مقالات

الجنائية الدولية والسقوط في الحبائل الأميركية. . .

العهد

رغم إقرار مسؤولين أميركيين وأوروبيين أن زمن التغول الأميركي يتراجع وهو في طريقه إلى الأفول، وأنه حمل في تكوينه بذور نهايته، والتوقع أن تكون عملية سقوطه مدوية، إلا أن الدولة الأميركية العميقة التي بنت أدوات ومنظمات إقليمية ودولية بمظلات حقوقية وإنسانية وثقافية وإعلامية، لا تزال تراهن على أن وسائل الدفاع ووسائل حماية التغول ونشر ثقافته المدمرة، لا تزال قادرة على إطالة عمر تلك الكيانية عبر استهداف الساعين الى الانعتاق من النظام العالمي غير العادل، لا بل المتوحش في كثير من جوانبه.

في هذا السياق، لا تتردد الولايات المتحدة الأميركية في استخدام المنظمات الدولية من أجل تحقيق أهدافها أو ضرب “اعدائها”، وهي أحيانا ليست عضوًا فيها، لا بل رفضت الانضمام اليها، ليس فقط لانها تعتبر نفسها فوق القوانين الدولية، لا بل إن النظام الأميركي يعتبر من حقه البطش والقتل وارتكاب المجازر وشن الحروب، وعلى تلك المنظمات أن تبرر أفعاله الشنيعة أينما كان.

ومن ضمن تلك المنظمات “المحكمة الجنائية الدولية” التي تحولت في أحيان كثيرة الى شاهد زور يعتمد على معطيات مزورة، ويساهم في طمس الحقائق غب الطلب الأميركي، رغم الالتباسات السائدة في علاقة المحكمة المذكورة مع إدارات أميركية متعددة تعرضت على خلفيتها الى عقاب أميركي لأن المدعي العام الذي كان يقود المحكمة تجرأ على قول حقيقة لا يمكن ان تغطيها أهوال الجريمة الأميركية، سيما على خلفية ارتكاب جرائم الحرب الواضحة التي ارتكبها الجنود الاميركيون، خصوصًا وأن نظام المحكمة يفترض أن يتيح لها محاكمة مرتكبي تلك الأفعال التي ترقى الى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فعوقبت المحكمة واستقالت المدعية العامة فاتو بنسودة من منصبها بسبب إعلانها النية بالتحقيق في جرائم الحرب من قبل أميركا وحلفائها في أفغانستان، وهو أول تحقيق للمحكمة من شأنه أن يشارك فيه جنود أميركيون وقد وجدت بنسودة أن البنوك أغلقت حساباتها، وألغت بطاقات الائتمان الخاصة بها. حتى أن أقاربها تمّ تجميد أصولهم في المصارف، امتثالاً للقواعد التي وضعتها وزارة الخزانة الأميركية. وذلك بموازاة اعلان مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون أن المحكمة “ماتت بالفعل بالنسبة لنا”.

فيما وصفها وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو بانها كانت “فاسدة” وانها تقوم بـ “محاولات غير مشروعة لإخضاع الأمريكيين لولايتها القضائية”. وهو ما تردده الحكومات الأميركية المتعاقبة، برفض اختصاص المحكمة بأي شكل من الأشكال، رغم أن تحقيقات المحكمة تستند الى مشاهدات واعترافات علنية وبتبجح لجنود أميركيين، لا بل جرى تهديد المحكمة من خلال اصدار قانون يتيح لواشنطن استخدام جميع الوسائل الضرورية والمناسبة للإفراج عن أي شخص أميركي أو متحالف تحتجزه المحكمة الجنائية الدولية، وذلك في سياق أميركي معروف لتبرير الغزو واختطاف الأشخاص من أي بلد، واطلاق التهم ضد كل من لا يسير تحت الظلال الأميركية السوداء بذرائع تهديد الامن القومي أو أنه يشكل خطرًا على الأميركيين أو مجرد تصنيفه كمعاد للسياسة الأميركية.

يعلم الجميع أن التشكيلة الجديدة للمحكمة الجنائية الدولية برئاسة البريطاني كريم خان كانت ضمن حراك أميركي رسمي، رغم تشكيك خبراء القانون الدولي، بحيادية خان ومهنيّته، بسبب الطريقة الانتقائية غير العادلة في اختياره لملفات محدّدة، واستبعاده أخرى وقفل الادراج على ملفات الجرائم الأميركية حول العالم، لا بل أقدمت على تنفيذ الرغبات الأميركية بلا جدال، وفتح خان ما وصفته المحكمة بأنه “تحقيق في جرائم الحرب المحتملة والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية”، بعد رحلته الأخيرة إلى أوكرانيا. حتى انه تجرأ على اصدار أمر اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وهنا يظهر العنصر الأخطر الذي يغض الطرف عنه، هو أن المحكمة تعتمد على التقارير الاستخباراتية التي تزودها بها واشنطن في أي قضية قانونية في المستقبل، وهذا سينطبق حتماً على أوكرانيا، حيث تؤكد المحكمة أنه يمكنها متابعة القضايا في أفغانستان وأوكرانيا باعتبارهما من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، بينما ليس للمحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية على الدول التي ليست طرفاً فيها مثل روسيا، ولم يتطرّق خان أبداً إلى ممارسات القوات الأوكرانية خصوصاً وأن جهات دبلوماسية غربية، كانت تحدّثت عن ممارسات وارتكابات اخطر قام بها جنود أوكرانيون ومرتزقة يدفع لهم الغرب وأميركا من جيوب دافعي الضرائب.

إن المحكمة الجنائية الدولية التي باتت خاضعة للولايات المتحدة تغض الطرف عن الجرائم الإسرائيلية الموصوفة والعلنية واليومية في فلسطين وضد شعبها وهي لا ترقى فقط الى جرائم حرب بل وأيضا جرائم ضد الإنسانية، وجرائم عنصرية بكل ما للكلمة من معنى. وفي السياق طالبت وزارة الخارجية الفلسطينية المحكمة الجنائية الدولية بالخروج عن صمتها ومحاكمة مرتكبي الجرائم بحق الشعب الفلسطيني ومن يقف خلفهم. مع الإشارة الى أن “هذه الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي جزءا لا يتجزأ من مسلسل القتل اليومي بحق أبناء شعبنا بغطاء وموافقة المستوى السياسي الإسرائيلي”.

ليس من المرجح أن لا تلفت هذه المحكمة الى النداءات الفلسطينية ما دامت خاضعة إلى الضغط والابتزاز الأميركيين، كي لا يتكرر درس بسنودة، اذا تحرك الضمير الشخصي، ومحاولة اعلاء العدالة مقابل التقارير الأميركية المزورة، التي يضج العالم فيها بين فترة وأخرى، وان كانت مسبوقة بانذارات مبكرة حول سلوك المحكمة الذي لا يمكن فصله عن الهيمنة الغربية على المؤسسات القانونية الدولية وضمنا المحكمة الجنائية الراقدة في السرير الاميركي.

ليس سقوط المنظمات الدولية، ولا سيما التي تتعاطى العدالة في الحبائل الاميركية، إلا مؤشر اخر على ترنح نظام الهيمنة العالمي بقيادة الولايات المتحدة، وهو جزء من ارهاصات قيام عالم جديد ينتصر فيه أصحاب الحق على الباطل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى