الأخبار العالميّة

“النباهة والاستحمار” في فكر علي شريعتي

(وحدها النباهة الفردية أو النباهة النفسية تعطيك مفاتيح عالمك لتستخرج منه كنزك المخبوء.فلو وقفت أمام المرآة ثلاث أو أربع ساعات يومياً فإنك لن تفلح أبداً في أن ترى نفسك.)

الكاتبة: زهراء مهنا

ليس من باب الاستخفاف بالحيوانات لجأ علي شريعتي إلى استخدام كلمة “الاستحمار” في نظريته الفكرية، ولكنه أراد أن يقتبس جزءاً من العادات السيئة التي تجعل الحمار الحلقة الأضعف ضمن دائرة التوازن البيئي في عالم الحيوان، وهذا أيضاً ما استدلّ به القرآن الكريم في قوله تعالى: “مثل الذين حمّلوا التَّوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً”، إذ لا يعيب القرآن الكريم هنا على الحمار وظيفته التي خُلق لها من حمل الأثقال، لكنه يعيب على من قصّر في حمل الأمانة، واستسهل لنفسه أن يستعير مهمة الحمار، فيحمل في عقله وصدره مقولات العلم دون الدّراية الفكرية، وهذا ما تجد الدكتور علي شريعتي يبيّنه في هذا الكتاب.

يضم كتاب “النباهة والاستحمار” عدة محاضرات مترجمة لعلي شريعتي، تشمل 6 مسائل فكريّة موزّعة على 147 صفحة، وهو من إصدارات دار الأمير للثّقافة والعلوم بطبعته الثّانية، بعدما دمّرت الصّواريخ الإسرائيلية الطبعة الأولى من مؤلفات شريعتي أثناء حرب تموز عام 2006 م.

اعتمدت دار النشر في ترجمتها لمحاضرات شريعتي على منحى “كان يرى” بكامل إحاطتها المعرفية بالكليات والقواعد الفكرية والفلسفية لشريعتي بدلاً من “كان يقول”، مع مراعاتها التصحيح والتحقيق من جهتي الأمانة العلميّة والأمانة الشرعيّة بناء على وصيته التي تركها قبل استشهاده.

رسمت دار الأمير مدخلها إلى الكتاب بمقبلات تتناول آراء المفكرين بعلي شريعتي قبل تقديم الوليمة الفكرية الكبرى التي تصدم القارئ بدسامة الفكرة، وكثافة العِبرة، وعمق النّظرة، وفرادة الأسلوب لديه.

ومن هؤلاء المفكرين الشيخ هاشمي رفسنجاني، والسيد محمود طالقاني، والسيد موسى الصدر، والدّكتور الشهيد مصطفى شمران الذي خاطب علي شريعتي قائلاً: “يا علي، لعلك تعجب عندما أقول لك إني ذهبت خلال الأسبوع الماضي إلى محور المواجهة في بنت جبيل وبقيت عدة أيام في المواقع الأمامية في تل مسعود قضيتها بين المقاتلين، ولم أحمل معي هناك سوى كتاب واحد، وهو كتابك الصحراء”.

ما الذي يميز شريعتي عن غيره من رجال الإصلاح؟
نجحت دار الأمير في هذا الكتاب بإعطاء أرضية متكاملة للقارئ تبسط له سبيل فهم مقولات علي شريعتي ونظرياته من خلال فهم علي شريعتي نفسه، فأوضحت كيف رسم طريق العودة إلى الذات مثل باقي رجالات الإصلاح، وكيف تميز عنهم بالكثافة الإصلاحية، إضافة إلى براعته في معطيين آخرين هما: التجديد وكشف التزوير، موضحةً بذلك جرأته البارزة التي تميز بها على قرائنه من الإصلاحيين في آلية نقد الموروث وتفنيده.

يشرح كتاب “النباهة والاستحمار” ثورة التجديد التي انطلق منها شريعتي لإضفاء الحيوية على النسق النظري التجريدي الذي ينغلق عليه تاريخ الفكر الإسلامي ومساراته الفلسفية والكلامية من خلال تمركز مباحثه على الذات الإلهية والميتافزيقيا فحسب، مهمشةً عن قصد أو غير قصد مباحث الإنسان ووجوده.

فلسفة الاستحمار عند علي شريعتي
صنفت مقولة “الاستحمار” التي يتحدث عنها شريعتي في الكتاب مساره الإصلاحي على علم الاجتماع السياسي. و”الاستحمار”، بحسب شريعتي، هو تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مساره عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية، فرداً كان أم جماعة، معتبراً أي دافع يعمل على تحريف هاتين النباهتين هو دافع استحمار، ولو كان مقدساً.

يقول شريعتي في هذا السياق: “إذا لم تكن حاضر الذهن في الموقف، فكن أينما أردت. ليوضح الكاتب أن الدافع قد يكون مقدساً، لكنك إذا لم تكن تجيد ترتيب الأولويات، وما لم تكن سيد الموقف في اللحظات المصيرية، فقد وقعت ضحية الاستحمار.

ليست الدوافع المتعلقة بالدين وحدها قد تنطوي على ذرائع للاستحمار، كما يعتقد شريعتي، بل يرى شريعتي أيضاً أنها قد تتمثل في مطالعة الكتب العلمية والأدبية أو أكبر اكتشاف علمي أو أي عمل آخر يدلّ على أنّ المستحمِر قد استعمرك وألغى وجودك!

وقدم شريعتي الاستحقار على الاستحمار لاعتبارها أبرز آلية لسلب الشخصية عند الاستكبار العالمي، إذ إن سياسة الاستعباد والاسترقاق تقتضي التحقير أولاً، حتى يظن المحقر أنه بالفعل من طبقة دنية وأسرة منحطة، فيستقبل الذل والعبودية والاسترقاق بصدر رحب ومن دون مقاومة.

وكم نجد هذا الاستحقار متفشياً في يومنا هذا في المنصات الشبابية الإلكترونية، يمرّ عبر نكتة تصور الرجل العربي مثلاً خائناً أو خبلاً أو طويل الأنف عريض البطن أصلع الرأس، فيما يضفي المثالية والذكاء والجمال والقوة والرومنسية على كل ما هو من الغرب!

ما هي النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية اللتان يسلح بهما شريعتي الوجود الإنساني؟

إذا وقفت أمام المرآة ثلاث أو أربع ساعات يومياً، فإنك لن تفلح أبداً في أن ترى نفسك، لكن وحدها النباهة الفردية أو النباهة النفسية تعطيك مفاتيح عالمك لتستخرج منه كنزك المخبوء.

هكذا يرى علي شريعتي أهمية النباهة في بلورة الوجود الإنساني، و”النباهة” عنده هي المعرفة النفسية أو الدراية، وهي فوق معرفة العلم والفلسفة والصنعة، لأنها تلفت انتباهك إلى قيمتك، فقيمة كل أحد بقدر إيمانه بنفسه.

أما النباهة الاجتماعية، فيسميها شريعتي في الكتاب ثقافة الوعي السياسي بالمعنى الأفلاطوني، أي شعور الفرد بمرحلة المصير التاريخي والاجتماعي للمجتمع، وعلاقته بالمجتمع والمقدرات الراهنة بالنسبة إليه وإلى مجتمعه، وعلاقته المتقابلة بأبناء شعبه وأمته، وشعوره بمسؤوليته كرائد وقائد في الطليعة.

معنى ذلك، بحسب ما فهمته عن شريعتي في الكتاب، أن تكون متأهباً دائماً على جبهة رصد واقتناص فرص التغيير المصيرية لأمتك ومناخات التحول المجتمعي الملائمة وتوجهها إلى بوتقة الانتفاضة.

الاستحمار الديني عند شريعتي وجه جديد لترسيخ الاستعباد.

ويرى شريعتي أن الاستحمار ينقسم إلى نوعين: قديم وحديث.

الاستحمار القديم يمتطي صهوة “… الشعر والقومية وتعظيم الماضي والفلسفة والشكر والثواب.. “. أما الاستحمار الحديث، فيستفيد من “التخصص، والتحقيق، والعلم، والقدرة، والتقدم، والحرية الفردية، والحرية الجنسية، والتقليد، والاتباع، وغيره”.

انطلاقاً من ذلك، يرى شريعتي في كتابه أن الدين الاستحماري البعيد كل البعد عن تعاليم الدين الحنيف ومقاصده كان أكبر وأقوى مستحمر في المجتمعات القديمة باعتباره شريك القوة والمال.

“دع الدنيا، فإن عاقبتها الموت. ادخر كل هذه الحاجات والمشاعر والأمنيات إلى الآخرة” . بذلك، يشرح شريعتي في كتابه كيف يقوم الدين الاستحماري بعملية السلب والاستحمار!

هذا على مستوى النباهة الفردية. أما على مستوى النباهة الاجتماعية، فيسلب الدين الاستحماري المسؤولية الاجتماعية للفرد.

كيف يغير كتاب علي شريعتي حياة القارئ؟
لن تقرأ كتاب شريعتي “النباهة والاستحمار” فتعود بعده كما كنت قبله، لأنه يغوص في أعمق احتياجاتك ووجودك الإنساني، فيصدمه صدمة الاستفاقة، كالصدمات الكهربائية التي تعيد انتظام نبضات القلب، فالكثير من العناوين الرنانة والشعارات البراقة تجدها بدون روحية النباهة قد تخضع لخطر الاستحمار، حتى الشعر حين يخدر عنفوان الناس برومنسيته، في الوقت الذي كان عليه أن يحرك حماستهم بتهيجه، وكذلك الفن حين لا يراعي متطلبات عصره وحاجات مجتمعه والزهد والقناعة إن كانا سيدفعانك نحو الحضيض ليتسلق عدوك عمود المجد بعدما أفسحت له الطريق لأنك تنبذ الدنيا وترغب في الآخرة، فتقوي شوكته عليك ويستعمرك ويستعبدك ويسلب منك حظي الدنيا والآخرة.

ستفهم معنى النعمة ومعنى الشكر ومعنى الحرية ومعنى القدرة ومعنى التقدم بعد أن تقرأ الكتاب كما لم تفهمها من قبل، لأنه يفكك منها كل حبائل الحرب النفسية والناعمة التي يمارسها الاستحمار بصورتيه القديمة والحديثة.

وإذا أردت أن تبحث عن إسقاطات لنظريات شريعتي في الكتاب، فستجد واقعنا اليوم كله إسقاطات واستدلالات، وستدرك في تلك الظروف المصيرية التي نعيشها من معركة طوفان الأقصى إلى انتصار سوريا إلى تفوق محور المقاومة وانهيار منظومة القطب الواحد وتفكك السلطة العالمية وتراجع الهيمنة الأميركية وتقدم روسيا في الحرب الأوكرانية وتنبه الشرق لخدعة الليبرالية الحديثة، ففي كل تلك المناخات والظروف السياسية العالمية والتبدلات والتحولات الجوهرية الحضارية، ستدرك كفرد وكجزء من مجتمع وأمة ما الذي عليك فعله.

خاتمة
إن الحياة اليومية التي فرضت وجودها على كل الموجودات، كالحيوانات والجراثيم والنباتات، توقع الإنسان أيضاً في عجلة الدوران الفارغة؛ ذلك الدوران الذي يتمثل في الروتين القاتم يكدح فيه الإنسان من أجل أن يأكل فينام فيستيقظ فيعمل فيأكل، فيصبح كالحمار تماماً يسير صباحاً بجهد وتعب، وبعد السير والسير يرى نفسه أول الليل مكانه أول الصبح، هذا التخدير الذي حذر منه علي شريعتي في كتابه ليقدح الإنسان في داخله شعلة النبوغ والطموح فينتصر لوجوده الإنساني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى