المقالات

الجندي المصري وموسيقى المقاومة العربية

بقلم: أ. د. مَكرم خُوري – مَخّول. .

تسجيل وتوزيع الجندي المصري علي السيّد وهو يغني اغنية شيرين عبد الوهاب “سلّم على الشهداء اللي معاك” قبل ان يقوم بتنفيذ العملية الاستشهادية على حدود مصر وفلسطين يوم السبت ٣ حزيران ٢٠٢٣ تحمل مؤشرات سياسية جماهيرية موسيقية متعددة الأوجه:
١. يظهر الجندي المصري علي السّيد بزيه العسكري المصري الأنيق والنظيف في وقفة مرتاحة تعبر عن ثباته النفسي وإيمانه بكلمات الاغنية حاملا بارودة (كما يبدو قطعة سلاح كلاشينكوف قديمة) وبوجه مبتسم يغني بصوته الجياش الحنون المتناغم والمتشابك لحناً (في موقع فيه صدى لصوته؟) مع كلمات توفر الحشد النفسي ليوفر سياقا لما سيقدم عليه لاحقا (على أساس أنه منفذ العملية الفدائية).
٢. باختياره أغنية وطنية قومية غير شعاراتية بعيدة عن الابتهالات الدينية والآيات القرآنية إنما يعيد العمق القومي للعمل الفدائي المقاوم ولدور الجيش (ولو أنه نفر واحد) لكي يشير أن أصل النضال هو لصالح قضية تحرر قومي وليس صراعا دينيا كما يحاول الاحتلال تحويله. وحتى ولو اتضح (مثلا) لاحقا أن الجندي الذي أدى الأغنية ليس هو الجندي الفدائي فإن تحول وسمه وتوزيع الأغنية قد طبع كل مركبات هذه العملية في الأذهان وبات من المتأخر قلبها في الوعي.

٢. باستعماله وسائل التواصل الاجتماعي وعبر هذا التسجيل الذاتي المستقل وتوزيعه، استطاع الالتفاف حول مقصات الرقيب أو حراس خنق حرية التعبير و “الناطقين”، ليوصل رسالة مباشرة للأمة العربية حول موقف جندي مصري قد يعبر عن موقف قطاع كبير من الشعب المصري تجاه الاحتلال الإسرائيلي لا شأن له بالعلاقات الرسمية بين النظامين. بهذه العملية يعيد الجندي علي السيّد الى الوعي، ذهنية الجندي المصري المقاوم البطل في حقبة مصر العروبة – مصر الراحل الزعيم جمال عبد الناصر.
٣. رغم أن عمر الأغنية لا يتعدى عقد من الزمن وكان قد تم انتاجها واخراجها في عام ٢٠١٤ في اعقاب تفجيرات الأعمال الارهابية التي استهدفت بالأساس جنود مصريين في أماكن عديدة على اراضي جمهورية مصر العربية، ولكن استهدفت أيضا المدنيين، الا أن ربطها بعملية فدائية قام هو بها بشكل مبادرة شخصية إنما تعود لترمي الكرة على الطرف الآخر: من العدوان الإرهابي الداخلي الذي يقوم به أعداء الوطن في الداخل – رغم أنهم عملاء للخارج – يعيد رميها على من يعتبرهم العدو الأول: الاحتلال الإسرائيلي.

٤. فور إشهار الأغنية ونتيجة لرفض الشعب المصري للعمليات الارهابية ولتعاطف الشعب المصري مع الجيش المصري، نالت الأغنية وهي من تأليف (كلمات) أيمن بهجت قمر وألحان وتوزيع خالد عز إعجاب الملايين في عملية تواصل نفسي أسرارها ليست خفية مع أنها تبدو كالجمر المكمور الذي ينتظر أن يتم تحريكه.

٥. إن القوة الرمزية لما فعله الجندي المصري على السيّد تكمن في أنه قام بإعادة شبك السياق المصري (الوطني والناصري العروبي والقومي) والعربي مع فلسطين من بابها المقاوم الأوسع.

٦. إن المعاني المركزية لكلمات الأغنية تتماهى تماما مع المقاومة بشكل عام والمقاومة الفلسطينية بشكل خاص: ففي كلمات: “عمرك كان ثمن الحرية لكن بلدك مش ناسياك” – يشدد هذا السطر على انهزام عملية كي الوعي (عبر أدوات التطبيع…منذ عهد محمد أنور السادات واتفاقية التصفية (كامب ديفيد) ولغاية اليوم في نقاط مبعثرة من النظام الرسمي “العربي”) ومحاولات طمس الذاكرة التي تشحذ المواقف الوطنية – القومية. في سطر: “وشك (وجهك) متزوق بالضي وأمك صبرها انك حي”، يتم ربط وجه الشهيد المصري في الذكرى الـ٧٥ للنكبة والذكرى الـ ٤٦ للنكسة (وتضحيات الجيش المصري لأجل فلسطين كانت طلائعية لا تعد ولا تحصى) مع وجه كل شهيد فلسطيني في الوقت الحالي. الأقوى هي جملة “وأمك صبرها أنك حي” التي تربط الإشارات على أسارير الأم الفلسطينية الثكلى – أم الشهيد – الفدائي – عند وداع أبنها المقاوم بوجه أم الشهيد العربية – المصرية مع دلائل سيميائية تشحذ بقوة الكلمات العاطفية النخاع الشوكي للنفس العربية المقاومة وبالتحديد الصامتة منها. سطر “إللي حصل دا ثوابة عظيم والليلة شهادة وتكريم” – تشدد على أحقية الشهيد بالتكريم الوطني كبطل وتؤكد أن عملية الاستشهاد بأسلوب المقاومة في سبيل تحرير الوطن هي عملية مباركة. في سطر “بص على السما بتزغرطلك وملايكة فى فرحك معازيم” يتم الربط ما بين التضحية (ورغم الموت لبعث الحياة) مع فرحة النضال وشحن استمراره. إنه مشهد جنازة تتحول الى فرح (زيانة العريس) في عملية يصل فيها العنفوان النفسي الى ذروته عندما يتحول الموت – هذا الاستشهاد من أجل الوطن – إلى عملية مفرحة، كنت قد أسميتها بالتحديد في السياق الفلسطيني بعملية “الحدادبكة”، – إذ تُزاوج الحداد على الفقدان والخسارة ولوعة الأم – مع الشعور بالفخر والاعتزاز على تقديم التضحية والتواجد في مقدمة النضال. أما سطر: “وحياتك فى وراك اخواتك ارتاح انت وحقك جاى” فيحمل في طياته معاني استمرار النضال بواسطة من تبقى والذين سيقومون بالسير على درب الاستشهاد والتحرير والانتقام لمن استشهد لنيل الحق الذي لا يموت واعدين بأنه سيأتي. أما سطر الافتتاح: “سلم على الشهداء اللى معاك – سلم على كل اللى هناك” فيوفر عملية الوفاء في التواصل ما بين من استشهد في الماضي ومن يستشهد في الحاضر المستمر ومن هو مشروع شهادة مستقبلي في رسالة أنه ما ضاع حق خلفه مطالب.

٧. ليست وظائف اللغة العربية بأنواعها (شعرا ونثرا، فصحى وعامية) غريبة عن العمل الموسيقي الذي يتم تجنيده ضد الاستعمار ولشحذ العمل الفدائي المقاوم. كما أن هذا النوع من العمل الفني لا يقتصر على الفلسطينيين (رغم استمرار نضالهم ومركزيته) وإنما نجد هذا النتاج في أقطار عربية متعددة وفي طليعتها مصر وبالتأكيد لصالح القضية الفلسطينية. ولكن ما يسلط الضوء على تزاوج الأداء الغنائي للجندي المصري قبل عمليته الفدائية هو أن هذه العملية تمت من المستوى الشعبي “البسيط” – من جذور القاعدة الجماهيرية التي لا ترتبط ارتباطا مباشرا عبر تلقي الأوامر من الرئاسة العسكرية أو السياسية للبلد، وإنما من فهم شخصي وتحرك فردي لهذا الجندي أو ذاك. هذه العملية الفدائية للجندي علي السيّد إنما أتت لتسلط الضوء مرة أخرى على تزاوج اللغة والموسيقى العربية ومنذ قرن على الأقل بدورها في محاربة الظلم السياسي وسبل استعمال وسائل الموسيقى (وليس من الضير الاستفادة من حركة “مدرسة فرانكفورت” الأكاديمية الفلسفية الاجتماعية النقدية في دور خلق “صناعة الثقافة” الجماهيرية)، في سياقها الحالي عبر تجيير وسائل التواصل في النصال الجماهيري ضد الاحتلال وعلى كيف يمكن أن تسير المقاومة على إيقاع الموسيقى كرافعة نضالية مقاومة تساعد على الدفاع عن الخط القومي وصقل الرأي العام عبر عمليات فردية ومرافقة موسيقية، لكنها معبرة عن إصرار في استمرار النضال بأشكاله المتعددة.

  • أكاديمي فلسطيني بريطاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى