واشنطن والقنابل العنقودية البشرية .
12/7/2023م
د. حسن أحمد حسن*
لم يكن مفاجئاً أن يعلن بايدن في مقابلة مع شبكة «سي إن إن» عن اتخاذ قرار بنقل الذخائر العنقودية إلى أوكرانيا بناء على توصية البنتاغون بسبب نفاد الذخيرة التقليدية في كييف، ولا يقلل من الدلالات الكارثية لقرار كهذا تسويغ بايدن بأنه لم يكن قراراً سهلاً، كما أن الحديث عن معارضة كبيرة من المشرعين الديمقراطيين وخبراء الحدّ من الأسلحة وجماعات حقوق الإنسان والعديد من الحلفاء الأوروبيين لا يغيّر من حقيقة اتخاذ القرار المتناقض حتى مع القانون الأميركي ذاته، إذ يحظر ـ وفق موقع «Responsible Statecraft» ـ على الولايات المتحدة توفير هذه الأسلحة لحكومات أخرى إذا كان معدل فشلها أعلى من 1%، وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، إن معدل فشل الذخائر العنقودية التي سيتمّ إرسالها إلى أوكرانيا يبلغ 14% وأكثر.
من السذاجة بمكان التوقف عند مثل هذه الأخبار التي تحاول تسويق صورة عن الديمقراطية الأميركية المزيفة، والإيحاء بأنّ هناك في مفاصل صنع القرار الأميركي من يهتم بالقانون الدولي وحقوق الإنسان وقيم المجتمع البشري وأعرافه ومسلماته إلا وفق ما ترتئيه «حكومة الظل العالمية» التي كانت وستبقى صاحبة اليد الطولى والعليا في فرض ما تريده على الإدارات الأميركية المتعاقبة ديمقراطية كانت أم جمهورية، وعلى بقية مؤسسات الحكم في الدول الأطلسية الدائرة في الفلك الأميركي بما ينسجم والأجندات الشريرة التدميرية التي لا تقيم وزناً لا لعرف ولا لحق ولا لقانون. وقد يكون من المفيد هنا تسليط الضوء على بعض الجوانب المتعلقة بالموضوع لتوضيح حقيقة التوحّش الأميركي الذي لا يستثني أحداً من شروره وتهديداته وأخطاره، ومنها:
ـ «الذخائر العنقودية: ليست قذائف متفجّرة كبقية القذائف، بل هي حواضن «عُبوات» مختلفة الأحجام والأشكال تحتوي على قنابل» كرات» صغيرة متفجّرة يتراوح عددها بين عدة عشرات وصولاً إلى عدة مئات فبعضها يحوي ما يزيد عن «500» قنبلة صغيره تنتشر شظايا كل منها على دائرة نصف قطرها عدة أمتار. وبالتالي فالعبوة الواحدة قد تنشر الموت والدمار على عشرات الكيلومترات المربعة، حسب السلاح الذي أطلقها مدفعية أم طيران أم غير ذلك، وقد تمّ تصميم بعض هذه القنابل الصغيرة لتنفجر على ارتفاع منخفض قبل وصولها الأرض، وبعضها الآخر لا ينفجر إلا بعد الارتطام بالأرض، وفي جميع الأحوال تبقى نسبة لا بأس بها لا تنفجر، بل تحمل إمكانية الانفجار بمجرد الملامسة أو التحريك.
ـ على الرغم من حرص المجمّعات الصناعية العسكرية الكبرى على تخفيض نسبة تلك القنابل التي لا تنفجر إلا أنها بقيت عالية، ولا يمكن إحصاء العدد بدقة، وتشير بعض الدراسات التخصصيّة إلى أن النسبة التي كانت تتراوح بين 30 إلى 40% من مجموع ما تحتويه العبوة الواحدة قد تم تخفيضها إلى نسبة تتراوح بين 2,5 ـ 15% في أحسن الأحوال. وهذا يعني تحول تلك النسبة التي يقولون عنها إنها منخفضة ـ وهي بالآلاف ـ إلى ألغام وقنابل موقوتة تهدّد حياة المواطنين المدنيين في جميع المناطق التي تصل إليها ولا تنفجر.
ـ لم يكن إعلان بايدن عن اتخاذ القرار مفاجئاً لأنه سبق لمسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في حزيران الماضي أن أشار إلى أنّ «الجيش الأميركي يعتقد أنّ الذخائر العنقودية ستكون مفيدة لأوكرانيا في صد القوات الروسية»، وهذا يشير إلى أن صاحب الفكرة هو الأميركي نفسه، وليس الجانب الأوكراني، واستمرار الأعمال القتالية على الجبهة الأوكرانية يحتل الصدارة في أولويات الإستراتيجية العسكرية الأميركية المعتمدة لتحقيق أهداف متعددة في آن معاً، وقد أشارت بعض الدراسات والتحليلات التي تناولت الموضوع إلى أن مسؤولين أميركيين تحدّثوا عن تغير ظروف ساحة المعركة داخل أوكرانيا خلال الأسابيع الماضية هو ما دفع الأميركيين للتفكير في مسألة نقل الذخائر العنقودية إلى كييف، وقد أعلنت وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» يوم الجمعة 9/7/2023م. أنّها ستزوّد أوكرانيا بحزمة جديدة من المساعدات العسكرية، تقدّر قيمتها بـ 800 مليون دولار، من بينها ذخائر عنقودية. وفي اليوم نفسه أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان الموافقة على تسليم نظام كييف ذخائر عنقودية، رغم إدراك خطرها على المدنيين.
ـ بغضّ النظر عن أنّ الولايات المتحدة الأميركية لم توقع على اتفاقية حظر استخدام الذخائر العنقودية وتخزينها وإنتاجها ونقلها، إلا أنها أخرجتها من الخدمة منذ عام 2016 وخزنتها بأعداد كبيرة جداً، وهذا يزيد من نسبة القنابل التي تبقى بدون انفجار، فضلاً عن أن القرار يشكل ـ بحد ذاته ـ استفزازاً كبيراً لموسكو، ويهدّد ـ وفق ما صدر عن رابطة الحدّ من التسلح ـ «بتصعيد الصراع، ويمكن أن يؤدي إلى زيادة عدد الضحايا»، وهذا ما أثبتته التجارب ودروس الحروب الماضية القريبة منها والبعيدة.
ـ خطورة العدوانية الأميركية لا تقتصر على نقل الذخائر العنقودية إلى أوكرانيا لاستخدامها ضدّ الجيش الروسي، وضد السكان المدنيين في جميع المناطق التي قد يطالها القصف الأوكراني، بل الخطورة الأكبر في تلك القنبلة العنقودية الأضخم ممثلة بالطغمة التي تتحكم بأوكرانيا من النازيين الجدد والرعاية الأميركية لهم واستخدامهم كسلاح أكثر فتكاً، وبما ينسجم واستماتة واشنطن على إطالة أمد الحرب ليس فقط حتى آخر جندي أوكراني بل حتى آخر مواطن أوكراني، وقد يكون الأصح حتى آخر مواطن أوروبي.
ـ ماذا يمكن تسمية مئات الآلاف من الإرهابيين المسلحين الذين صنعتهم واشنطن، وأطلقت لحاهم لتزين لباس حَمَلة فكر القاعدة، وما فرخته من تنظيمات مشابهة كداعش وجبهة النصرة وغيرهما من المسميات الممهورة بخاتم حصرية الملكية الخاصة بأميركا؟ وكيف يمكن النظر إلى أجساد مزنرة بالأحزمة الناسفة والمتفجرات وهي تتجول بين الناس في هذه الدولة أو تلك لتنتقي أكثر الأماكن ازدحاماً وتضغط على زر التفجير ليكون عدد الضحايا أكثر والأضرار والدمار أعم وأشمل؟ وسيان لدى أولئك إن أدّى تفجير أجسادهم القذرة إلى ارتقاء أطفال أم نساء وشيوخ، أم غير ذلك من الأرواح البريئة، حتى لو كان المستهدَف علّامة منبر يلقي عظاته على الناس لنشر المحبة والسلام والتآخي والخير؟ وهل يستطيع إنسان يمتلك حس الإنسانية أن يبعد عن تفكيره موضوع القنابل الموقوتة وهو يرى المقاطع المصورة التي حرصت وحشية الإرهاب التكفيري على بثها لنشر الرعب في النفوس، فظهر أولئك القتلة على حقيقتهم التفجيرية التدميرية الهمجية وهم يستمتعون بحرق الناس وإدخالهم أحياء إلى الأفران في المخابز، في حين تفرّغ آخرون منهم لإلقاء السكان الآمنين من شرفات المنازل في «عدرا العمالية» وغيرها من المدن السورية وكل مكان ضربه إرهابهم العفن؟ وهل ثمّة فارق بالتوحش والظلامية والجاهلية الجديدة بين مَن قطع رأس المؤرخ وعالم الآثار خالد الأسعد وعلّقها على سور متحف مدينة تدمر، وبين مَن قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري؟ وماذا عن إمبراطوريات الإعلام المسرطن ومراكز البحث والدراسات المتخصّصة بإثارة الفتن وإشعال الحرائق المتنقلة والمتدحرجة في شتى أصقاع الكون لضرب كل ما له علاقة بالأمن والأمان والسلام والاستقرار، واستبدال كل ذك بالفقر والجوع والخراب والدمار والاقتتال والاحتراب والأمراض والأوبئة لضمان استمرار دوران عجلة الإنتاج في المجمعات الصناعية الكبرى الحربية وغير الحربية في تلك الدول التي تدعي قيادة العالم في الحرب على الإرهاب، وهي تحارب به لا تحاربه؟
يبقى التساؤل الأهمّ والمشروع: ألا يرتبط كلّ أولئك بشكل وبآخر وبصورة عنقودية مع مفاصل صنع القرار الذي اتخذته إدارة بايدن بتزويد أوكرانيا بالقنابل العنقودية؟
الرابط على موقع جريدة البناء
https://www.al-binaa.com/archives/375556
الرابط على صفحتي الشخصية عبر الفيس بوك:
https://www.facebook.com/photo/?fbid=807652794254604&set=a.348351136851441
*باحث سوري متخصّص بالجيوبوليتيك والدراسات الإستراتيجية.