عرض مبسط لفلسفة نيتشه
محمد مناصير
اتفق أغلب من كتبوا عن الفيلسوف “فريدريك نيتشه” وأكد هو بذاته أيضًا من خلال كتاباته أن فلسفته قد امتزجت بحياته الشخصية، حتى باتت جزءا منها، فهو يتفلسف بكيانه كله وبوجوده الكامل، ولا يتفلسف نظريًا، فلا يفكر في مشاكل تجريدية فقدت صلتها بالحياة. لذلك اعتُبر نيتشه نوعا فريدًا من الفلاسفة، وكان لحياته هوية مرتبطة مع فكره، فهو يقضي على كل حد فاصل بينهما، ولا يثق بأية مشاكل عقلية لا تتماشى مع الحياة في تيارها ولا تنبع شخصية من يفكر بها. لذلك أراد الباحثين توضيح المعنى الحقيقي لهذا الإتفاق بين حياة الفيلسوف وتفكيره، ونستخلص الدلالة الصحيحة لتلك الفلسفة التي تنبثق عن الحياة، وتتقلب معها في كل التغيرات التي تطرأ عليها.[١]الولادةفي منتصف القرن التاسع عشر، وفي 15 أكتوبر من عام 1844، ولد الفيلسوف الشهير فريدريك نيتشه في بلدة ريكن الصغيرة في ألمانيا، وكان نيتشه ينحدر من أسرة معروفة بالتدين، فكان أجداده لأبيه من رجال الدين، وكذلك كانت أمه تنحدر من عائلة يستلم أفرادها مناصب دينية، لذا فقد لعب الدين عنصرًا مهمًا في نشأته وبقية حياته.[٢]نيتشه والمرض (١٨٧٠-١٨٧١م)عاش نيتشه حياة ترحال شبيهة بحياة الغجر، كشخص بلا جنسية (لتخلية عن الألمانية وعدم حصوله على السويسرية)[٣] وقد شارك نيتشه في حصار ميتز، واعتنى بجراح الجنود المصابين وأصيب بالديفتيريا والدسنتاريا.تضاربت الأقوال في مرض نيتشه بآخر سنوات عمره، فقال بعض المؤرخون والكتاب أنه كان مصابًا بعدوى الزهري الذي انتقل إليه عن طريق مشاركته بالحرب الفرنسية-البروسية، ومنهم من عزا إنهياره إلى مرض في الدماغ ورثه عن أبيه، ومنهم من زعم أن استخدامه لهيدرات الكلورال -وهو دواء يستخدمه كمهدئ- قد زاد من وهن جهازه العصبي الضعيف أصلًا، ومنهم من قال إن مرضًا عصبيًا ساقه تدريجيًا نحو الجنون. ومنهم من قال أنه عانى من ورم بطيء النمو في قاعدة الجمجمة الأمامية. ولكن أجمع الآراء أن بنية نيتشه العصبية كانت شديدة الحساسية.[٤]فلسفة نيتشهإن الفلاسفة عادة ما يطرحون مذاهب شاملة، تأتي بحلول متحدة الهدف لمختلف المشاكل التي تواجه العقل البشري، فقول أن الفيلسوف هو “صاحب مذهب” قد يلقى اعتراضًا من الفيلسوف نفسه، فالمذاهب بالنسبة للفلاسفة هي تعبير عن نظرة جامدة ومتحجرة تجاه العالم، وفهم ثابت لا يريد أن يتحرك عن الموضع الذي يقف عليه.هكذا كان توجيه نيتشه لحملته تجاه أصحاب المذاهب، وكان أكثر ما يخشاه هو أن يصبح مثلهم صاحب مذهب، فتفنن كل من كتب عنه في كشف مواقف متناقضة له، معللين ذلك بأنهم يريدون الإعلاء من شأنه. كتلك الصورة التي يُصَور بها نيتشه، والتي يتمثل فيها مفكرًا لا يخضع لنظام أو منطق.[٥]الواقعية عند نيتشهمذهب يرى أن الوجود أمر منفصل عن المعرفة الحالية التي تعرفه بها الذوات المدركة؛ لأنه لا يستمد من هذا الإدراك، ولا يعبر عن الفكر بشكل شامل، ولأن فيه شيئًا يتجاوز الفكر، لذا فالأخلاق الواقعية ستكون متعلقة بالأرض وتبتعد عن كل تطرف مثالي يربط الأخلاق بعالم آخر بالمعنى المثالي لهذة الفكرة، وهذة أبرز الصفات الأخلاقية عند نيتشه.الوضعية عند نيتشهترتبط كلمة الوضعية باسم أوجست كونت، والتي استخدمت للتعبير عن آراء طائفة خاصة من المفكرين، تأثروا بالتقدم الكبير الذي أحرزه المنطق والرياضة، فلجأوا لتوحيد الأسس بينهما، بحيث تكون دعامة لتحليل فلسفي يقضي على المشاكل الميتافيزيقية من جذورها. وتشترك الوضعية المنطقية الحالية مع أوجست في كونها تستلهم العلم في كل مراحلها، فتتأثر في بدايتها بالتقدم الذي تحرزة علوم معينة، وتحاول اصطناع مناهجها وتعميمها على التفكير الفلسفي. أثر التقدم العلمي على نيتشه تأثيرًا كبيرًا، حتى أن إحدى فترات تفكيره الفلسفي سميت “بالفترة الوضعية”.البرجماتية عند نيتشهيتشرك نيتشه في الحملة على العقل الخالص ورَدِّه إلى المقتضيات الحيوية للإنسان، بينما نادى فلاسفة معينون بأن العقل خاضع لحاجاتنا النفعية، ويجب إخلاء مساحة لمشاعرنا الباطنة، وللمُثل الأخلاقية، والعقائد الدينية. والواقع من نقد الأسس البرجماتية القديمة، يكاد يكون ترديدًا مباشرًا لآراء سبق ظهورها لدى نيتشه؛ فنقد فكرة الجوهر القديمة، وإخضاع القيم للوجود، كلها تمثل عاملًا مشتركًا بين الطرفين.تحمل نظرية الحقيقة لنيتشه تشابهًا كبيرًا مع النظرية البرجماتية، فتحمس نيتشه في الدفاع عن الحقيقة النسبية، وأن الحقيقة هي ما ينفع الحياة، هنا يتبين مدى التشابه بين نيتشه والمذهب البرجماتي.الوجودية عند نيتشهاتصف تفكير وأسلوب نيتشه بالمرونة الكبيرة، فحرص الكثير من الفلاسفة على أن ينسبوا تفكيره لمذاهبهم، لأنه سيعينهم في دعواهم إلى حد بعيد؛ إذ تقبل كتاباته عدة تفسيرات، وتستطيع المذاهب الأخرى جذبه إليها. ولا شك أن الإرتباط الوثيق بين حياتة وتفكيره، يقرب بينه وبين الوجوديين. ويتم هذا الارتباط عن طريق إثراء الفكر وبعث الحياة فيه، على عكس إمتلاء الحياة واستخلاص الفكر منها. يتولد فهم نيتشه للوجودية من خلال فهمهِ للانسان، من خلال تأكيد تجدد الوجود الإنساني.مراحل تطور فلسفة نيتشهمرت فلسفة نيتشة بثلاثة مراحل أساسية، كان لكل منها صفات خاصة تميزت بها وتأثرت بظروف حياته، وهذه المراحل هي:الأولى: مرحلة فنية رومانتيكية، تمتد ما بين ١٨٦٩ إلى ١٨٧٦، وهي المرحلة التي كان واقعًا فيها تحت تأثير شوبنهور وفانجر، وتنتهي بتخلصه منها.الثانية: مرحلة وضعية نقدية، تمتد من ١٨٧٦ إلى ١٨٨٢، تتميز بالتأثر بالمنهج العلمي.الثالثة: مرحلة صوفية خالصة، تبدأ من كتاب زرداشت في ١٨٩٣ وتستمر إلى ١٨٨٨، تتميز بأن تفكيره مستقل تمامًا ويسير في طريقه الخاص، ويتخذ أسلوبه الشكل الصوفي، لا التحليل النقدي.المعرفة والحياةإن المطلق في فلسفة نيتشه هو الحياة، أما فكرة الحياة فقد بلغت حدًا بعيدًا من الإتساع والعمومية، تجعل الإنسان غير قادرعلى فهم المقصود منها في كثيرمن الأحيان، فالحياة عنده تتحكم في بناء كل القيم، وهي أصل القيم العقلية والأخلاقية؛ أي أنها المبدأ الكامن وراء كل من المعرفة والسلوك