غرب آسيا وعالم جديد
• كيسنجر في عامه المئة: 10 سنوات فقط تفصلنا عن حرب عالميّة ثالثة
(ترجمة ايمان شمص )
في عامه الـ100 يعيش عميد الدبلوماسية الأميركية هنري كيسنجنر قلقاً كبيراً من اندلاع حرب عالمية ثالثة، لا بل يحدّد موعداً لها فيقول: “ما يفصلنا عن ذلك هو أقلّ من عشر سنوات”.
يحتفل مستشار الأمن القومي الأسبق ووزير الخارجية الأميركي الأسبق والدبلوماسي وعالم السياسة الشهير في 27 أيار بعامه الـ100. بعد أكثر من 70 عاماً حافلة بإنجازات استثنائية في عالمَي الدبلوماسية والمبادرات، يظلّ رجل الدبلوماسية المكوكية مهتماً بالتطلع إلى الأمام أكثر من الاهتمام بالماضي.
يوصي كيسنجر الولايات المتحدة والصين بتجنّب الصراع وأن تتعلّما كيف تتعايشان معاً، وأن تتوقّف كل منهما عن إقناع نفسها بأن الأخرى تمثل خطراً استراتيجياً عليها، وإلا فإنّ الصدام بينهما سيهدّد مصير البشرية جمعاء.
على مدى 8 ساعات متواصلة، تحدّث كيسنجر إلى مجلة “إيكونوميست” البريطانية، في مكتبه في الطابق 33 من مبنى “آرت ديكو” في وسط مانهاتن، عن كيفية منع المنافسة بين الصين وأميركا من الانزلاق إلى الحرب.
يشعر كيسنجر بالقلق من المنافسة الشديدة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية لكسب رهان التفوق التكنولوجي والاقتصادي، ويخشى أن يزيد تطور الذكاء الصناعي من حدة هذا التنافس. ويقول: “في جميع أنحاء العالم، يتغيّر ميزان القوى والأساس التكنولوجي للحرب بسرعة كبيرة وبطرق عديدة لدرجة أنّ البلدان تفتقر إلى أيّ مبدأ راسخ يمكنها على أساسه إقامة النظام. وإذا لم يتمكنوا من ذلك، فقد يلجأون إلى القوة”.
يضيف: “نحن في وضع شبيه بما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث لا يتمتع أيّ من الجانبين بهامش كبير من التنازل السياسي، وحيث يمكن أن يؤدي أي اضطراب في التوازن إلى عواقب وخيمة”. ويرى أنّ الطريقة الوحيدة لتجنب الصراع المدمّر هي الدبلوماسية الصارمة التي تعززها القيم المشتركة بشكل مثالي. ووفقاً له، فإنّ مصير البشرية يعتمد على قدرة أميركا والصين على الاتفاق والتعايش. وهو يعتقد أنّ التقدم السريع للذكاء الصناعي، على وجه الخصوص، لا يترك لهم سوى خمس إلى عشر سنوات فقط لإيجاد حلّ.
• بداية الحلّ.. حوار أميركيّ صينيّ
يعتبر أنّ نقطة البداية لتجنّب الحرب هي تحليل القلق المتزايد في الصين، وأنّ القيادة الصينية تستاء من حديث صانعي السياسة الغربيين عن نظام قائم على القواعد العالمية، في حين أنّ ما يقصدونه حقاً هو قواعد أميركا ونظامها. يشعر القادة الصينيون بالإهانة بسبب ما يرونه صفقة تنازلية يمنح بموجبها الغرب للصين امتيازات إذا تصرّفت بشكل جيّد (وهم يعتقدون بالتأكيد أنّه يحق لهم الحصول على هذه الامتيازات كقوة صاعدة).
مع ذلك، يحذّر كيسنجر من إساءة تفسير طموحات الصين، ويقول: “في واشنطن يقولون إن الصين تريد السيطرة على العالم… الجواب هو أن الصينيين يريدون أن يكونوا أقوياء. إنهم لا يسعون إلى السيطرة على العالم بالمعنى الهتلري”.
يضيف أنّ “الحرب في ألمانيا النازية كانت حتمية لأنّ أدولف هتلر كان في حاجة إليها، لكنّ الصين مختلفة”. لقد التقى بالعديد من القادة الصينيين، بدءاً بماو تسي تونغ. لم يكن يشك في التزامهم الأيديولوجي، لكن هذا كان دائماً مرتبطاً بإحساس قوي بمصالح وقدرات بلدهم.
يرى كيسنجر أنّ النظام الصيني هو نظام كونفوشيوسي أكثر منه ماركسياً. وهذا يعلّم القادة الصينيين بلوغ أقصى قوة تستطيع بلادهم تحقيقها والسعي إلى احترام إنجازاتهم. يريد القادة الصينيون أن يتم الاعتراف بهم على أنهم القضاة النهائيون في النظام الدولي في ما يتعلق بمصالحهم الخاصة.
يلفت إلى أنّ أحد الردود الأميركية الطبيعية على التحدّي المتمثل في طموح الصين يكون في التحقيق فيه لتحديد كيفية الحفاظ على التوازن بين القوتين. وثمّة ردّ آخر هو إقامة حوار دائم بين الصين وأميركا. الصين “تحاول لعب دور عالمي. ويجب أن نقيّم في كل مرة ما إذا كانت مفاهيم الدور الاستراتيجي متوافقة. إذا لم تكن كذلك، عندها ستظهر مسألة القوة. فهل من الممكن أن تتعايش الصين والولايات المتحدة من دون التهديد بحرب شاملة بينهما؟ اعتقدت وما زلت أعتقد أنه أمر ممكن”، لكنه يقرّ بأنّ النجاح ليس مضموناً. ويقول: “قد تكون هناك إخفاقات. وبالتالي، يجب أن نكون أقوياء بما يكفي عسكرياً لتحمّل الفشل”.
فكيف ذلك؟
• تايوان كاختبار أوّل
يرى كيسنجر أنّ الاختبار العاجل هو موقف الصين وأميركا تجاه تايوان. يعتقد أن التفاهم الذي توصل إليه نيكسون وماو قد قلبه بعد 50 عاماً فقط من تلك المئة عام دونالد ترامب الذي أراد تضخيم صورته القاسية من خلال انتزاع التنازلات من الصين بشأن التجارة. من الناحية السياسية، اتبعت إدارة بايدن خطى السيد ترامب، لكن بخطاب ليبرالي.
في رأيه أنّ الخوف من الحرب يخلق أرضية للأمل. ليس لدى أي من الجانبين مجال كبير لتقديم تنازلات. أكد جميع القادة الصينيين علاقة بلادهم بتايوان. لكن في الوقت نفسه، “بالنظر إلى تطور الأمور، ليس من السهل على الولايات المتحدة التخلي عن تايوان من دون تقويض وضعها في مكان آخر”.
يقول كيسنجر إن “الصينيين توصلوا إلى أن أميركا لن تألو جهداً لإبقاء بلادهم متخلفة عنها، بينما يصرّ الأميركيون على أن الصين تخطط لتحل محل الولايات المتحدة كقوة رائدة في العالم”، وهو ما يجعله يشعر بالقلق من أنّ هذه المنافسة الشديدة بين الدولتين لكسب رهان التفوق التكنولوجي والاقتصادي ستكون لها عواقب وخيمة ولا بد من خطة لمنع تطور ذلك إلى حرب لا تبقي ولا تذر.
في ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، يبدأ كيسنجر تحليله بإدانة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يقول: “لقد كان بالتأكيد خطأ فادحاً الحكمُ الصادر عن بوتين في النهاية. لكن الغرب لا يخلو من اللوم. أعتقد أن قرار ترك باب عضوية أوكرانيا في الناتو مفتوحاً كان خاطئاً للغاية. كان هذا مزعزعاً للاستقرار. والمهمة الآن هي إنهاء الحرب من دون تمهيد الطريق للجولة التالية من الصراع”. يضيف كيسنجر أنه يريد من روسيا أن تتخلى عن أكبر قدر ممكن من الأراضي التي احتلتها في عام 2014، لكن الحقيقة هي أنه في أي وقف لإطلاق النار من المرجح أن تحتفظ روسيا بسيفاستوبول (أكبر مدينة في شبه جزيرة القرم والقاعدة البحرية الروسية الرئيسية على البحر الأسود)، على أقل تقدير. مثل هذه التسوية، التي تخسر فيها روسيا بعض المكاسب وتحتفظ بمكاسب أخرى، قد تترك روسيا وأوكرانيا غير راضيتين. وهذه وصفة للمواجهة المستقبلية. فما يقوله الأوروبيون الآن خطير للغاية. يقولون: “لا نريدهم أن يكونوا جزءاً من الناتو، لأنهم محفوفون بالمخاطر. لهذا السبب سنقوم بتسليحهم إلى أقصى حد ونمنحهم أكثر الأسلحة تقدّماً. لقد سلّحنا أوكرانيا الآن لدرجة أنها ستكون أفضل دولة مسلّحة في أوروبا لكن أقل خبرة استراتيجية فيها”.
• خطر حرب أهليّة على النمط السوريّ
لكن لإقامة سلام دائم في أوروبا، يجب على الغرب في رأيه تحقيق قفزتين من الخيال. الأولى ضم أوكرانيا إلى الناتو لاحتوائها وحمايتها. والثانية هي أن تعمل أوروبا على التقارب مع روسيا، من أجل إنشاء حدود شرقية مستقرة.
قد يرفض الكثير من الدول الغربية، لأسباب مفهومة، أحد هذه الأهداف أو غيرها. ومع مشاركة الصين، كحليف لروسيا وخصم لحلف شمال الأطلسي، ستصبح المهمة أكثر صعوبة. إنّ للصين مصلحة حيوية في رؤية روسيا تخرج سليمة من الحرب في أوكرانيا. لا يقتصر الأمر على أن الرئيس شي جينبينغ لديه شراكة “بلا حدود” مع بوتين عليه أن يحترمها، لكنّ الانهيار في موسكو من شأنه أن يزعج الصين من خلال إحداث فراغ في السلطة في آسيا الوسطى يمكن أن تسدّه “حرب أهلية على النمط السوري”.
• وباء الذكاء الصناعيّ كاختبار ثانٍ
يعتبر كيسنجر أنّ المجال الثاني الذي تحتاج الصين وأميركا إلى التحدث فيه هو مجال الذكاء الصناعي. يقول: “نحن في بداية مرحلة يمكن فيها للآلات أن تفرض وباء عالمياً أو جوائح أخرى، ليس فقط نووياً، لكن في أي مجال من مجالات التدمير البشري”. وهو يقر بأن الخبراء أنفسهم في هذا المجال لا يعرفون ما هي سلطاته. ويعتقد أن الذكاء الصناعي سيصبح عاملاً رئيسياً في الأمن في غضون خمس سنوات. ويقارن إمكاناته التخريبية باختراع المطبعة، التي نشرت الأفكار التي لعبت دوراً في التسبب في الحروب المدمرة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
يقول: “أعتقد أننا بحاجة إلى البدء بالحديث عن تأثير التكنولوجيا علينا. يجب أن نتخذ خطوات صغيرة نحو الحد من التسلح، حيث يقدم كل جانب للآخر مادة يمكن التحكم فيها حول القدرات”. ويعتقد أن “المفاوضات نفسها يمكن أن تساعد في بناء الثقة المتبادلة التي تمكّن القوى العظمى من ممارسة ضبط النفس. السر يكمن في أن القادة أقوياء وحكماء بما يكفي لفهم أنه لا يجب دفع الذكاء الصناعي إلى أقصى حدوده. وإذا اعتمدنا كلياً على ما يمكننا تحقيقه من خلال القوة فإننا نخاطر بتدمير العالم”.
• 3 نصائح للقادة الطموحين
لتجنّب حرب عالمية ثالثة يعتمد كيسنجر على خبرته المهنية ويقدّم النصائح التالية للقادة الطموحين:
-أولاً، خفض درجة حرارة التوتّر، ثم بناء الثقة التي تؤدي إلى ممارسة كلا الجانبين ضبط النفس عبر إنشاء مجموعة صغيرة من المستشارين من كلا الطرفين يمكنها التواصل فيما بينها بشكل سلس وإن ظلّ غير معلن.
- ثانياً، تحديد أهداف مقنعة يمكنها تعبئة الناس والبحث عن وسائل واضحة لتحقيق تلك الأهداف، ولن تكون تايوان سوى أوّل هذه المجالات التي يمكن فيها للقوى العظمى أن تجد أرضية مشتركة وتعزز الاستقرار العالمي. وفي هذا المجال يحذر من أن سياسة كل شيء أو لا شيء تهدد في حد ذاتها كل ما من شأنه تخفيض التوتر.
- ثالثاً، ربط كل هذه الأهداف بأهدافك المحلية، وهي النصيحة الثالثة لكيسنجر للقادة الطامحين. تتضمن تعلم كيفية أن تكون أكثر براغماتية، والتركيز على صفات القيادة، والأهم من ذلك كله، تجديد الثقافة السياسية للبلاد. بالنسبة له، تعد الهند نموذجًا للبراغماتية. ويتذكر هنا ما أوضحه مسؤول هندي كبير سابق من أن السياسة الخارجية يجب أن تستند إلى تحالفات غير دائمة موجهة نحو القضايا، بدلاً من ربط بلد بهياكل كبيرة متعددة الأطراف.
• الهند واليابان: اختباران للسياسة الأميركيّة
الهند في رأيه هي قوة موازنة أساسية لقوة الصين المتنامية. ومع ذلك، فإن سجلّها يزداد سوءاً من حيث عدم التسامح الديني والتحيّز القضائي والصحافة المكبوتة. ولذا ستكون الهند اختباراً لما إذا كانت أميركا يمكن أن تكون براغماتية. ستكون اليابان اختباراً آخر. ستكون العلاقات متوتّرة إذا اتخذت اليابان، كما يتوقّع كيسنجر، خطوات للحصول على أسلحة نووية في السنوات الخمس المقبلة.
• أميركا تفتقر إلى القيادة
لكن الأسوأ من ذلك كله هو السياسة نفسها. عندما جاء كيسنجر إلى واشنطن، كان السياسيون من الحزبين يتناولون العشاء معاً بشكل روتيني. هذا أمر غير مرجح اليوم ، كما يعتقد. جيرالد فورد، الذي تولى المنصب بعد استقالة نيكسون، كان من النوع الذي يمكن لخصومه الاعتماد عليه للتصرف بشكل لائق. اليوم، جميع الوسائل مقبولة. يقول كيسنجر: “أعتقد أن ترامب وبايدن الآن دفعا العداء إلى القمة”. ويخشى أن يؤدي أي وضع مثل ووترغيت إلى العنف وأن تفتقر أميركا إلى القيادة. ويضيف: “لا أعتقد أن بايدن يمكن أن يكون مصدر إلهام، وآمل أن يجد الجمهوريون شخصاً أفضل. ويأسف لأن هذه ليست لحظة رائعة في التاريخ، لكن البديل هو التنازل التام”. ويعتقد أن “أميركا بحاجة ماسّة إلى التفكير الاستراتيجي الطويل المدى. هذا هو التحدي الكبير الذي نواجهه. إذا لم نفعل ذلك، فإن تنبّؤات الفشل ستثبت صحّتها”.
إذا كان الوقت قصيراً ونفتقر إلى القيادة، فما هي آفاق الصين والولايات المتحدة لإيجاد طريقة للعيش معاً في سلام؟
يقول كيسنجر: “علينا جميعاً أن نعترف بأننا نعيش في عالم جديد، لأن كل ما نفعله يمكن أن يحدث بشكل خاطئ. وليس هناك طريق مضمون”. على الرغم من ذلك، يقول إنه يشعر بالأمل. “انظر، لقد كانت حياتي صعبة، لكنها تعطيني سبباً لأكون متفائلاً. والتحدّي يمثّل أيضاً تحدّياً. يجب ألا يكون دائماً عقبة”.
هذه هي مهمة قادة القوى العظمى اليوم. يوضح كيسنجر: “قال إيمانويل كانط إنّ السلام سيحدث إما من خلال الفهم البشري أو من خلال كارثة ما”.
لكن قبل أيام قليلة فقط من احتفالات عيد ميلاده، يضيف كيسنجر: “ربما لن أكون موجوداً لأرى الأمر في كلتا الحالتين”.