المقالات

ماذا عن دماء الشهداء!

| د. بسام أبو عبد الله

كثيرة هي التحولات المتسارعة التي تشهدها المنطقة بدءاً من إنهاء تعليق مشاركة سورية في جامعة الدول العربية ومؤسساتها، ثم التطور اللافت في العلاقات السورية- السعودية، والسورية- العربية عامة، واللقاء الرباعي لوزراء خارجية سورية وروسيا وإيران وتركيا، ما يطرح العديد من الأسئلة حول أسباب هذه التبدلات، والمواقف المستجدة، وهل هي تحولات موضوعية، أم ذاتية؟ لا بل إن البعض مازال يتحدث عن مؤامرة على سورية، تأخذ أشكالاً جديدة، وآخرون يرون أن التحولات تمت نتيجة تغير كبير في النظام الدولي يتمثل بصعود قوى بازغة جديدة مثل مجموعة بريكس، ومنظمة شنغهاي، وتراجع نفوذ وقدرة الغرب الجماعي على التأثير، كما كانت الأمور قبل عقد، أو أكثر من الزمن.
مع هذه التقلبات السريعة والمفاجئة، يطرح البعض سؤالاً أراه منطقياً، ويكتب بين الفينة والأخرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومضمون هذا السؤال يتمثل بـ: هل ذهبت دماء أبنائنا هدراً؟ أو بطريقة أخرى: هل تتم التسويات على حساب دماء شهدائنا وضحايانا وجرحانا؟!
الحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تبدو لي أكثر من مهمة، لسببين، الأول: أن أسر الشهداء هي أول من يحق لها أن تطرح الأسئلة الصعبة، وهي في الصف الأول وطنياً! والثاني: لأنه من الواجب علينا أن نجيب عن هذا السؤال.
محاولة الإجابة عن هذا السؤال، سأحاول تكثيفها بنقاط مباشرة وواضحة:
1- دماء الشهداء والأبناء وآلام الجرحى والمفقودون، لا تعادلها كنوز الأرض، ولا كل المعادلات السياسية، أو التحولات الجارية، فالذين ضحوا من أجل أن نعيش ونحيا، ونحافظ على وحدة بلادنا وحريتها وكرامتها واستقلالها، هم أبطال مدى الحياة سنتذكرهم كلما استيقظنا صباحاً، وستدمع عيوننا على فقدهم، لكننا سنشعر بالفخر والاعتزاز بهم، لأنه لولا هؤلاء وأسرهم لكنا ذُبحنا بالسكين رجالاً ونساءً من قتلة مجرمين جندتهم قوى عالمية لتصفية وقتل الروح السورية، لإبقائنا هيكلاً عظمياً، لا حول له ولا قوة، وهذا فشلوا في تحقيقه بفضل دماء الشهداء وآلاف الجرحى.
2- لولا دماء الشهداء والجرحى لكنا عشرة كانتونات ولشرد ما تبقى من الشعب السوري، ولما فاوضنا أحد في الكرة الأرضية، وعلينا أن نعرف أنه لا شيء في حياة الشعوب دون ثمن أو تضحية، والاستقلال ثمنه غالٍ جداً، والمحافظة على تنوع سورية وروحها العروبية وهويتها وثقافتها، لم يكن أمراً سهلاً، ولن يكون في المستقبل أبداً.
3- دماء الشهداء هي التي أعطتنا الكرامة والعزة، وهي التي هزمت مشروعاً شيطانياً، حشدت له إمكانيات هائلة، لا يتصورها عقل، ومع ذلك فإن القدرة العالية على التضحية والفداء، هي التي أحبطت هذا المشروع، وأضيف لذلك إن صبر الناس على شظف العيش، وصعوباته الاقتصادية، جعل أصحاب المشروع يتراجعون مهزومين.
4- ما يجري من تفاوض، وذهاب نحو التسويات له أسباب، ويجب أن نرحب به، فدمشق فيها سبع بوابات، والبعض قال هي ثمانٍ، ومن يريد أن يدخل دمشق من أي بوابة مرحب به، بغض النظر عن هذا الماضي المرير، فالحروب كلها عبر التاريخ تنتهي بالتسويات، ووزنك في أي تسوية بقدر ما لديك من تضحيات وصبر وتحمل، لأن الحرب على بلادنا كانت حرباً تحولية، سيبنى عليها الكثير كما أن التسويات والحلول ستحدث تحولات كبيرة، وهذه التحولات لم تكن لتحدث دون هذا العدد الهائل من الشهداء والجرحى.
5-التسويات والحلول ليست مساومة على دماء الشهداء والضحايا، وليست بيعاً لهم في مزاد السياسة، بل وفاء لهم، وإخلاص وتقدير كبير، واحترام وإجلال، لأن الذين ضحوا لم يستشهدوا من أجل أن يموتوا فقط، بل من أجل أن نحيا، ونحافظ على بلادنا، ونبني مستقبلاً أفضل لأبنائنا وأحفادنا.
هذا كله يعرفه الناس، ولكن أردت أن أكتبه مرة أخرى كي تكون هناك إجابة شفافة عن هذا السؤال، الذي يعرفه كل وطني سوري، وتعرفه أسر الشهداء والجرحى، لا بل يمكنني أن أجيب عنهم بكل ثقة إنهم أكثر المواطنين السوريين دعوة للمصالحات والتسويات والسلام والأمن والاستقرار، ولا يستطيع أحد أن يزاود عليهم في هذا الأمر، لأنهم يدركون تماماً أن راحة أرواح الشهداء في قبورهم لن تكون إلا بالسلام والأمن والاستقرار والكرامة، وهم ضحوا أصلاً من أجل ذلك.
لكن ما يقلقني من أسئلة سأطرحه بوضوح أكبر كي أكون متوازناً وشفافاً في نقل أوجاع الناس وهمومها، وهي:

  • يدرك الجميع أن ثمن الحرية، والاستقلال الوطني كبير جداً، ليس فقط لدى السوريين، ولكن لدى شعوب الأرض كلها، هذه نقطة نؤمن بها جميعاً، لكن يجب ألا يكون هذا الثمن الباهظ جداً سُلّماً لوصول الانتهازيين والفاسدين والمنافقين إلى المقدمة مرة أخرى، لأننا بذلك نخون دماء الشهداء، فهؤلاء لم يضحوا أبداً من أجل إنتاج أمراء حرب أو منتفعين، بل من أجل بلد حرّ مستقل، يعيش أبناؤه جميعاً مستفيدين من ثرواته وإمكاناته.
  • لم يضحِ أبناء هذا الوطن من أجل إنتاج أغنياء جدد، وثروات لا يعرف أحد مصدرها، ومظاهر بذخ وترف مقرفة، وجشع لا حدود له لدى البعض، وكفاءات تهاجر، وإنما من أجل أن نتعلم الدروس، ولا نكرر الأخطاء، ونعمل بعقل منفتح يقبل الاختلاف، ولكن الاختلاف ليس على الوطن واستقلاله، وليس على مؤسسات الدولة، وليس على جيشنا البطل، وإنما الاختلاف على البرامج التي تخدم الناس، وعلى ما يعزز نقاط قوتنا، ويعالج نقاط ضعفنا.
    إن القلق مشروع لدى من ضحوا بأنفسهم وأبنائهم، وزهرة شبابهم، بألا تذهب تضحياتهم سدى ويتحولوا إلى ذكرى لم نتعلم منها شيئاً، وأما حين نصحح أخطاءنا، ونعمل معاً من أجل بلدنا بإخلاص وتفانٍ، عندها سيكون شهداؤنا وأسرهم، وجرحانا في راحة كاملة، ويكون ضميرنا مرتاحاً تجاههم، وتجاه تضحيات شعبنا العظيم.
    إن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يتسيّد المشهد المنافقون والانتهازيون والفاسدون، وهؤلاء لديهم القدرة والمال والنفوذ لإعادة إنتاج أنفسهم تحت عناوين جديدة، وهنا أريد القول بوضوح شديد إننا لا نريد البكاء مرتين: مرة على دماء شهدائنا، ومرة على حالنا الصعب، الذي قد يوصلنا إليه هؤلاء المتلونون والكذابون.
    مازلت أميل إلى التفاؤل عندما أرى تسارع الأحداث والتغيرات، وأراقب الانفتاح الحاصل على بلدنا سورية، لكنني أعيد التأكيد أن ما يحصل هو نتيجة لدماء الشهداء، وتضحيات السوريين، ولأننا نعتبر جميعاً أن هذه الدماء هي كرامتنا، وعزتنا، وسيادتنا، واستقلالنا، وحريتنا الحقيقية، فأرجو أن نقطع الطريق على منتهزي الفرص والمنافقين، إذ يفترض بنا أن نكون قد تعلمنا درساً أبدياً.
    صحيح أن السؤال عن دماء الشهداء هو مشروع وصحيح، لكن المنطق يقول إن تضحيات هؤلاء هي التي مهدت الطريق لكل هذه التحولات، ويجب ألا ننسى ذلك في زحمة الأحداث، وأن نكون أمناء على ذلك، ليس في السياسة والتفاوض، فهذا طريق لا شك لدي أنه في أيدٍ أمينة، ولكن الخيانة المحتملة لدماء الشهداء ستكون في مكانٍ آخر، حيث المال والنفوذ، والمصالح، واللوبيات، هنا يكمن الخطر الذي سيجعل دماء هؤلاء مادة للاستثمار البشع، وحينئذ نكون قد ارتكبنا فعل خيانة بحقهم، وحق الوطن، لنكن حريصين على عدم الوق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى