روسيا _ تركيا.. ومُساكنةٌ بدونِ حُبْ.
بقي لإردوغان ملف واحدٌ فقط
** فشل أردوغان في أربعة ملفات من خمسة وبقي ملف العلاقات الثنائية مجالاً للمناورة من الطرفين.
** حاول أردوغان السيطرة على منبج قبل القمة لكن الطيران الروسي كان له رأي آخر..
كان من المهم جدا متابعة زيارة رئيس النظام التركي رجب أردوغان إلى روسيا، ولقائه الرئيس بوتين في سوتشي، لأن في اللقاء مؤشرات عديدة، على الاتجاهات التي تأخذها ملفات المنطقة والعالم.
جاء اللقاء بعد حوالي أحد عشر شهرا من آخر قمة بين الرئيسين، وبعد إعلان ملتبس من الرئيس أردوغان قبل أكثر من شهرين، بعد محادثة هاتفية مع الرئيس بوتين، بأن بوتين سيقوم بزيارة إلى تركيا، قبل أن تنفي موسكو الخبر، ثم إعلان مفاجئ من تركيا منذ حوالي اسبوعين، بأن أردوغان سيزور روسيا، وأرسل على عجل وزير خارجيته “حقان فيدان” للإعداد للقمة، وهذا يؤكد أن القمة كانت بإلحاح من أردوغان.
وحتى نعرف أجواء القمة، وقراءة نتائجها ومؤشراتها ومساراتها، لابد من معرفة الأجواء التي عقدت فيها، وهنا يمكن تسجيل عدة أمور.
– توتر في العلاقات الثنائية، وقرب استحقاقات روسية على تركيا، في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد التركي من أزمات خانقة، ومن مخاطر متوقعة خلال الأشهر المقبلة.
– الانحياز التركي الواضح نحو أوكرانيا.
– انهيار اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود.
– الوضع الحساس في القوقاز.
– التطورات المتسارعة في الوضع السوري.
القمة التي استغرقت ثلاث ساعات، توزعت بين نصف مفتوح، ونصف مغلق، وفي هذه الحالة يمكن قراءة ما تم بحثه في اللقاء المفتوح، من خلال ما ورد في المؤتمر الصحفي الذي أعقب اللقاء، اما ما حدث في اللقاء المغلق، فيقرأ عادة من الصورة التي ظهر بها الرئيسان خلال المؤتمر، ومن لغة الجسد، وقراءة ما وراء الكلمات وما بين الأسطر.
ففي موضوع أوكرانيا، لا يخفي الروس غضبهم من المواقف التركية العدائية تجاه روسيا، وهو ما أدى إلى رفض الرئيس بوتين، عروض أردوغان للوساطة في الحرب.
وفي موضوع اتفاقية نقل الحبوب عبر البحر الأسود، المتعلقة بالوضع الأوكراني، ظهر واضحاً فشل أردوغان في استثمار هذا الموضوع لجني مرابح اقتصادية، ومكاسب سياسية، حيث رفض الرئيس بوتين العودة الى الاتفاقية، كما رفض العرض التركي، لشراء مليون طن من القمح الروسي، بتمويل قطري، وطحنه في تركيا، وإرساله الى الدول الأفريقية.
ولم يكن أمام أردوغان سوى تحميل الغرب المسؤولية عن انهيار الاتفاقية، بسبب عدم التزامهم بما يتعلق بحقوق روسيا، واستحواذهم على النسبة الأكبر من الحبوب المصدرة، وحرمان الدول الفقيرة وخاصة الإفريقية منها، وهو ما كان أحد أسباب تبدل الرأي العام الإفريقي، إلى حالة عداء مع المنظومة الغربية عموما، وفرنسا خصوصاً، ووجد تعبيراً عنه في انقلابات النيجر والغابون.
في موضوع منطقة القوقاز، التي تشكل المجال الحيوي ليس فقط لتركيا وروسيا، وإنما أيضا للصين وإيران، ومن الطبيعي أن لا يترك الروس هذه المنطقة ساحة للعب تركيا في خاصرتها الرخوة، خاصة مع دور تركيا في أذربيجان، وتوجه الحكومة الأرمينية الموالية للغرب، للتشبيك مع الناتو، وهو ما أثار غضب موسكو، وزاد من منسوب التوتر في المنطقة.
وفي الملف السوري، حاول أردوغان أن يأتي إلى سوتشي مع ضربة استراتيجية لبوتين، وللوجود الروسي في سورية، من خلال استشراس عملائه للسيطرة على منبج، تحت ستار ما يجري في الشمال والشرق السوري، لكن الطيران الروسي، الذي بقي صامتا عن كل ما يجري حوله، الا مع عملاء اردوغان، وجه ضربات قاصمة لهم، ومنعهم من تحقيق هدفه، ولياتي أردوغان مجرداً من هذه الورقة، وبما مكن الرئيس بوتين، من توجيه كلمات حاسمة، بتأكيده “يجب الحفاظ على سيادة سورية، ووحدة وسلامة أراضيها، والشعب السوري هو من يقرر مستقبل بلده، بعيداً عن أي إملاءات خارجية” وهو الكلام الذي قابله أردوغان، بصمت ليس صعبا قراءة ما وراءه، من إحباط وخيبة.
بقي محور العلاقات الثنائية بين البلدين، والتي تشبه حالة مساكنة بدون حب، يشكل العامل الاقتصادي، البند الأهم في علاقات البلدين، وهو يميل إلى صالح روسيا بشكل كبير.
ورغم حاجة روسيا إلى النافذة التركية، لكن حاجة تركيا إلى روسيا تبقى أكبر بكثير، وبما يسمح بتشكيل عامل ضغط روسي على تركيا، وهو ما حاول الرئيس بوين إظهاره، من خلال استعراضه بعض نقاط العلاقات بين البلدين، حيث أعلن في المؤتمر الصحفي، أن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ 62 مليار دولار، وهو ما يعادل ضعف حجم التبادل التجاري بين تركيا والولايات المتحدة، ويشكل عامل قلق لدول الغرب، عبر عنه مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي العنصري “جوزيف بوريل” الذي صرح بأن “ارتفاع حجم التبادل التجاري بين تركيا وروسيا، يشكل مصدر قلق للاتحاد الأوروبي”.
كما تحدث بوتين عن السياحة الروسية إلى تركيا، والتي وصلت إلى حوالي خمسة ملايين سائح، وعن إنشاء مركز للغاز في تركيا، بينما تحدث أردوغان عن انشاء روسيا، لمحطة جديدة ثانية للطاقة النووية، في مدينة سينتوب التركية.
كما يظهر الخبراء الاقتصاديون، جملة من الحقائق حول العلاقات الثنائية الروسية التركية، حيث ارتفعت حصة روسيا من الصادرات التركية من 1.9% عام 2022 إلى 5% عام 2023، فيما تكسب تركيا مليارات الدولارات، من خلال إعادة بيع البضائع الغربية إلى روسيا.
كما تنتهي مع نهاية هذا العام، فترة السماح لسداد الديون التركية إلى روسيا مقابل الغاز.
كل ذلك يجري وسط توقعات بانخفاض النمو الاقتصادي التركي، وبأن الأشهر المقبلة ستشهد انفجار أزمة العقارات التركية، وما تسببه من انهيار في سوق الأسهم، ومزيدا من هبوط الليرة التركية، ليصبح مصير السياسة الاقتصادية لتركيا، يعتمد إلى حد كبير على قدرة تركيا على الحصول على الطاقة الروسية الرخيصة، والسياحة الروسية، وما يمكن أن تكتسبه من تجارة الحبوب الروسية والأوكرانية.
هذه المعلومات والأرقام تؤكد، أن روسيا تمتلك أوراقا كبيرة تضغط فيها على أردوغان، رغم محاولاته اللعب على هامش التناقضات الإقليمية والدولية، ومحاولة إظهار عوامل قوة حتى في وجه روسيا، لكن الحديث في النهاية سيكون للأرقام والمصالح، وهو المجال الذي يحاول من خلاله الروسي المناورة في علاقاته مع تركيا، وفي علاقات تركيا مع دول الغرب، التي خذلت تركيا كثيراً، حتى ظهر أن بوتين ترك لأردوغان موضوع العلاقات الثنائية ساحة للحركة، لكن أيضاً بما يضمن الأهداف الروسية، حيث دعاه للتعامل بين البلدين بالعملات المحلية، وقي هذه النقطة يعمل بوتين، على هدف روسيا الاستراتيجي بعزل الدولار.
لكن هذا الكرم الروسي ليس بدون حدود، حيث لوحظ رفض موسكو وبكين، قبول تركيا في منظومة البريكس، رغم أنها تمتلك شروطاً أكبر للقبول من دول تم قبولها في المنظمة، وتحديدا إيران والسعودية والإمارات ومصر، في مؤشرات سياسية أبعد وأخطر بكثير من موضوع البريكس، يقول ملخصها بأن رؤوس المنظومة الشرقية متعددة الأقطاب، الصاعدة بقوة لتسيد العالم (بكين – موسكو – طهران) تتلاقى مصالحها، على معرفة ما تشكله تركيا من أخطار على أمنها القومي، ومجمل ملفاتها الاستراتيجية، وهي لا تحتمل قبول تركيا باقتصاد قوي، ولا حتى في شكلها الراهن، ولهذا حديث آخر.
أحمد رفعت يوسف