سورية ما تزال في قلب الحرب
د. حسن أحمد حسن*
عندما يتحدث السيد الرئيس بشار الأسد بشفافية تامة ويضع الواقع بكليته على طاولة التشريح الموضوعي المستند إلى حقائق الواقع فهذا يرتب على جميع أبناء الوطن وعشاق الكرامة الارتقاء إلى مستوى المسؤولية، وهذا يمنح المهتمّين والمشتغلين بالتحليل السياسي والدراسات الإستراتيجية إمكانية أكبر لقراءة تداعيات الأحداث ودلالاتها، وتوسيع بيكار الرؤية مع التشديد على أهمية المتابعة وفق البوصلة الدقيقة التي بفقدانها يفقد أي تحليل أهميته وجدواه. ومن يظن أنّ الحرب المفروضة على الدولة السورية قد انتهت أو أوشكت، فالواقع يقول غير ذلك. وهذا ما أكده الرئيس الأسد في المقابلة التي أجراها معه تلفزيون الصين المركزي (CCTV) بقوله: «الحرب لم تنتهِ، ما زلنا في قلب الحرب حالياً». كما أشار في معرض إجابته على سؤال آخر بأنّ «الوضع الحالي بكلّ تأكيد غير جيد أو سيّئ، لنكن واضحين هو وضع سيّئ، لأنّ المشكلة الآن بالنسبة للسوريين هي مشكلة معاشية، مشكلة معاشية بالنسبة للوضع الاقتصادي أقصد، المعاناة تزداد… وسورية تعيش في «حالة خنق متزايد من قبل الدول الغربية، لكن هذا لا يعني بأننا لا نستطيع أن نقوم بشيء…». وهنا بيت القصيد وقطب الرحى، فالمعاناة لن تنتهي تلقائياً، والحرب لن تنتهي بالأمنيات، وتخفيف المعاناة يتطلّب المزيد من العمل وفي شتى الميادين والمجالات، وقد يكون من المفيد الإشارة إلى عدد من النقاط المتعلقة بحديث السيد الرئيس للتلفزيون الصيني، ومنها:
*استهداف سورية ليس حديث العهد، بل هي مستهدفة وممر للغزوات كموقع جغرافي عبر التاريخ، والمحتلون على اختلاف تسمياتهم كانوا يدمّرون المدن، وكان الشعب السوري يُعيد بناء ما يخلفه الغزو، واليوم الشعب السوري قادر على إعادة إعمار بلده عندما تتوقف الحرب، وينتهي الحصار.
*إذن طالما الحرب مستعرة على الجغرافيا السورية والحصار مفروضاً يصعب الحديث عن إعادة الإعمار، وبالتالي ما يحتلّ المرتبة الأولى في سلم الاهتمام والأولويات هو أن تضع الحرب أوزارها، ويُرفع الحصار الخانق والجائر، وإلى أن يتمّ ذلك واجب الجميع العمل لتجاوز هذا الواقع، سواء من داخل سورية عبر أبنائها ومواطنيها، أو من خلال دعم الأصدقاء القادرين على الاضطلاع بدور كبير عبر فتح الأبواب ليتمكّن الشعب السوري بإمكاناته التي استطاع أن يحتفظ بها ويحافظ عليها، وبها يتمكن من إعادة بناء بلده وبلوغ التطور والازدهار. وهذا يعني تمتين العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية مع الحلفاء والأصدقاء، وبذلك يتمّ فتح الأبواب للسوريين للانطلاق من جديد.
*لا تزال سورية والمنطقة تواجه نوعين من الخطر في هذه الحرب التي لا تزال رحاها دائرة، وهما: خطر الليبرالية الجديدة المتوحّشة والساعية لفرض مفاهيمها ورؤاها ومقولاتها المتناقضة مع الأخلاق والقوانين وأعراف المجتمع الإنساني، والعمل على تشويه الهويات الخاصة بالأمم والشعوب وفرض نموذج الحياة الذي تريده للعالم أجمع، وهناك خطر التطرّف، وهو متطابق مع الليبرالية الجدّية وأحد منتجاتها. وبالتالي الخطران وإنْ ظهرا للبعض أنهما مختلفان إلا أنهما واحد، وإدراك هذه الحقيقة يساعد المتضرّرين من الخطرين على مواجهتهما بكفاءة أعلى، وإمكانية أكبر، والأهمّ اليوم في ميدان المواجهة لتجاوز الخطرين هو التركيز على الانتماء، والحفاظ على القيم التي إنْ تهدّمت ـ لا سمح الله ـ تحسم الحرب لصالح الأعداء، فبنقاء الانتماء للأوطان والحفاظ على القيَم ومقوّمات الهوية يمكن إعادة بناء المجتمع والوطن. وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يمكن العمل لتحويله إلى فرصة، ومنع تحوّله إلى تهديد.
*التركيز على أهمية الشعب ودوره الفاعل في الانتقال بالدولة من واقع إلى آخر أفضل وأكثر انسجاماً مع المصالح الوطنية والقومية العليا. فالصين التي كانت مصنع البضائع للعالم قبل عشرين عاماً هي اليوم مصنع الإبداع، والفضل للشعب الصيني المحبّ لوطنه والمفتخر بانتمائه، ولذا كان تصميمه على إحراز المزيد من التقدّم والتطوّر والإنجازات، مع الحفاظ على الثوابت والهوية، وبالتالي ما لم يتغيّر في الصين هو الأهمّ، فالتغيّرات عادة تأتي معها جوانب سلبية، إلا أنّ الصينيّين استطاعوا أن يحافظوا على ثقافتهم وقيمهم وتقاليدهم وتشبّثوا بانتمائهم الوطني فحققوا هذه المكانة المتقدمة على المستوى العالمي، وهذا هو الأهمّ.
*أهمية الدور الصينيّ عالمياً، والدول الأصغر تحتاج هذا الدور، وبخاصة أنّ الصين قدّمت الشراكة الاستراتيجية بمفهوم جديد بعيد كلّ البعد عن مبدأ الهيمنة الذي يحكم شراكات الغرب، في حين أقرّت الصين في شراكاتها مبدأ جديداً يقوم على احترام الشركاء والتعاون والمساعدة وعدم التدخل بالخصوصية الوطنية والقومية، فضلاً عن المساعدة في المنابر الدولية ونصرة الحق، واتخاذ مواقف سياسية واضحة بعيداً عن المجاملة، وهذا يساهم في منع أنصار الهيمنة من إمكانية التفرّد بمن لا يذعن لمشيئتهم المتنافية مع الأخلاق وقيَم المجتمع الإنساني وأعرافه وقوانينه. وقد وقفت الصين مع سورية سياسياً في مجلس الأمن والعديد من المحافل الدولية، أيّ أنّ الجانب السياسي بالأساس متطور. ومن الطبيعي كما أوضح السيد الرئيس «أن يكون هناك حوار أوسع في هذه الظروف التي يمرّ بها العالم، هناك الجانب الاقتصادي، جانب التنمية بالنسبة لنا في سورية يعنينا كثيراً، لأنّ سورية الآن معرضة لحصار اقتصادي سيّئ وقاسٍ وخطير من الغرب يهدف لتجويع الشعب السوري، هذا جانب مهم بالنسبة لنا».
*تكامل المبادرات الصينية وأهميّة الانخراط معها لمصلحة البشرية جمعاء، وموضوعياً لا يمكن فصل مبادرة الحزام والطريق عن مبادرة الحضارة العالمية والتنمية العالمية والأمن العالمي التي طرحها الرئيس شي جين بينغ. وقد سبق للكثير من المفكرين أن ذهبوا إلى ربط الأمن بالتنمية وهذه حقيقة علمية، فلا مجال للحديث عن تنمية من دون أمن، ولا يمكن الحديث عن أمن المجتمع والدولة في جوّ من التخلف عن ركب الحضارة ومنجزاتها، وليس هذا فقط بل من المهمّ التركيز على أنّ الأمن والتنمية لا يقومان إلا بالحفاظ على الجوانب الحضارية والأخلاقية والثقافية في العلاقات بين الدول. وهنا تظهر أهمية الشراكة مع الصين التي حذفت من قاموس تعاملها استهداف الهويات الخاصة بالدول والشعوب، على عكس الغرب المتوحّش الذي يبني حضارته على الدماء والجماجم ووأد ما يستطيع من هويات، ولا شك في أنّ تكامل المبادرات الصينية وأهمية ما تطرحه على المستوى الدولي يحولها من مبادرة صينية إلى مبادرة عالمية.
*تكامل الإرهاب والاحتلال الأميركي: على الرغم من خطورة الأوضاع التي عصفت بسورية إلا أنّ إمكانية الخروج والتعافي قائمة، وهي مرهونة بوقف التدخل الخارجي، ويمكن في غضون أشهر قليلة حلّ المشكلة التي تبدو معقدة إذا تمّ إبعاد الخارجي، ولعلّ الأخطر في الأمر يتجاوز سرقة النفط والحبوب وبقية الثروات والمحاصيل وحرمان الشعب السوري منها وهو في أشدّ الحاجة إليها. فأخطر ما في الأمر يكمن في الشراكة بين المحتلّ وبين الفصائل الإرهابية المسلحة. فالمنطقة الشمالية الشرقية من سورية التي يحتلها الإرهابيون هي نفسها التي يشرف عليها الأميركي، وبالتالي القضية تتجاوز سرقة الثروات إلى حقيقة تقول: إنّ دولة عظمى تتشارك مع الإرهاب للانتقام من الشعب السوري والدولة السورية، ولذا لا تزال الحرب مستمرة بأوجه وأشكال متعددة.
خلاصة
عندما تعلن قوة عالمية عظمى مثل الصين توقيع اتفاقية استراتيجية مع دولة بحجم سورية فهذا اعتراف علني وصريح بأهمية سورية، وأهمية ما يمكن أن يُبنى على صمودها في مواجهة الحرب المفروضة عليها. وعندما يأتي الإعلان عن هذه الشراكة والحرب ما تزال مستمرة فهذا يتضمّن عدم السماح بالاستفراد بالدولة السورية. فالوجود العسكري الروسي الرسمي بناء على طلب الدولة السورية أتمّ عامه الثامن منذ أيام، ويمكن أن يُضاف إليه اليوم الشراكة الاستراتيجية السورية ـ الصينية، وتوجّه المنطقة نحو التواصل بدلاً من العداوة والاقتتال، واضطرار واشنطن لتخفيض السقوف التي كانت ترفعها ضدّ إيران التي تحقق قفزات كبيرة في مجال التصنيع الحربي واكتفائها الذاتي بكلّ ما تحتاجه، إضافة إلى فرض الردع المقاوم على الكيان الإسرائيلي المأزوم داخلياً، وكثير من العوامل الأخرى التي يمكن استثمارها، لتخفيف شراسة ووحشية الليبرالية الجديدة غير المسبوقة، وهذا جانب مهمّ للخروج من حمأة الحروب التي ينتعش عليها الاقتصاد الأميركي، وإذا أضفنا إلى ذلك الواقع الداخلي المنقسم الذي تعيشه أميركا قبيل استحقاق الانتخابات الرئاسية والتعثر المزمن في الحرب على الجغرافيا الأوكرانية ضدّ روسيا يصبح من المهمّ التفكير في كيفية تنسيق كلّ الجهود لوضع نهاية قريبة للحرب المفروضة على الدولة السورية، لأنّ نهاية هذه الحرب تعني بدء حقبة جديدة في العلاقات الدولية لا مكان فيها للأحادية القطبية، ولا للسياسة التي تعني الربح على حساب الآخرين والقتل والاحتلال، بل المكان الأرحب مخصّص للسياسة الجديدة المبنية على الأخلاق والتعاون والمبادئ، والربح المتبادل، وهي كما أوضح الرئيس الأسد «مبادئ صالحة لعالم جديد يحلّ تدريجياً محل العالم القديم».
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الإستراتيجية.