أردوغان في قمّة سوتشي: قيصريّ أكثر من القيصر؟
حيّان نيّوف
ثلاث ساعات من الوقت كانت هي المدة التي جمعت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب أردوغان في مدينة سوتشي الروسية على البحر الأسود، نصف تلك المدة كانت للقاء ثنائي مغلق ونصفها الآخر كانت للقاء موسع حضره وفدا البلدين.
سبق أن أعلنت تركيا ومنذ ما يزيد عن الشهرين من أن بوتين سيقوم بزيارة لتركيا وعاد اردوغان وأكد ذلك بعد محادثة هاتفية أجراها مع بوتين في مطلع شهر آب/أغسطس الفائت، قبل أن تنفي موسكو خبر الزيارة ثم لتعلن تركيا منذ حوالي اسبوعين عن زيارة مفاجئة لأردوغان إلى روسيا سبقتها زيارة تحضيرية لوزير خارجيته رجل المخابرات والسياسة “حقان فيدال” الذي التقى بنظيره الروسي لافروف وناقشا المواضيع التي طرحت على جدول أعمال قمة الرئيسين.
لم يكن اختيار مدينة سوتشي الروسية الواقعة على البحر الأسود عبثياً لعقد اللقاء في ظلّ الصراع بين روسيا والغرب على هذه المنطقة “وأقصد البحر الاسود” بعد أن انسحبت روسيا من اتفاقية الحبوب عبره وما شهدته المنطقة مؤخرًا من تصادم جوي روسي/امريكي تسبب بسقوط طائرة مسيرة امريكية، وفي ظل الحرب الأوكرانية المستمرة وسيطرة روسيا على الاقاليم الجنوبية من أوكرانيا وضمها لروسيا بما فيها سابقاً شبه جزيرة القرم، وبالتالي استحواذ روسيا وتركيا على معظم شواطئه ومياهه.
تظهر المحاور المعلنة للقمة بأن هناك ما استدعى توجه أردوغان إلى روسيا على عجل للقاء بوتين وعدم المراهنة على الانتظار لإنضاج الظروف اللازمة لزيارة بوتين لأنقرة.
ووفقًا للمؤتمر الصحفي الذي تلا القمة فقد شملت هذه المحاور بشكل رئيسي اتفاقية الحبوب والعلاقات الثنائية والملف السوري وملف القوقاز.
• المحور الأول: لعلّ اتفاقية الحبوب عبر البحر الأسود كانت الملف الأبرز للنقاش، حيث أظهرت تصريحات الرئيسين أن أردوغان قد فشل في إقناع بوتين بالعودة للاتفاقية، بل يمكن القول إن تصريحات اردوغان كانت صريحة في تبني الموقف الروسي من هذه القضية بعد أن تحدث عن صوابية الشروط الروسية للعودة إليها وعن عدم التطبيق الفعلي لها من قبل الغرب سواء لجهة عدم التزام الغرب بالبنود المتعلقة بحقوق روسيا في الاتفاقية أو لجهة استحواذ الغرب على النسبة الأكبر من الحبوب المصدرة بموجبها وحرمان الدول الفقيرة وخاصة الإفريقية من حصتها من الحبوب التي تتيحها الاتفاقية.
وفي هذا الجانب لا بد من لفت النظر إلى أن أردوغان يدرك جيدًا التحول الحاصل في القارة الأفريقية لصالح روسيا على حساب الغرب الجماعي وهو ما أظهرته نقطتان رئيستان، الأولى تمثلت بالانقلابات العسكرية التي حدثت في دول غرب ووسط افريقيا، والثانية تمثلت بنتائج قمة بريكس التي شكلت اختراقا مهما لدول الجنوب العالمي على حساب الغرب الجماعي، وبالتالي فإن أردوغان لم يجد بدا من إظهار التموضع في صف المنتصر في تلك المنطقة التي تشهد صراعًا محتدمًا، ويبدو أنه وجد في اتفاقية الحبوب مدخلًا لتظهير موقفه، ولعل ذلك هو ما شكل العامل الرئيسي لتبني هذا الموقف المطابق للموقف الروسي، ويضاف إليه عوامل أخرى متعلقة بتحييد روسيا لكل الموانئ الأوكرانية على الدانوب وفي الجنوب الغربي على الحدود مع رومانيا ومولدافيا والتي يمكن أن تكون منطلقًا لطرق بديلة لشحن الحبوب وهو ما دفع أردوغان للقول في المؤتمر الصحفي إن الحلول المتعلقة بتعديل طرق الحبوب لن تنجح.
• المحور الثاني: شكّلت العلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا واحدًا من أهم المحاور التي نوقشت في القمة، وفي المؤتمر الصحفي قال بوتين إن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ 62 مليار دولار وهو ما يعادل ضعف حجم التبادل التجاري بين تركيا والولايات المتحدة، وأن الجانبين يخططان لإيصاله إلى 100 مليار دولار، هذه الارقام باتت تقلق الغرب الجماعي، وقد عبر عن ذلك مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي “جوزيف بوريل” صراحةً منذ مدة قصيرة عندما قال إن ارتفاع حجم التبادل التجاري بين تركيا وروسيا يشكل مصدر قلق للاتحاد الاوروبي.
وبالإضافة إلى حجم التبادل التجاري فقد تحدث بوتين عن السياحة وعن بلوغ عدد السياح الروس إلى تركيا عتبة الخمسة ملايين سائح، وعن التبادل بالعملات المخلية بدلًا من الدولار واليورو.
بوتين عاد للحديث عن إنشاء مركز للغاز في تركيا وهو ألمح إلى اهميته عندما قال إن معظم خطوط الغاز الروسية يجري استهدافها من قبل الغرب، بينما تحدث أردوغان عن انشاء روسيا لمحطة جديدة ثانية للطاقة النووية في مدينة سينتوب التركية تضاف إلى المحطة الحالية التي يجري بناؤها في منطقة ازمير والمتوقع أن يبدأ تشغيلها في العام 2024 بطاقة انتاج تعادل 1800 ميغاواط.
إذًا وفي ظل التعثر الاقتصادي التركي واضطرابات الاقتصاد العالمي ومعوقات سلاسل توريد الطاقة فإن المصلحة التركية تقتضي الاستثمار بالعلاقة مع روسيا في مجال الاقتصاد والتجارة والطاقة والسياحة والعملات المحلية بدلاً من استمرار الرهان على اوهام الانضمام للاتحاد الأوروبي وقروض البنك الدولي التي تتحكم بها الولايات المتحدة الأمريكية والذي يستنزف احتياطي النقد الأجنبي التركي ويزيد من نسبة التضخم.
• المحور الثالث: أظهرت الأحداث الأخيرة في سورية وتحديدًا في محافظة دير الزور أن الأميركي وبالرغم من محاولاته الظهور على الحياد فإنه عاد وأعلن دعمه لميليشيا “قسد”، وهو ما أعاد الرهان التركي على الموقف الأميركي في سورية إلى المربع الأول خاصة أن ما تسرب عن دعم جبهة النصرة الإرهابية لميليشيا “قسد” سيشكل مصدر قلق لتركيا.
من اللافت هنا أنه وبالإضافة إلى أن القمة أكدت على وحدة الأراضي السورية وسيادة سورية على أراضيها كموقف ثابت بوجه المحاولات الأمريكية للتقسيم، فإن الأهم هو ما أعلنه الرئيس الروسي من أن صيغة آستانة أثبتت أنها الطريق الأفضل لحل الازمة السورية، وهذا يعني أن الجانبين الروسي والتركي قررا العودة لتفعيل هذه المنصة الخاصة بالملف السوري بعد أن تبين أن المنصة العربية التي تشكلت بعد قمة جدة عبر لجنة الاتصال العربية لم تحقق شيئًا ولم تنجح في تحقيق اختراق مع الأمريكي تحديدًا وهو ما أثبته الموقف الأمريكي مؤخرًا والمتعلق تحديدًا بشرق الفرات ومحاولة إغلاق الحدود السورية العراقية ودوره وموقفه من انتفاضة العشائر العربية في دير الزور، بالإضافة إلى العجز العربي عن كسر الحصار المفروض والمتزايد على سورية.
• المحور الرابع: كانت ولا زالت منطقة القوقاز بموقعها الجيوسياسي تشكل الخاصرة الرخوة لكل من روسيا وتركيا وحتى ايران ولكل منطقة أوراسيا، لكن الجديد فيما يخص تلك المنطقة هو التوجه الأرميني للتشبيك مع الناتو، وهو ما أعلنه المسؤولون الأرمينيون صراحة وأثار غضب موسكو واستدعى ردًا من قبل مسؤوليها، وبلا شك فإنه استدعى أيضًا قلق وغضب أنقرة، فكان لا بد من أن يشكل ذلك محورًا مهمًا وعاملًا للقاء بوتين واردوغان.
وبالمحصلة؛ فإنه يمكن القول إن التطورات الإقليمية والعالمية استدعت عقد هذه القمة في هذه المرحلة، ولا يمكننا إغفال تأثير قمة بريكس التي عقدت في جنوب افريقيا ونتائجها وخاصة لجهة توسيع المجموعة وتوجيه الدعوة لست دول محورية للانضمام إليها منها أربع دول إقليمية وازنة هي “إيران والسعودية ومصر والإمارات” بينما بقيت تركيا خارج هذه الدعوة وهي الدولة التي تمتلك من العوامل ما يؤهلها لتلك الدعوة بل ويفوق العديد من الدول الست المدعوة سواء لجهة حجمها وتأثيرها وموقعها وما تمثله، بالإضافة إلى أنها ليست عضوًا في منظمة شنغهاي للتعاون، وما زالت وستبقى مرفوضة من قبل الاتحاد الاوروبي الذي يستمر بوضع العراقيل لضمها إليه.
ربما لأجل كل ذلك وخلال المؤتمر الصحفي لقمة سوتشي حرص أردوغان على أن يكون قيصريّاً أكثر من القيصر نفسه! فالغرب الجماعي لا يقدم وليس باستطاعته ان يقدم شيئاً لتركيا، والشرق والجنوب العالمي في سعي للتمحور والتكتل والتحرر من الهيمنة الغربية، ويبدو أن أردوغان الجامح بتركيا نحو العالم الجديد لم يعد بمقدوره الانتظار في ظل التسارع الحاصل.. فهل ينجح؟