معنى التطبيع ومناهضته في زماننا
إبراهيم علوش- الميادين نت
كنت عاكفاً على وضع مادة أخرى في الاقتصاد الدولي للميادين نت عندما وقعت مصادفةً على تقريرٍ إخباريٍ تدافع فيها شخصية فنية عربية عن ممارستها للتطبيع بما يلي: “فلسطينيون تواصلوا معي للمشاركة في الحفل.. أصوات فلسطينية مع أصوات عربية، والتنظيم فلسطيني.. ما المشكل في ذلك؟ دخلت إلى فلسطين عبر ختم فلسطيني، ولم اتعامل بأيّ شكل من الأشكال مع أيّ “إسرائيلي” “.
وأردفت تلك الشخصية أنّ “زيارة السجين لا يُمكن أن تكون تطبيعا مع السجّان”، مؤكّدة على أنّ “المشاركة في الحفل لا تعني التطبيع بل هو نوع من المقاومة”.
هي سرديةٌ ليست جديدة في تبرير التطبيع مع العدو الصهيوني، بل باتت ممجوجةً تقريباً، إذ إنها النسخة المحدثة، 2.0، من ذريعة الأنظمة المطبعة بأنها تطبع “كي تتمكن من تقديم مساعدات إنسانية للفلسطينيين”؛ وهناك نسخة دينية عنوانها: “شد الرحال إلى المسجد الأقصى، أو كنيسة القيامة” (في ظل الاحتلال)؛ وهناك نسخة ثقافية “واسعة الصدر” عنوانها ترجمة الأدب والفن العبريين، من رواية وشعر ومسرح وأغنية وسينما، إلى العربية، وترويجهما لدى الجمهور العربي، “كي نعرف الآخر… أو عدونا”، بحسب المُخرِج، والمآل دوماً هو أنسنة المحتل الغاصب وإدخاله في نسيج المنطقة ثقافياً.
والآن يعزف كثيرون على وتر جديد: “هل التواصل مع أهلنا في الداخل المحتل جريمة؟”، أو “هل المشاركة في نشاط نظمه فلسطينيون تحت الاحتلال جريمة؟”.
في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن أحداً لا يدخل فلسطين المحتلة من دون موافقة صهيونية، حتى لو لم يتعامل مقدم الطلب مع الاحتلال مباشرة، إذ لا يستطيع مسؤولٌ في السلطة الفلسطينية الانتقال من منطقة إلى أخرى في الضفة الغربية من دون موافقة الاحتلال. لذلك، فإن “التصريح” المزعوم لدخول فلسطين ليس سوى فيزا “إسرائيلية”، عبر وكيل فلسطيني. ولو لم يرَ الاحتلال فائدةً تطبيعية، سياسياً أو ثقافياً أو تجارياً، في منح مثل تلك التصاريح، عبر وكيل فلسطيني، بعد تدقيقها أمنياً، لما منحها، بصرف النظر عما يوهم به الزائر نفسه.
النقطة الأهم هي أن معاناة الفلسطينيين والجولانيين سببها الاحتلال، لذلك فإن دعمهم لا يكون بمد الاحتلال بالمشروعية السياسية عبر الاعتراف به والتعامل معه كأنه ذو “حقٍ سياديٍ”، عبر الحصول على فيزا أو تصريح منه، بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة، لزيارة أرضنا العربية المحتلة.
كما أن المشاركة في نشاط شروطه تطبيعية يظل تطبيعاً، ولو كان القائم عليه عربياً. أما ما يجري فعلياً هنا، عبر تلك النشاطات، فهو منح وكيل الاحتلال مشروعيةً عربيةً، شعبياً وثقافياً وفنياً ورياضياً، يغطي بها دوره الرئيس الذي قام من أجله، بموجب اتفاقية أوسلو: التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني ضد المقاومة والمقاومين، والصفقة السياسية التي عقدها على هذا الأساس.
هذا بدوره تطبيعٌ بالوكالة، تزداد خطورته بمقدار ما تزداد الشخصية التي تقوم به بروزاً في المجتمع العربي. فنحن لا نتعامل مع منطقة محررة هنا، بل مع سلطة تعمل بشروط الاحتلال وتحت سقفه. وشتان ما بين دعم ذلك الوكيل، وبين تقديم الدعم لأهلنا في ظل الاحتلال، من الضفة إلى غزة إلى الأرض المحتلة عام 1948 إلى الجولان، عبر قنوات وشروط معينة، وعلى رأسها دعم المقاومة والمقاومين وعناصر الصمود تحت الاحتلال، لمن ينوي خيراً بالفعل. أما زيارة الأقصى (أو القيامة) ومقدسات القدس تحت الاحتلال، من طرف غير المقيمين تحت الاحتلال، فتطبيعٌ كيفما قلبنا المسألة.
في تعريف مصطلح التطبيع ومناهضته
يعني التطبيع، اصطلاحاً، جعل ما هو غير طبيعي طبيعياً. ولا يعني التطبيع “إعادة الأمور إلى طبيعتها”، كما يظن البعض. فكلمة “طبّع”، تعني جبل الإنسان، أو المجتمع، أو الحالة المستهدفة مجتمعياً، على طبْعٍ ما، كثيراً ما لا يكون أصيلاً في الهدف المراد تطبيعه، حتى يصبح ذلك الطبع “دمغةً” أو “طبعةً” ملاصقةً له، وإلا لما احتاج الأمرُ إلى تطبيعٍ لو كانت تلك الصفة المستجدة من سجاياه الأصلية.
لهذا يقال في علم الإحصاء مثلاً “تطبيع البيانات” Normalization of Data، إي جعل تلك البيانات متسقةً مع التوزيع الاحتمالي الطبيعي عبر تشذيب “الشاذ” منها.
تبقى المعضلة الخلافية سياسياً في تحديد ما يعد طبيعياً، وما يعد غير طبيعي، ومن وجهة نظر من؟ هل التعامل مع الاحتلال بصورةٍ طبيعية مثلاً، أي من دون حواجز ولا عداء، أمرٌ طبيعي؟
لا شك في أن الاحتلال وداعميه يرغبون بشدة في تصوير التعامل العادي والسلمي معه بأنه أمرٌ طبيعيٌ، لأن ذلك يمثل اعترافاً بـ”الأمر الواقع”، أي بالاحتلال ومشروعيته وقوانينه.
أما الواقعون تحت الاحتلال، الحافظون لتوازنهم، فمن الطبيعي أن يروا التطبيع مع المحتل شذوذاً. ومن هنا، لا غبار بتاتاً على القول: لا للتطبيع مع العدو الصهيوني، أي لا لجعل العلاقات مع المحتل طبيعية، أي سلمية، من دون حواجز ولا عداء. والمرجعية المتضمنة هنا اعتبار المجتمع العادي مسالماً لا عدوانياً، إن لم يوجد سبب طبيعي يستثير عداءه، مثل تعرضه للاحتلال.
يعني التطبيع إذاً جعل العلاقات عادية وسلمية بين طرفين ليست العلاقات بينهما حالياً طبيعيةً، سواءٌ كانت طبيعية سابقاً أم لا. فالحديث عن مناهضة تطبيع لا يعني بالضرورة أن العلاقات كانت طبيعية يوماً ما.
لكن يمكن القول، بعد أن أصبحت العلاقات “طبيعية”، للأسف، بين بعض الأنظمة العربية والعدو الصهيوني، إن المطلوب سياسياً اليوم هو ممارسة ضغط شعبي عربي حثيث لإعادة تلك العلاقات إلى حالة غير عادية وغير سلمية، أي إلى صورةٍ غير طبيعية، إذا افترضنا ضمناً أن العلاقات الدولية يفترض أن تكون سلمية، وأن العلاقة مع المحتل (ووكلائه) من الطبيعي أن تكون عدائية.
يضاف أن مصطلح تطبيع، على وزن تفعيل، هو عملية أو صيرورة، تتضمن تدرجاً في الترويض، جوهره كسر الحواجز تباعاً، وصولاً إلى غاية إنشاء طبع ملتبسٍ كحالة “طبيعية”، هو في هذه الحالة تقّبُل التعامل مع الاحتلال وأدواته بصورةٍ عاديةٍ، كأنه ليس احتلالاً، وكأنها ليست أدوات.
نتحدث هنا إذاً عن برنامج أو خطة عمل، متعددة الأذرع، من تمرير المصطلح المخترق خطابياً، إلى إبراز الشخصية الصهيونية أو “العربية” المطبّعة إعلامياً، إلى توزيع جوائز فردية لمن ينتهكون محظورات التطبيع مع الاحتلال رياضياً وفنياً وثقافياً وتجارياً، فإذا تحققت غاية التطبيع يُطرحون جانباً كمنديلٍ ورقيٍ مستعمل.
إنّ استراتيجية كل تلك الأدوات هي تجاوز الدفاعات المجتمعية باختراقات فردية، في البداية، يمكن أن تصبح رؤوس جسورٍ عائمة لإعادة برمجة الوعي المجتمعي تطبيعياً، إن لم تحاصر وتعزل. ويلي ذلك وضع برامجَ عامةٍ تستهدف قطاعات مجتمعية كافةً من: الطلاب، النساء، التجار، الإعلاميون، المثقفون، الفنانون، إلخ… وندخل في التطبيع في كل قول أو فعل يتعامل مع الاحتلال، وما يمثله، كأمرٍ طبيعي.
مقاومو التطبيع، في هذا المشهد، هم كريات الدم البيضاء التي يطلقها المجتمع في مواجهة فايروسات التطبيع على صعد مواجهة الاختراق كافةً. لذلك، لا يجوز أن يستخف أيٌ منا بالكلمة والعمل والموقف الذي يتخذه في مواجهة التطبيع، ولو كان منشوراً صغيراً عبر وسائل التواصل، أو مقاطعةً فرديةً لشخصٍ ارتكب فعلاً تطبيعياً. فنحن جيشٌ كبيرٌ اسمه الشعب العربي لو لم يكن هدفاً عظيماً في عين العدو المحتل لما استُهدف بمشروع اختراقٍ متشعبٍ ومعقدٍ وطويل المدى.
خطان ونهجان في مناهضة التطبيع
المشكلة في مناهضة التطبيع، أو في المقاومة بصورةٍ عامةٍ، هي أن البعض يتخذها مطيةً لتحسين شروط علاقته مع العدو الصهيوني، فيما يراها البعض الآخر استراتيجيةً تحصين دفاعيةً، ريثما تحين الظروف للقضاء على العدو الصهيوني قضاءً مبرماً واقتلاعه من أرضنا تماماً.
الفرق كبيرٌ جداً، إذ يتعامل الطرف الأول مع مناهضة التطبيع (والمقاومة) من منظور براغماتي مصلحي عابر، يمكن أن يستبدلهما بالود في لحظة ملائمة، في حين يتعامل معهما الطرف الثاني من منظور مبدئي مشتق من مصلحة المجتمع العربي في صد الاختراقات، ريثما تحين لحظة الهجوم، على الرغم من أن فعل مناهضة التطبيع ذاته (أو حتى المقاومة عسكرياً) قد يبدو متشابهاً للوهلة الأولى.
فشتان بين من لا يعترف بحق الكيان الصهيوني في الوجود، بصرف النظر عن شروط العلاقة معه، وبين من يرى أن الكيان الصهيوني لا يعترف بوجودِه، أو أن الكيان الصهيوني يود أن يقيم معه علاقاتٍ تطبيعيةً بشروطٍ قد تهدد استقرارَه ووجودَه.
لا تتعلق المشكلة هنا بالضرورة بشخصيات أو قيادات أو حركات انتهازية بعينها تضحي بالعام من أجل الخاص، على الرغم من أن الأمثلة لا تعد ولا تحصى، بل تتعلق بعقلية انتهازية سياسياً قد تتغير عناوينها وأغلفتها وأسماء مروجيها، لكنّ جوهرها يبقى واحداً: الاستعداد للمساومة على حق الكيان الصهيوني في الوجود، والاستعداد للتعايش مع الصهيونية، إذا تحسنت شروط الصفقة.
تدخل فئاتٌ كثيرةٌ في هذا الباب، على رأسها أصحاب البرامج التالية:
أ – برنامج إقامة دويلة على كسرةٍ من فلسطين يعترف بها الكيان الصهيوني وداعموه، وإلا فإننا نقاطعه.
ب – برنامج “إصلاح الكيان الصهيوني من الداخل”، عبر جعله “أقل عنصريةً”، من خلال المقاطعة السلمية، أي برنامج ما يسمى “الدولة الواحدة” (على غرار جنوب إفريقيا).
وكلا البرنامجين يتضمن اعترافاً بـ”حق” الكيان الصهيوني في الوجود، ويمارس مناهضة التطبيع أو المقاطعة لتحسين شروط العلاقة معه فحسب.
وكثيراً ما نجد بعض أصحاب هذين البرنامجين يدلفون إلى سقوفٍ أدنى بكثير، متخلين عن المقاطعة ومناهضة التطبيع حتى “لفرض التعايش” على الكيان الصهيوني. فهنالك مثلاً دعاة “إغواء الرأي العام في الكيان الصهيوني بالود والتنسيق الأمني، حتى يسقط متيماً بين أذرعنا، ويرضخ عن طيب خاطرٍ لمطالبنا”، وهي الاستراتيجية العليا للسلطة الفلسطينية، على ما يبدو.
وهنالك أيضاً أصحاب عقد النقص إزاء الخواجة الإفرنجي الذين يبنون استراتيجيتهم على “كسب الدول الغربية إلى صفنا، حتى تضغط على الكيان الصهيوني ضغطاً محكماً، وتلزمه باحترام القانون الدولي الإنساني على الأقل”، و”إن ذلك أكثر فائدةً للفلسطينيين من التشدق بالشعارات الكبيرة”، وهو ديدن الجمعيات غير الحكومية الممولة غربياً والليبراليين العرب.
ونجد مثل هؤلاء يقبلون على تقبل “الآخر” (المحتل) وأنسنته، وعلى “نقد المجتمع العربي ونقائصه”، في آنٍ واحد. ويكثر تداول عملة “المحتلين التقدميين” بين أولئك كمصداقٍ لـ”تساميهم ليبرالياً” وتجردهم من أي انتماء “ضيق”، وطنياً أو قومياً أو حضارياً. فالمهم هو “الإنسان”، الفرد المطلق، المتمرد بلا قضية، والعابر كطائرةٍ نفاثةٍ فوق المناطق الزمنية.
تنضوي الفئتان أعلاه تحت باب التطبيع مجاناً طبعاً. لكنّ من يجعل للتطبيع “ثمناً” لا يبتعد عنهما كثيراً في المحصلة، لأنه قدم مسبقاً استعداده للاعتراف بحق الكيان الصهيوني في الوجود.
وإذا كان من الضروري والمهم دعم كل حالة مناهضة للتطبيع وتعزيزها، فإنه يتوجب الحذر من الانجرار إلى تقديم تنازلٍ على الأساس (أي على حق الكيان الصهيوني في الوجود) الذي تتبناه بعض حركات مناهضة التطبيع تحت عنوان “الشرعية الدولية” أو “الدولة الواحدة” أو “مناهضة العنصرية” (فحسب، لا الاحتلال).
تلك هي الحركات هي التي يجري إبرازها شعبياً وإعلامياً بالمناسبة لأن سقفها تطبيعي، فهي أشبه باختراقٍ تطبيعي في حركة مناهضة التطبيع. فإذا أخذنا نشاطها بالقطعة، فإنه يبدو رائعاً وجديراً بالدعم، أما إذا نظرنا إلى برنامجها السياسي وسقفه، وإلى سعيها لزرع “محتلين تقدميين” في الصفوف، وإلى تلميحات قادتها بأنها تقدم لشعبنا بديلاً، لا مكملاً، للعمل المسلح، فهناك يظهر مآلها وجوهرها.
ما الذي نناهض التطبيع معه بالضبط؟
إن هناك من يناهض “إسرائيل” لأنها تحتل أراضي عربية منذ عام 1967، وهناك من يناهضها لأنها تمارس العنصرية إزاء العرب الفلسطينيين من مواطنيها، وهناك من يناهضها نتيجة سجلها الطويل من الاعتداءات على البلدان العربية، إلخ… فإذا كفت عن هذا، أو خففت منه، لا تعود لديه مشكلة معها.
لكنّ كل ذلك، على أهميته، ليس سوى عوارض، ولا ينفذ إلى كنه الكيان الصهيوني وهيولته الأولى باعتباره كياناً استيطانياً إحلالياً، لا احتلالاً عسكرياً فحسب. كما أنه يقفز فوق الصهيونية حركةً ومشروعاً وتجلياتٍ. فالصهيونية، تاريخياً، هي:
أ – الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والمستمرة إلى اليوم.
ب – الاستيطان اليهودي في فلسطين، والمستمر إلى اليوم.
ج – إقامة دولة يهودية في “أرض إسرائيل” المزعومة.
د – تطبيع “الدول المجاورة وشعوبها” على “تقبل استيطان الشعب اليهودي ذي السيادة على أرضه”، كما ورد نصاً في “إعلان استقلالهم”.
لذلك، تعني مناهضة الصهيونية، وهو مصطلح أشمل من مناهضة التطبيع، مناهضة التجلي الديموغرافي للمشروع الصهيوني في الأرض المحتلة، أي تفكيك الكيان المصطنع الذي أنشأته الحركة الصهيونية وداعموها في فلسطين. أما مناهضة هذه الخطوة السياسية أو تلك لحكومات الكيان الصهيوني فاسمه “مناهضة السياسات الإسرائيلية”، وشتان ما بين هذا وبين مناهضة الصهيونية.
ونلاحظ بأن جهات مختلفة حول العالم تعمل على تخفيض سقف مناهضة الصهيونية إلى مناهضة سياسات “إسرائيلية” بعينها (مثل ضم القدس أو الجولان، أو إعلان القدس عاصمةً أبدية، إلخ…)، في حين تمثل تلك السياسات تجلياتٍ متجددةً لجوهر المشروع الصهيوني ذاته.
إن تفكيك المشروع الصهيوني في فلسطين يعني تفكيك الكيان الصهيوني مجتمعاً وجيشاً ودولةً، أي أنه يعني ببساطة رحيل المحتل، عامودياً أو أفقياً، وهو المفهوم الشعبي العربي لتحرير فلسطين، وهو المفهوم الأنقى والأسلم والأبسط من كل فذلكات المتفذلكين وبرامجهم. ومن يترك أي مكون من مكونات هذا المشروع سالماً، فإنه يترك باباً لعودة الاحتلال من النافذة حيث خرج من الباب.
إن مناهضة التطبيع في هذا السياق تؤدي دور محاصرة الكيان ومؤسساته ومشاريعه ريثما تكتمل شروط تحرير فلسطين، بالمعنى أعلاه. أما ممارسة التطبيع فتنبثق بالضرورة من قصورٍ في الوعي العام، لأن المصلحة العامة للشعب العربي تقتضي مناهضة التطبيع جذرياً. وفقط عند الانطلاق من وعي فردي (أي مصلحة خاصة انتهازية)، أو وعي فئوي، طائفي أو عشائري أو مناطقي أو قُطري، يبدأ الوسواس الخناس في مراودة النفس عن التطبيع و”فوائده المحتملة”. لكنه طريق الهاوية، لأن مصلحة أي شريحة من شرائح المجتمع العربي تتكامل مع مصلحة الكل، ولا تتناقض معها.
يشار هنا إلى أن المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبياً، بتركيزها على بث الفكر الليبرالي، المنبثق من وعي فردي متذرر، براغماتي ولاتاريخي، تشكل موضوعياً حاضنة للخط التطبيعي، لأن شيوع المذهب الفردي يؤدي بالضرورة إلى تفكيك الوعي العام، الذي يحصن المواطنين العرب من الاختراقات التطبيعية.
يشار أيضاً إلى أن الصيغة “الإبراهيمية”، كمحاولة لاختراق الوعي الديني تطبيعياً، هي مشروع تهويد للمسيحية والإسلام، وبالتالي تهويد وعي أتباعهما. وإذا كان مشروع إنشاء “مسيحية متصهينة” قد قطع شوطاً بعيداً في الغرب، وما برحت المسيحية المشرقية تأنف منه، فإن “الإبراهيمية” هي مشروع إنشاء “إسلام متصهين”، والإسلام والمسيحية من بدعة “الإبراهيمية” براء.
أخيراً، سيجد من يندفعون باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني أنهم يصطدمون بالعقبات التالية:
أ – أن ما يسمى “المجتمع الإسرائيلي” عبارة عن فسيفساء مفبركة، لكنه “مجتمع” لا يستطيع أن يحسم أمر هويته الثقافية، وما إذا كانت شرقيةً أم غربيةً متأوربةً، لأنه كيان هجين وغير طبيعي مفروض على المنطقة، وهذا أحد أهم عوامل الأزمة المعتملة في الكيان حالياً.
ب – أن خلف كل واجهات “المجتمع الإسرائيلي” الليبرالية و”اليسارية” المزيفة، توجد عقلية تقوقع واستعلاء شوفينيين، ترى علاقة اليهود مع “الأغيار” علاقة تفوق وهيمنة، بذرائع دينية أو دنيوية معلمنة.
ج – أن عقيدة “المحرقة”، التي يشكل الامتثال لتعاليمها شرطاً من شروط التطبيع ثقافياً، تعني، فيما تعنيه، تقبل وجود “ملجأ لليهود من لاسامية هذا العالم”، أي تقبل احتلال فلسطين، وتقبل النفوذ غير المقيد للحركة الصهيونية العالمية وتقبل بقاء الكيان الصهيوني فوق المساءلة، تحت وطأة الاتهام بـ”اللاسامية”، كما أوضحت في معالجات أخرى.
إن كل ما سبق يعني أن العلاقة التطبيعية لا يمكن أن تكون متكافئة، وأنها تتطلب إذعاناً مسبقاً من المطبع، أي أن جوهر التطبيع فعلياً هو القبول بعلاقة هيمنة.