ «فيروس الهزيمة» القابع في أعماق المستوطنين متعدّد الأذرع والاستطالات، وهو لم يعد محصوراً في رعب ساكني المستوطنات في الشمال من حتمية دخول حزب الله وفرض سيطرته على المنطقة في غضون ساعات من أي مواجهة ميدانية محتملة، بل غدا هماً وغماً يتشارك به المستوطنون في شتى المناطق المحتلة بعد أن رأى العالم عجز الجيش الذي كان يوصف بأنه لا يُقهر، فإذ به يُقهر ويُذل ويتعثر حتى في الدخول إلى مخيم جنين، ويرغم قادته على إنهاء عمليتهم حتى قبل انقضاء المدة التي خفضوها مسبقاً، وحدّدوا سقفها /72/ ساعة فقط، ولم يفلحوا في الوصول إلى ذاك السقف.
ـ إضافة إلى هذا وذاك يدخل العامل الأخطر وهو توتر العلاقة بين واشنطن وتل أبيب التي تتجه من سيّئ إلى أسوأ، فحتى اللحظة لم تتمّ دعوة نتنياهو لزيارة واشنطن بل صدرت تصريحات عدة تتضمّن أنه غير مرحّب به، وهذه سابقة في تاريخ العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية، وقد أعرب بايدن في آذار الماضي عن قلقه وتخوّفه من خطة نتنياهو ونتائجها على مستقبل «إسرائيل»، قائلاً: «أنا قلق للغاية، لا يمكن لإسرائيل الاستمرار على هذا النحو». كما نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن وزير المساواة الاجتماعية والمتقاعدين عميحاي شيكلي، قوله إنّ «الولايات المتحدة تغذي الاحتجاج في إسرائيل، وبايدن ينسّق مع إيهود باراك ويائير لابيد».
ـ يضاف إلى موقف بايدن الشخصي من نتنياهو تصريحات العديد من المسؤولين وارتفاع حدة انتقاداتهم لتلك الحكومة المتطرفة بزعامة نتنياهو. فالمتحدث باسم البيت الأبيض نقل دعوة إدارة بايدن السلطات الإسرائيلية إلى «المحافظة على الحق في التظاهرات السلمية واحترامه». ومثل هذا الخطاب توجهه واشنطن لعدد من الدول التي تصنفها أنها غير ديمقراطية، لا إلى الكيان الذي كان يوصف بأنه واحة للديمقراطية وسط صحراء قاحلة.
ـ كلّ ما ذكر يبقى بدلالاته ومضامينه أقلّ خطورة من احتمال نشوب حرب أهلية داخلية، وهو ما تكررت الإشارة إليه في الصحف الإٍسرائيلية، وما تؤكده استطلاعات الرأي التي يتمّ إجراؤها بين المستوطنين أنفسهم. فالحالة وفق توصيف رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» افيغدور ليبرمان: «فقدت الحكومة الردع والسيطرة ولا يوجد لا حكومة ولا أمن». في حين قال زعيم المعارضة ووزير أمن الاحتلال السابق، بيني غانتس: «نحن في مسارٍ لحربٍ أهلية، وندعو نتنياهو للتوقف». وعلى حدّ قول مسؤول أمني رفيع في حديث لصحيفة «إسرائيل هيوم»، فإنّ «ما تعيشه إسرائيل كارثة على كافة الصعد»، فيما «المسؤولون لا يفهمون هذا الأمر ويلعبون بالنار»، وحتى رئيس كيان الاحتلال، إسحق هرتسوغ قال في بيان له إنه «يمكن التوصل إلى اتفاق، ومع ذلك لا أحد حتى الآن يبدو مستعداً للجلوس والتحدث من دون شروط مسبقة».
خلاصة
إذا كان الاحتكام إلى الشارع محكوماً بالانتقال «من التشويش إلى الشلّ» وفق منظّمي الاحتجاجات وتهديداتهم المستمرة بتوسيع دائرته، وهذا ما تؤكّده الأعداد المنضمّة إلى التظاهر والتي بلغت نحو 141 ألف مستوطن في شارع كابلان في «تل أبيب»، إضافة إلى نحو 20 ألف مستوطن في حيفا المحتلة، وأعداد أخرى لم تذكرها الصحافة الإسرائيلية فهذا مؤشر على صحة استنتاج هرتسوغ الذي أكّد أنّ الأزمة الداخلية التي تمرّ فيها «إسرائيل»، تُعَدّ «من أخطر الأزمات الداخلية، وتؤثّر في عدد من القطاعات». وأضاف أنّ مَن يعتقد أنّ «حرباً داخلية هي حدود لن نصل إليها، لا فكرة لديه عن واقع الحال في إسرائيل»، وهي على مفترق طرق، إما «أزمة تاريخية أو لحظة دستورية حاسمة».
طالما أنّ ذلك كذلك فقد يكون من المفيد والضروري والمهمّ «مساعدة» النتنياهو في هذه المرحلة وتشجيعه وتحفيزه للإسراع بإعطاء الإيعاز المطلوب للبدء بإطلاق النار من الكيان على الكيان، والإمكانيات اللازمة لتقديم مثل هذه المساعدة متوفرة، وقد تكون أكبر مما يحتاجه نتنياهو وحكومته المتطرفة والحاملة في كينونتها وتكوينها بذور الإفناء الذاتي وإمكانيته.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية