عضو مجموعة الرؤية الاستراتيجية الدكتور وسيم قلعجية: روسيا تسعى الى إطلاق نظام الأمن الجماعي في الشرق الأوسط
قدم العضو اللبناني في مجموعة الرؤية الاستراتيجية.. روسيا ـ العالم الاسلامي الدكتور وسيم قلعجية مداخلة في الجلسة الافتتاحية للمنتدى الدولي الخامس للصحفيين المسلمين التي عقدت في مدينة سانت بطرسبرج في روسيا قال فيها:
تعتبر موسكو تجنب التصعيد في منطقة الخليج العربي وخليج عمان من أهم أولوياتها في الشرق الأوسط.
تسعى جمهورية روسيا الاتحادية لإطلاق “نظام الأمن الجماعي للشرق الأوسط” في رد واضح على “العسكرة الأميركية” للخليج العربي. هذه المبادرة تمثل خطوة دبلوماسية كفوءة للغاية من موسكو التي صاغت بعناية تامة مجموعة إجراءات من شأنها تأمين الملاحة في الخليج و بناء الثقة بين دول المنطقة والحفاظ على الاستقرار الإقليمي.
هذا “اقتراح شامل لا يسيء إلى أي أحد، بل على العكس، يدعو إلى توافق الآراء”. تمثل هذه المبادرة خطوة دبلوماسية كفوءة للغاية من موسكو التي قدمت رؤيتها والتي تتعارض مع ما أعلنته الولايات المتحدة الأميركية سابقاً على لسان مبعوثها الخاص المعني بشؤون إيران، برايان كوك، ورئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية الجنرال جوزيف دانفورد، أنها تعمل على إنشاء تحالف دولي لتأمين الخليج، الذي يعتبر ممراً حيوياً لتصدير النفط عالمياً، وسط زيادة التوتر في المنطقة عقب الهجمات الأخيرة على السفن وتصاعد حدة الخلافات مع إيران.
ياتي هذا الطرح الأميركي استكمالاً لما عرف “بأفكار الناتو العربي” منذ عدة أشهر، وتمت لقاءات وصياغات متعددة في هذا السياق، والتي ربطت دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والولايات المتحدة الأميركية في إطار مقترحات عامة تركز على تشكيل تحالف عسكري على غرار الناتو الغربي.
يمنع “نظام الأمن الجماعي للشرق الأوسط”، الذي تقترحه روسيا الاتحادية، الولايات المتحدة الأميركية من إنشاء كتلة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط تعمل على السيطرة المطلقة على الخليج العربي. لكل ذلك، يتعارض الاقتراح الروسي، من حيث الشكل والمضمون، بشكل صارخ مع كل ما تقدمت به الولايات المتحدة الأميركية من أفكار.
ليست أي من الأفكار الواردة في الخطة الروسية “أفكار جديدة”، إذ جرى التعبير عنها جميعاً من قبل الدبلوماسيين الروس منذ سنوات عدة حتى الآن. وعلى ما يبدو جرى تجميع هذه الأفكار في وثيقة موحدة الآن محتوى المقترحات في وثيقة تتألف من 5 بنود وتتضمن التدابير التالية:
1- تأكيد دول المنطقة والأطراف الخارجية على التزاماتها الدولية، وتحديداً التخلي عن استخدام القوة في حل المسائل الخلافية، واحترام سيادة دول المنطقة وسلامة أراضيها، والالتزام بمبدأ تسوية الخلافات بشأن ترسيم الحدود عن طريق التفاوض أو غيره من الوسائل السلمية بشكل حصري.
2- أن تأخذ دول المنطقة على عاتقها التزامات متبادلة متعلقة بالشفافية في المجال العسكري، و بينها الحوار بشأن العقائد العسكرية واجتماعات لوزراء دفاع الدول الإقليمية، وإقامة “خطوط ساخنة”، وتبادل الإخطارات بصورة مسبقة حول إجراء التدريبات وطلعات الطيران العسكري، وتبادل المراقبين، وعدم نشر قوات لدول خارج المنطقة على أساس دائم على أراضي دول الخليج، وتبادل المعلومات بشأن القوات المسلحة وشراء الأسلحة.
3- توقيع اتفاقية التحكم بانتشار الأسلحة، بما في ذلك على سبيل المثال إنشاء مناطق منزوعة السلاح، وحظر التكديس المزعزع للاستقرار للأسلحة التقليدية، ومن بينها مضادات الصواريخ، وخفض تعداد القوات المسلحة من جانب جميع دول المنطقة.
4- في سياق تعزيز نظام عدم الانتشار النووي في الشرق الأوسط، اتخاذ تدابير تهدف إلى تحويل الخليج إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
5- إبرام اتفاقات مكافحة الإرهاب الدولي والاتجار غير المشروع بالأسلحة والهجرة والاتجار بالمخدرات والجريمة المنظمة.
يتطلب المقترح الروسي ضرورة إطلاق حوار تدريجي حول تقليص الوجود العسكري الأجنبي بالمنطقة، ووضع تدابير مشتركة لبناء الثقة بين دول الخليج العربي ودول أخرى مجاورة، مع إحراز تقدم في إنشاء هيكل نظام أمن خليجي. يتمثل الغرض الرئيس على الأمد البعيد في إنشاء منظمة للأمن والتعاون بالخليج تشمل الدول الإقليمية وروسيا الاتحادية والصين والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي والهند، وغيرها من الأطراف الدولية المعنية بصفة مراقبين أو أعضاء المنتسبين.
الفرق شاسع بين المبادرتين: بينما واشنطن تضغط من أجل إنشاء “الناتو العربي” ، فإن موسكو تروج لفكرة التوصل في الشرق الأوسط لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وبينما تطالب واشنطن طهران بتغيير سلوكها أو عزلها، تصر موسكو على سياسة حسن الجوار وتؤيد عدم استبعاد أي صاحب مصلحة عندما يتعلق الأمر بالقضايا الإقليمية. علاوة على ذلك، فبينما تشجع واشنطن توسيع الحشد العسكري في منطقة الشرق الأوسط تنتقد موسكو النشر الدائم للقوات العسكرية الأجنبية في الخليج وهي تدعو إلى إخلاء المنطقة من الوجود العسكري (الأميركي) الأجنبي الذي يعتمد عليه حالياً أمن دول الخليج، باعتباره جوهر الاقتراح الداعي إلى بناء بنية أمنية جديدة حول جهود مكافحة الإرهاب .
المشكلة الأبرز في الرؤية الروسية أنها تسعى إلى وضع تصور بعيد المدى لتسوية أزمات المنطقة، بينما تحتاج المنطقة إلى خطوات عاجلة وسريعة لنزع فتيل التوتر. مما لا شك فيه أن الأفكار الروسية حول الأمن في منطقة الخليج مطروحة منذ وقت طويل، وأن الجديد فيها هو مسعى توسيع دائرة البلدان المشاركة في النظام الأمني لتشمل روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية وأطرافاً أوروبية وآسيوية مثل الهند. في حين أن مطلب الأمن الجماعي في المنطقة هو بالدرجة الأولى مسؤولية بلدان المنطقة ذاتها.
يتوجب الاعتبار أن نظام الأمن المشترك في الخليج يجب أن يشكل “جزءاً لا يتجزأ من نظام الأمن في منطقة الشرق الأوسط”. و إنه “يجب أن يقوم على مبادئ التزام احترام السيادة وحل القضايا الداخلية من دون تدخل خارجي وعن طريق الحوار الوطني”.
فمنذ حرب تحرير الكويت (1991) ظلت الولايات المتحدة الأميركية هي الضامن الرئيسي لأمن منطقة الخليج بالتعاون مع حلفائها الغربيين وحلف شمال الأطلسي (NATO) سواء بالتواجد المباشر في المنطقة، أو على مقربة منها في كل من العراق وأفغانستان. ولكن توجه الإدارة الأميركية الحالية بالتركيزعلى الداخل والانكماش عسكرياً في الخارج لأسباب اقتصادية وضغوط الرأي العام الأميركي الرافض للتكلفة والخسائر البشرية، وهو ما أدى إلى تقليص الوجود العسكري الأميركي بالمنطقة، وخاصة بعد الانسحاب من أفغانستان (2011 ) و العراق (2014). نأمل أن تكون دول الشرق الأوسط مقتنعة الآن أنه من الضروري أن تدعم بقوة مقترحات روسيا الاتحادية من أجل تجنب الحرب والفوضى.
المبادرة الروسية بحاجة ” لصياغتها عربياً “أي أنه هناك مجموعة” متطلبات وثوابت “عربية ضرورية يجب التعامل معها، حيث ترتكز مصالحنا العربية على ضمان أمن الملاحة الدولية، وهو ما يشكل النقطة الأساس في أي مبادرة دولية خصوصاً في ظل تطورات إقليمية ودولية معقدة حيث تتسع دوائر التشابك والتقاطع بين كافة الأطراف الدولية.
بكلام آخر، النقاش حول الأفكار الروسية يتطلب مراعاة رفض إيران التحول من “ثورة إسلامية” إلى “دولة طبيعية” والتخلي عن طموحات توسيع النفوذ الإقليمي لطهران على حساب مصالح الدول العربية. ما يعني أن السؤال المطروح هو عن “قدرة موسكو” على ممارسة تأثير على طهران لتغيير سياساتها الإقليمية.
من هنا، يجب العمل على تحفيز دول الشرق الأوسط ولفت انتباههم إلى الطرق التي يمكنهم بها انتزاع أنفسهم من أتون الصراعات وحفظ مستقبل أمن الخليج في ظل الصراعات الدولية وتقاسم مناطق النفوذ. بطبيعة الحال يجب تكثيف العمل لتشجيع التواصل الدبلوماسي وتطوير رؤى جديدة من أجل التغلب على الوجود المتزايد للقوى العسكرية الأجنبية.
إن تعدد الأقطاب الفاعلة في المنطقة، يعطي دول الخليج مساحة من المناورة الاستراتيجية، دون الاحتكار والاستقطاب الأميركي.
رؤية موسكو يجب أن تعمل أولاً على إنضاج “أسس الحوار” حول المبادرة التي نصت على خمسة بنود، مع اقتراح بالبدء في المشاورات الثنائية ومتعددة الأطراف وفي إطار مجلس الأمن الدولي أو جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي أو مجلس التعاون الخليجي، على أن تكون نتيجة هذه المشاورات تشكيل مجموعة عمل تقوم بتحضير مؤتمر دولي للأمن والتعاون في منطقة الخليج. بطبيعة الحال، فإن السؤال الرئيسي هو ما إذا كان السياسيون في المنطقة يدركون خطر الوضع القائم، وما إذا كانوا مستعدين للتوقف عن اتهام بعضهم البعض و بدء عملية الحوار.
كثيرون قد يعتقدون بان هذا الطرح غير قابل للتطبيق حالياً، كونه يؤكد الحاجة إلى انسحاب القوات الأجنبية من منطقة الخليج العربي وترك حل مشاكلها بعهدة دول الخليج العربي فقط. يحدث ذلك في نفس الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة إلى مزيد من تعزيز وجودهما العسكري في المنطقة، وهذا يشكل إحدى العقبات الرئيسية أمام تنفيذ المبادرة الروسية. لذلك، فإن الجانب الأميركي والبريطاني وحتى دول مجلس التعاون الخليجي لن يقبلوا بهذه المبادرة.
العقبة الخليجية أمام هذه المبادرة هو الأزمة المستمرة داخل مجلس التعاون الخليجي بشأن الأزمة القطرية. كما أن قضية النزاع المستمر في “اليمن” التي يمكن أن تصبح جزء من الهيكل الجديد للأمن الإقليمي، مع الأخذ بعين الاعتبار التقسيم المحتمل لهذا البلد.
إن الأساس النظري لهذه الخطوة الروسية جاهز، إذ أن موسكو تلعب دور الوسيط بين الأطراف المختلفة. هذا هو الأمر العادي وغير الجديد. سياسة “الغرب” لتغيير عمل هيكل الأمن الاإقليمي في المنطقة تفتح باباً أمام مثل هذه الاقتراحات الروسية. على الرغم من أنه ليس لروسيا الاتحادية وجود عسكري في منطقة الخليج العربي إلا أن السياسة الروسية وعلاقات موسكو مع جميع أطراف النزاع انطلاقاً من طهران ودمشق وصولاً إلى أبو ظبي و الرياض، يمنحان الأمل لتطبيق مفهوم الأمن الجماعي الروسي المقترح في الشرق الأوسط.
ختاماً، المهم في الأمر، أن روسيا الاتحادية تقوم بعمل ذي صلة نحو البحث عن حل سياسي وهي على استعداد لتوفير منبر للمفاوضات بين دول الشرق الأوسط. الهدف الأساسي في التفكير لهذه الاستراتيجية، أن الشرق الأوسط يواجه خطراً حقيقيا في التسبب في نزاع عسكري ، وإن كان غير مقصود. قد لا يؤدي الاقتراح الروسي بالضرورة إلى إحلال السلام في المنطقة، لكنه قد يعطي لمن يبحثون عن الحرب فرصة لرؤية أنه لم يتم استنفاد جميع الخيارات السياسية بالكامل. وفي الوقت نفسه، ستوفر هذه المبادرة لأولئك الذين يخشون الحرب فرصة للقفز إلى سفينة النجاة الروسية، و كذلك لأولئك الذين لا يريدون الحرب بالضرورة و لكنهم ذهبوا أبعد من اللازم في مواقفهم التصعيدية فرصة للتراجع مع لحفظ ماء الوجه.