ماذا لو قلبت السعودية الطاولة وصالحت إيران؟
“” – قاسم يوسفثمة قرار تاريخي لا بد أن تتخذه الرياض بربط النزاع فورًا مع إيران. هكذا وبكل بساطة، تذهب نحو فتح حوار جديّ وسريع يصل في نهاية المطاف إلى توقيع معاهدة صداقة أو عدم اعتداء، ثم تُلحقها بقرارات لا تقل جذرية، بدءًا بالخروج النهائي من الصراعات السياسية والعسكرية في المنطقة والإقليم، مرورًا بإعلان المملكة العربية السعودية أرضًا مفتوحة وواحة سلام، باعتبارها الضامن الأكبر لاستقرار أسواق النفط والحاضن الرسمي للحرمين الشريفين، وصولاً إلى تصفير المشاكل مع الجميع تحت عنوان الحياد الإيجابي.يبدو هذا مطلبًا مستحيلاً أو ضربًا من الجنون، لكن التبصّر والتعمّق الهادئ في الصورة الأشمل يجعله ممكننًا ومطلوبًا، لا سيما في ضوء الابتزاز الأميركي والصمت الدولي إزاء التوسع الايراني المرعب في كل أرجاء المنطقة، والذي لامس حدود تمزيق الخرائط واستباحة الجغرافيا، فضلاً عن إعادة انتاج النسيج الاجتماعي وتغيير الواقع الديمغرافي والإمساك بأكثر المفاصل السياسية والعسكرية حيوية وحساسية، من بيروت إلى صنعاء، مرورًا بدمشق وبغداد وغالبية عواصم وحواضر العرب.ماذا استطاعت السعودية أن تفعل في مواجهة كل هذه الازمات؟ لا شيء. مئات مليارات الدولارات وعشرات آلاف الضحايا لم تغيّر المشهد قيد أنملة في اليمن، بل إن الحرب جعلتها تخضع للكثير من حفلات الابتزاز، وقد أساءت إلى صورتها وأنزلتها منزلة المعتدي على دولة مجاورة، ناهيك عن تعريض أمنها الداخلي لخطر مباشر وغير مسبوق. ما ينطبق في اليمن ينطبق أيضًا في سوريا، هناك حيث تخاذل العالم بأسره أمام مذبحة موصوفة، وأمام ترانسفير مذهبي لم يشهد له التاريخ مثيلاً، لتعود الأمور بعد سنوات من المعارك إلى حيث بدأت، مع فارق بسيط عبّر عنه بشار الأسد بكل وضوح وصفاقة، حين اعتبر أن النسيج الاجتماعي اليوم أفضل مما كان عليه عشية الثورة، وهو يقصد تحديدًا تهجير ما يفوق عشرة ملايين إلى أصقاع الأرض. في لبنان، صار حزب الله الآمر الناهي في كل كبيرة أو صغيرة. يسرح ويمرح بلا حسيب أو رقيب. متى شاء يُعلن الحرب ومتى شاء يعم السلام. يُعيّن رؤساء الجمهوريات ويبدّل رؤساء الحكومات، ويمتلك مع حلفائه أكثرية نيابية موصوفة، وفيما يرزح جزء من الفريق المناهض تحت وطأة الإحباط والخضوع والاستسلام، أو تحت سقف التخبط والتشتت والضياع، تذهب الكثرة الكاثرة نحو سلوك دروب المحاباة وكسب الود، باعتباره المسلك الضروري والحصري إلى ما يظنونه جنة السلطة أو مواقعهم الطبيعية في تركيبة الدولة والنظام. لا حاجة هنا قطعًا للحديث عن العراق، الذي صار جزءًا لا يتجزأ من القرار الإيراني في المنطقة، أقله في الوقت الراهن وفي المدى المنظور. لكن ماذا عن السعودية نفسها وقد عمدت ايران إلى نسف نصف انتاجها اليومي من البترول عبر اعتداء واضح ومباشر وغير مسبوق، وهو اعتداء يطال العالم بأسره، لكن أحدًا لم ينبس ببنت شفة، فيما ذهب الرئيس الأمريكي نحو ما يشبه التملص وسحب اليد، في واحدة من أكثر المشهديات المهينة والمستفزة، والتي كانت تفترض تصرفًا عاجلاً ومباغتًا لا يقل عن قلب الطاولة بوجهه.ماذا عن السعودية وقد فقدت سيطرتها على كل شيء، وخسرت جُل ثقلها وتحالفاتها وعلاقاتها وحضورها، من الهزيمة المدويّة في سوريا واليمن إلى الانكسار الرهيب في العراق ولبنان، ومن الغياب الثقيل لدور مصر وحضورها، إلى الاشتباك والتوتر العبثي مع تركيا، وصولاً حتى أقرب شقيقاتها في دول الخليج، من قطر التي سلكت العلاقات بينهما مسلك العداء والانفصال المبين، إلى الكويت وعُمان الهاربتين من حضنها إلى ما يشبه الوسطية أو الحياد، وصولاً إلى الامارات التي تركت مواقعها على نحو مباغت ودون تنسيق مسبق في اليمن، نتيجة خوفها من نشوب حرب لا تبقي ولا تذر. ماذا تريد أميركا؟ يقول لنا ترامب إن بلاده لديها اكتفاء ذاتي من نفطها، وهي مستعدة لمساعدة السعودية مقابل المال لكنها لا ترغب بحرب مع إيران، والمطلوب منها أن تدافع عن نفسها. قالها هكذا بالحرف وبكل وضوح وفجاجة، فيما لا يزال بعض الواهمين يتحدثون إلى الآن عن الآثر الهائل للعقوبات الاقتصادية ولتأثيرها الأكيد على سلوك إيران وعلى نظامها ومستقبلها، لكن فاتهم أن تاريخًا طويلًا عريضًا من العقوبات لم يساهم إلا في شد عصبها وتشريع خطابها وذهابها نحو مزيد من التوسع.ثمة كأس من السمّ لا بد تتجرعه السعودية، لكن عليها أن تختاره بذكاء، فإما أن تذهب نحو مواجهة عسكرية مباشرة، وهذا مستبعد وكارثي، وإما أن تصمت وترضخ، وهذا مُذل ومهين. الخيار الثالث ينحصر في خروج مشرّف، ليس من الأزمة مع إيران وحسب، بل من كل أزمات المنطقة، وهذا وحده كفيل بإنهاء الابتزاز، وبتقليص التوتر المذهبي الذي ساهم ولا يزال في تعزيز العصبيات وفي مسح الشيعة العرب لصالح المدّ الإيراني الجارف.ما اخذته إيران قد أخذته، وقد جربنا على مدى عقود أن نسترده بالطريقة نفسها لكننا فشلنا. لنقلب اليوم الطاولة بوجهها ووجه الجميع: لا نريد حربًا، ولا اشتباكًا، ولا توترًا، ليأخذوا ما أخذوه وأكثر، من النجف إلى مكة، وليحافظوا عليه إن استطاعوا.