القضاء “الدونكيشوتي” (عبدالله قمح)
ظهر هذا اليوم، ينتظر القضاء صفعة جديدة، فمجلس الوزراء سيطرح التعيينات القضائية على بساطه محتكماً إلى سلسلة اجتماعات سياسية حصلت في الكواليس أنهت عملية غربلة الأسماء المفروزة على القياس.مسكينٌ هذا القضاء، لم يبقَ منه سوى الاسم، حتى أن الاسم نفسه أصبح “مبهبط عليه”، ولو كان حامل ميزان العدالة عند مداخل قصور العدل مخيراً لكان رماه وولى هارباً، ومع اتساع رقعة التدخل في شؤونه، لم يعد يصلح القضاء إلا لتشكيل وحدة “حراسة” للطبقة السياسية. وفي زمن العهد القوي، بات تعيين القضاء يجري عبر الصحافة والإعلام، وباتت التهاني تسبق المرسوم، والمرسوم اضحى شكلياً والقسم أمراً ثانوياً والولاء السياسي يحتل المرتبة الاولى وقوس العدالة أساس مُلك ولاة الأمر، مرهونٌ لهم.لغاية الساعة لا ندري بعد ما هو المعيار الذي جرى على أساسه انتقاء الأسماء الصالحة للتعيين، والسير الذاتية التي تحدثوا عنها، اصبحت مقبّلات تجلس في جوار الطبق الرئيسي.وفي مكانٍ آخر، ثمّة قضاة يتحضّرون لتقبل التعازي، ليسَ على مناصب فقدوها أو في وارد فقدانها، ابداً، بل بعدما أدركوا أن المريض الذي كان يُداوى بالحبوب والمُسكّنات، دخلَ في موتٍ سريري واصبحَ متعذّراً إنقاذه، لذا بات لزاماً عليهم تجهيز الأجواء لإعلان الوفاة رسمياً.حتى أن “فِرق الإنقاذ القضائية” من نوادٍ وجمعيات، لم تؤتِ ثمارها، بل غدة أقرب إلى “مراكز رصد وإحصاء” لا حول لها ولا قوّة، وفي أكثر الأحوال، تُقدّم اقتراحات الحلول من دون قدرة على تحقيق بنودها.أحد القضاة السابقين يجلس على أريكة عند شرفة منزله محاولاً قراءة التحوّلات الجارية في الأفق، على مكتبه أوراق وقِصاصات تحكي روايات التعيينات القضائية، وأخرى “غرقت” في أسماء القُضاة المحظيين. يُسأل عنها فيجيب: “لقد حوّلوهم إلى حُرّاس. مُنذ متى كان القاضي يعمل حارساً عند السياسي؟”.بالنسبة إليه، باتَ القضاء في لبنان “يعمل بوّاباً عند الزعيم”، وهي المرة الاولى التي يرى بها هذا الترنّح في المؤسّسة الأولى في البلاد. ويترحم القاضي السابق على زمن الحرب ويقول انه وفي عز سيطرة “الميليشيات” لم يكن القضاء فاقداً لهيبته إلى هذه الحد الذي نراه اليوم، بل يزيد وهو الخبير في شؤون تلك المرحلة، أن القاضي في تلك الفترة “كان لابس بنطلون (في اشارة إلى رجولته)، كان يملي ولا يُملى عليه، كان “بيخوف”… أما اليوم فـ”كتير عليها يلبس شورت”.سبب غضب القاضي المذكور لا يعود إلى منصب يسعى خلفه، هو في الأصل تولّى منصباً رفيعاً زمن وجوده، لكن غضبه يأتي بسبب ما يشهده من ترهل قضائي يُشرّع الأبواب على التدخلات الأمنية والسياسية.ولم يَعد سرّاً أن القضاء في مرحلته الحالية أضحى “موظّفاً” لدى أجهزة الأمن بحسب القاضي السابق، وهذا الفعل يمثل “كارثة وجريمة تفوق كل الاعتبارات، وتلاعباً في النصوص والقوانين”، فلم نشاهد حتى في الدول البوليسية أن يوظّف القضاء في خدمة الشرطة، على النحو الجاري أتباعه الآن في لبنان.وأصلاً، نموذج ترويض القضاء الذي يشير إليه القاضي، مضى على تطبيقه زمن، حيث استطاعَ أكثر من جهاز أمن من “توريط عدة قضاة جرى اكتشاف نكثهم بالقسم ” فكبلوا وبدأ مشروع التحكّم بهم “بالريموت” إلى أن تحوّل هؤلاء إلى اداة طيّعة بخدمة بعض الضبّاط الكبار والسياسيين الأكبر منهم. وبعد أن كانوا يتلقّون التحية أصبحوا يؤدونها!بالنسبة إليه، هذا نموذج غير بسيط ولم يأتي بالصدفة بل انه مخطط له ومحبوك جيّداً. كان الهدف منذ مدّة طويلة ترويض القضاء بعدما روّضَ كل شيء في البلد، لكن ذلك كان صعباً لأن كانَ هناك قضاة “زِلم” يمنعون ذلك.يُقدم دليلاً إذ يقول إنه وخلال المرحلة التي تلت اتفاق الطائف، كان ثمّة بعض النوّاب وإلى جانبهم بطريقة غير مباشرة قُضاة يقفون بوجه “فرقة المُحاصصة” التي رُكِبت بعد تلك المرحلة، وكان هذا الأمر يُولد “نقزة” لدى حكام الأمر الواقع حينذاك، فصمموا على الشروع بورشة التغييرات.ولعلّ فكرة تدجين القضاء بالكامل ولدت حين تجرأ قاضٍ على استدعاء وزير المالية فؤاد السنيورة للاستماع إليه في دعاوى فساد واختلاس أموال عامة، فأيقن الساسة أن “لا شمسية فوق رأس أحد”. لكن المشكلة التي واجهها السياسيين أن قضاة ذلك الزمان كانوا يحملون جينات ما قبل الحرب، حيث كان ترويضهم متعذراً بالرغم من استخدم “العنصر السوري”.وبطبيعة الحال، لكل شيء “تاريخ صلاحية”.. على مرّ الاعوام السابقة غادرَ هذا الصنف من القضاة مناصبهم لبلوغهم السن القانوني، فمثّلت هذه اللحظة “ليلة قدر” بالنسبة إلى السياسيين الذين كانوا يعدون العدّة للبدء بحقن السلطة القضائية بأسماء “على مقاسهم”.وبالفعل نجحَ ذلك بعد مدّة، وهذا ما فتح الباب الآن لدخول الأمن عنصراً مؤثراً على القضاء بعد العنصر السياسي.اليوم نشهد الأمر نفسه، لكن بطريقة “وقحة” أكثر، حيث بات الساسة “يكمشون” القضاء من خلال فرض أسماء القضاة في المواقع التي يختارون، من دون وجود اي اعتراض. وقد باتَ شرط اختيار القاضي في هذا الزمن يستند إلى مدى قربه من الزعيم وليس ما لديه من كفاءة وتاريخ. أدل الامثلة إلى ذلك، يوم دعا النائب السابق وليد جنبلاط “القضاة الدروز” إلى الاجتماع به، فضرب هؤلاء التحية وقالوا “أمرك سيدي”. نتيجة ذلك، أصبح القاضي منزوع القدرة لا يقو على الحركة، حائراً بين سلطة المذهب و جاذبية الزعيم وتسلط الأمن، يتراكم عليه الخوف من كلِ حدبٍ وصوب، مكشوف للسياسي ومكشوف للأمن ومكشوف للرأي العام ومكشوف للصحافة.عند هذه الحال، كيف يجرؤ مثلاً قاضٍ على استدعاء نائب أو وزير أو مدير عام أو غيره في حال الاشتباه في ضلوعه بقضايا فساد أو غيرها، وهو يتقاسم معه طبق تقديم فروض الولاء للزعيم؟ من يضمن ان لا يتدخّل هذا السياسي لصالح ذلك الوزير أو النائب او الموظف؟ والاخطر من ذلك، من يضمن ان لا يتحرّك قاضياً ضد أحد عند اشارة الزعيم؟