مقالات

الطّابور أطول من الحلم وأقصر من الرّاتب

بقلم محمد ضياء الدّين بديوي رئيس تحرير عكس الاتّجاه نيوز و مستشار إبداعي في الشّؤون الإعلاميّة و الرّمزيّة

هكذا كان يعيش المواطن في زمن النظام البائد

في بلاد لا تقاس فيها قيمة الإنسان بعدد الكتب التي قرأها بل بعدد الطوابير التي وقف فيها يولد المواطن وهو يحمل شهادة طوابير إبتدائية ثم يتدرج في طوابير إعدادية قبل أن يحصل على دكتوراه في الوقوف بلا أمل
المواطن هنا لا ينام بل يصنف نفسه تلقائيا أمام فرن أو صراف أو كوة ماء أو حتى باب الحمام العام الطابور ليس مجرد صف إنه طقس اجتماعي مساحة تأمل ومناسبة لتبادل النكات التي تضحك كي لا نبكي وتبكي كي لا نضحك أكثر من اللازم

في جمهورية الطوابير لا أحد يسأل لماذا نقف بل يسأل من آخر واحد
وإذا سألت عن السبب فأنت مشاغب وإذا سألت عن الحل فأنت حالم وإذا انسحبت من الطابور فأنت خائن للوطن

في أحد الأيام وقف المواطن في طابور الغاز ثم انتقل إلى طابور الخبز ثم طابور البنزين ثم طابور الرواتب ثم طابور القهوة ثم طابور الحياة
وفي نهاية اليوم اكتشف أنه لم يشتر شيئا لكنه اكتسب مهارة الوقوف على قدم واحدة وسط زحام من الوجوه التي تشبهه وتشبه الفقر وتشبه النكتة التي لم تعد مضحكة

لكن الطابور الذي لا ينسى والذي أصبح جزءا من الذاكرة الجمعية هو طابور الخبز في حي الميدان بدمشق
رجل خمسيني وقف ثلاث ساعات تحت الشمس وعندما وصل إلى نافذة الفرن أغلق العامل الباب وقال الصيانة يا جماعة
فكتب الرجل على الحائط
اريد رغيفا لا يعتذر
ومنذ ذلك اليوم أصبح الحائط أكثر صدقا من النشرة الاقتصادية وأكثر دفئًا من الرغيف الذي لم يصل

الطابور هنا ليس أزمة مؤقتة بل هو نظام حكم
كل شيء يدار بالطابور الزواج الطلاق الولادة الموت حتى الحلم له طابور والكرامة لها طابور والحرية طابورها مغلق للصيانة منذ عام ألف وتسعمئة وسبعين

وفي طابور البنزين في حلب نام شاب في سيارته داخل الطابور واستيقظ ليجد نفسه في حي آخر كتب على صفحته
كنت أبحث عن الوقود فوجدت نفسي أبحث عن نفسي
هكذا يتحول الطابور من انتظار إلى تيه ومن طقس يومي إلى رحلة وجودية

في بلاد تقاس فيها قيمة المواطن بعدد الطوابير التي نجا منها يصبح المواطن كائنًا طوابيريًا لا يتنفس إلا إذا أعطي رقما ولا يتحرك إلا إذا صرخ أحدهم دورك يا رقم مئتين وسبعة وأربعين

اقتراحات عبثية لحل أزمة الطوابير
تأسيس وزارة الطوابير الوطنية مهمتها تنظيم الوقوف وتوزيع الأمل بالتساوي
إصدار بطاقة طابور ذكية تستخدم للدخول إلى الحياة والخروج منها
إدخال مادة فن الانتظار في المناهج لتعليم الأطفال كيف يقفون دون أن يسقطوا
تحويل الطوابير إلى مهرجانات وطنية توزع فيها النكات بدل الخبز والضحك بدل البنزين

في جمهورية الضحك المواطن لا يضحك لأنه سعيد بل لأنه إن لم يضحك سيبكي وإن بكى سيحتاج مناديل والمناديل ارتفع سعرها
فاختار الضحك توفيرا وانتظر دوره في الطابور لا ليأخذ شيئا بل ليبقى واقفا

عكـس الاتّـجاه نيـوز
الحقيقـة الكاملـة
معــاً نصنع إعـلاماً جـديداً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى