ظهر الفيلم الوثائقي الفرنسي “يلّا غزّة” (Yallah Gazza) قبل الأحداث الأخيرة و يتم عرضه حاليا في عديد التظاهرات الثقافية المساندة للحق الفلسطيني رغم محاولات منع عرضه في فرنسا
الفيلم الذي يبدأ بأغنية “يا طير يا طاير على فلسطين، بالخير صبّحها ومسّيها” حرص مخرجه رولاند نورييه على أن يقدّم للمشاهد الأوروبي، على وجه الخصوص، ما خفي ويخفى عن غزّة، إذ صوّر آثار الحروب الاسرائيلية السابقة عليها متتبعا حياة البسطاء وسط الخراب، والذين يأملون العيش في سلام كجميع الناس على هذه الأرض.
يبدأ الفيلم بالحديث عن تاريخ غزّة وعلاقتها بالمحيط العربي من خلال الهجرات القديمة وصولا إلى حالها بعد نكبة 1948 وقدوم اللاجئين إليها من مختلف المدن الفلسطينية إثر تهجير سلطات الدولة العبرية الناشئة لهم، ومن ثم سكنهم في المخيّمات وأبرزها مخيّم النصيرات، ليشهدوا التحولات التي صاحبت الحروب التالية وسيطرة جيش الاحتلال على غزّة. حيث بقي اللاجئون، مع مرور السنوات، يحلمون بالعودة إلى مدنهم وقراهم ويورثون مفاتيح بيوتهم لأولادهم، في صورة ترمز للأمل لدى الفلسطينيين .
بحسبِ الفيلم، ومشاهدِهِ التي لم تترك لا صغيرة ولا كبيرة في غزّة إلا تناولتها، فلن يسأل عن سبب الطوفان من يتابع تلك المشاهد ويرى كيف تعاملت دولة الاحتلال مع مَسيرات العودة الشعبية السلمية، وكيف واجهتها بالرصاص الحيّ الذي تقصّد، إضافة إلى القتل، بتر أطراف المتظاهرين السائرين نحو السياج الذي يخنقهم عزّلًا إلا من أحلام وطن دفعوا أبهظ الأثمان لأنهم يواصلون حلم السّير نحوه.
ثم في مشاهد أخرى نرى كثيرًا ممن بُترت أطرافهم وهم يقفزون داخل بحر غزّة كأمهرِ السبّاحين، نراهم وهم يلعبون ما يشبه كرة القدم باستخدام عكاكيزِهم على طريقة رياضة الهوكي، ولكن هذه المرّة ليس على ملاعب الجليد، بل فوق رمال غزّة التي، من الواضح، أن كل من يفكّر في استباحتِها سيغرق في تعاريجِها وصمود أهلها.
عديد الحقائق يسردها الفيلم الفيلم الذي تتخلله مشهديات فرح مبثوثة هنا وهناك؛ صبايا وفتيان يدبكون بين الأنقاض… طلبة ينالون أعلى الدرجات من جامعات غزة المحاصرة… فتيات يلعبن كرة القدم… أطفال يعانقون في لحظات هدأة البال رمل بحر غزّة.
وتتخلّله مستويات عدة من الموسيقى المتناسبة من محمول المشهد المعروض، فمرّةً صاخبةً حيويةً عند مرافقتها لِمشاهد الدبكة وتنقّل الشبان على اختلاف أعمارهم من مبنى مهدوم إلى آخر مفعمين بنبض التفوّق على مختلف راهنيات الأسى، وأبجديات الخنوع، رافضين الاكتفاء بالتباكي على حكايات حوّلها العدوان إلى أطلال، ومرّةً وديعة هادئة عند عرض نظرة طفل، أو لوعة أم، أو انتظار فرجٍ لا يجيء، أو أشواق صبي، أو صبية، لِما يتناهى إلى أسماعهم عن حياة غير تلك الحياة، خارج قضبان القفص الذي فيه يُحْبَسون.
الناس في غزّة ليسوا أرقامًا، هذا بعض ما يود الفيلم أن يقوله، لكل منهم قصّته وسرديّته كما هي حال أميرة القرم، الصبية التي فقدت قدمها، لكنها لم تفقد إصرارها على ملاحقة الجاني، وأحمد أبو ارتيمة، وآلاء العمور، ووحيد أبو شهامة، ومريم أبو دقة، وأسماء رفيق كحيّل، وغيرهنّ… وغيرهنّ… وغيرهم… وغيرهم.
يمنح الفيلم مساحة أطول من غيرها لِقصة الصبية أميرة القرم، التي، إضافة إلى فقدها عائلتها، فقدت جزءًا من قدمها (ساقِها)، وجرى تهريبها عبْر الأنفاق، وصولًا إلى سفرها إلى فرنسا لإكمال علاجها، وحين تعلمت لغة أخرى، وعاينت عالمًا آخر، وفهمت حقائق جديدة من العالم الذي يدور حولها، قررت مقاضاة القتلة الذين يتّموها، وآذوها، وشوّهوا، إضافة لِجسدها، روحَها. ربما لم تنجح أميرة في مقاضاة القتلة، لكنها نجحت في إيصال صوتها وصوت بنات وأبناء جيلها داخل قطاع ينتظر الضوء الذي في آخر النفق.
فيلم زاخر بالمشاهد و التصريحات والمقابلات،
“يلّا غزّة” يقدم سردية لا يمكن أن ينتهي الاستنتاج بعدها، إلا أن المقاومة قدرٌ لا بد منه، يتبنّاه شعبٌ يحب الحياة إذا ما استطاع إليها سبيلا.
رولاند نوريير، مخرج فيلم “يلّا غزّة”، أعلن إدانة موقف حكومة بلده فرنسا مما يجري في غزّة من مقتلةٍ وجريمة تطهيرٍ عرقيٍّ موصوفة.
يقدم نوريير فلم “يلّا غزّة” بوصفه جزءًا ثانيًا من فيلمه الأول عن فلسطين الذي حمل عنوان “المدرّعة وشجرة الزيتون” (2019)، ويتناول فيه تاريخ فلسطين منذ بداياتها وحتى اليوم، وفق سرديّة لا تخضع لِما يُفرض من سياقات، ويُكرّس من (كْليشيهات)، وفيه، كما فعل في “يلّا غزّة” يُقابل ويفرد في الفيلم مساحة لِخبراء دوليين، ومؤرخين، ودبلوماسيين في الأمم المتحدة، وخبراء في القانون الدولي، إضافة إلى روايات أصحاب الشأن والحق والتاريخ والمكان.
“المدرّعة وشجرة الزيتون”، هو كما وصفه نقّاد سينمائيون: “توضيحٌ أوليٌّ مبنيٌّ على عناصر واقعية لا تقبل الجدل، للتخلّص من (الكليشيهات) والأفكار المعلّبة والمُسبقة والمفروضة من جهاتٍ بعينِها”