قراءات سياسية بين العدو الطبيعي والعدو الخارجي: إتفاق أميركي ـ تركي على تقسيم الشمال السوري
عبير بسّام
لم يعد خافياً على أحد من المطلعين حول أسباب القلق الأميركي من العلاقة المتنامية والمتكاملة ما بين دمشق وطهران، والتي ترى فيها الولايات المتحدة الخطر الأول والأساسي على حليفتها الأهم في المنطقة ألا وهي “اسرائيل”. وما نراه في جديد التغييرات في الشمال السوري هو من أجل التحكم بالموارد الطبيعية السورية والسيطرة على الحدود السورية العراقية. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن سوريا كانت وماتزال تمثل التوازن الإستراتيجي الأهم في منطقة المشرق العربي وغرب آسيا حتى أوروبا.
يتوجس السوريون على مستوى الشعب والدولة شراً من التغيرات التي تحدثها تركيا في محافظة إدلب، وفي الأجزاء التي ماتزال تحتلها في ريف حلب من عملية التتريك التي تفرضها في المدارس، وإدخال فروع من جامعاتها إلى إدلب، وفرض الليرة التركية في التعاملات بدلاً من الليرة السورية. وحتى أن معظم القمح والقطن السوري المسروقين يدخلان إلى تركيا بأسعار منخفضة. كما تسعى تركيا عبر استيراد القطن السوري الممتاز في تنشيط صناعة الملابس فيها بعد أن كانت حلب المنافس الأكبر لها.
ويتخوف من أن الخطر سيصيب لبنان، اذ تجاوز عدد كبير من الشباب السوري، والذين تتراوح أعمارهم ما بين 17 عاماً و35 عاماً الحدود، بحسب ما تسرب في الإعلام. بعض هؤلاء الشباب هم من المعارضين والمدربين والذين يمثلون خطراً كبيراً على لبنان والمنطقة، والبعض الآخر هرب خوفاً من زجهم في حرب ما بين مجلس العشائر وما بين “قسد”، وبذا سيكونون وقوداً لهذه المعركة عبر تجنيدهم الإجباري كما حدث سابقاً، لكن دخول بعض المدربين على القتال له علاقة بما يخطط له كل من التركي والأميركي بتوافق تام جرى بعد الإنتخابات التركية وبعد فوز رجب طيب أردوغان، الذي أوفد إلى أميركا عدد من المسؤولين الأتراك من أجل إعادة ترتيب الأوراق بما يتناسب مع سياستي البلدين الطامعين بالخيرات السورية وفي المنطقة، إذ كانت تركيا وماتزال تسعى لحصة في خيرات البترول في الشمال تماماً كما يفعل الأميركي عبر سرقة النفط والغاز السوريين كما يقوم بسرقة القطن والقمح، ولربما بحصة في غاز لبنان.
إذا كل من تركيا وأميركا تسعيان إلى تثبيت وجودهما بشكل نهائي في الشمال والشرق السوريين. وخلال اللقاءات ما بين الطرفين تعرض تركيا في كل مرة تخوفها من توسع نفوذ حزب العمال الكردستاني، والذي تعتبره حزب إرهابي. وبناء عليه، فقد طلبت تركيا تحجيم النفوذ الكردي في شرق الفرات والقيام بتغيير ديموغرافي عميق في المنطقة وخاصة في مدن عفرين وعين العرب وغيرها من المدن العربية التي تشاركت الحياة مع الأكراد واحتضنتهم منذ الربع الأول من القرن الماضي، ولكن الأكراد اليوم يريدونها جزء من الإدارة الذاتية أو الدولة الكردية في سوريا برعاية أميركية ــ صهيونية. الرعاية الصهيونية للأكراد ليست سراً، فمؤتمر أربيل في 25 أيلول/ سبتمبر من العام 2021، مايزال شاهداً على العلاقة بين الموساد وبين الفيدرالية الكردية في شمال العراق. كما أن مصدراً خاصاً كشف لنا إن عناصر الموساد الصهيوني خلال فترة احتلال “داعش” و”النصرة” لكل من درعا ومنطقة تدمر، أي ما قبل العام 2018، كانوا يدخلون من درعا إلى الشمال الشرقي السوري وإلى أربيل دون أن يوقفهم أحد. وحتى أن بايدن كان أعلن في العام 2019 وخلال حملته الإعلامية أن الخروج من سوريا هو أمر مخجل، اي أن الإدارة الديمقراطية كان ومايزال من اهم أهدافها التي وضعت خلال ولاية باراك أوباما هو البقاء في سوريا.
إذاً المشروع في الشمال السوري وشرقه، هو مشروع ثلاثي الأبعاد الدولة العبرية جزء منه وتعمل بالتنسيق مع جميع الأطراف، ومازال حتى اليوم، وهذا ما شهدناه في عودة العلاقات ما بين أنقرة وتل ابيب. وبحسب موقع نورث برس، قام بها الجيش الأميركي بتحركات منذ أسبوع تقريباً في سوريا والعراق، وقالت الباحثة في معهد دراسات شبه الجزيرة العربية “إيرينا تسوكرمان” عن التحركات: “إن واشنطن باتت تخشى من الجسر البري الذي أنشأته إيران بين العراق والعمق السوري ِلنَقلِ العناصر والذخيرة وجميع المواد المهربة لتعزيز مواقعها العسكرية في سوريا والمنطقة”. صحيح أن كلام “تسوكرمان” لا ينسجم كثيراً مع تصريح المتحدث باسم القيادة الأميركية اللواء “جون مور” لذات الموقع بأن “الموضوع ليس إلا تحركات لوجستية ضرورية لإستبدال أفراد من الجيش الأميركي بأفراد آخرين، والأمر يقتضي درجة عالية من الإستنفار”. ولكن نفي أسباب الإستنفار الحقيقة لتحركات الجيش الأميركي والتي تراها “تسوكرمان” نابعة من قلق سببه أن “فيلق القدس” لا يزال يملك حرية التحرك على الأراضي السورية. بغض النظر عن دقة هذا التوصيف، إن كلام “تسوكرمان” يعبر عن التخوف الذي يبديه “الإسرائيلي” حول “سيطرة إيران على المنشآت الكيميائية في سوريا” وخاصة بعد “تطبيع” الدول العربية مع كل من إيران وسوريا، أن أمريكا تبحث عن مبررات البقاء في الشرق السوري تحت ذريعة حماية أمن “اسرائيل”.
وتماشياً مع كلام تسوكرمان، فقد كشفت مصادر “المحرر ميديا” عن التحركات العسكرية وعن تهديدات وجهتها سفيرة الولايات المتحدة في العراق، ألينا رومانوسكي، منذ أسبوعين تقريباً خلال اجتماعها برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بضرورة سحب قوات الحشد الشعبي وأطلقت تهديدات ضد جميع قوى المقاومة وعن نية بلادها إقامة منطقة عازلة على طول الحدود العراقية السورية. في حين ومنذ شهرين تقريباً كان هناك لقاءات وتنسيق بين القيادة التركية والأميركية حول إعادة توزيع مناطق النفوذ بينهما في المناطق اللتان تحتلانها في سوريا. مع العلم أن القيادات أحياناً تحاول التفريق في مواقفها اتجاه جماعتها الخاصة، اذ أن كريستوفر ميلر، وزير الدفاع الأميركي السابق، اتهم تركيا بقطع المياه عن الأكراد من أجل تهجيرهم من عفرين وعدد من المدن في الشمال الشرقي في سوريا، ومن الواضح أنه ذر للرماد في العيون.
القراءات في التصريحات الأميركية تظهر أن هناك تعاوناً ما بين تركيا وإيران ضد المصالح الأميركية القائمة على التحالف مع قسد، ولذلك فإنه يجب على واشنطن العمل على دعم قسد لأن تعرضها للخطر يضر بالمصالح الأميركية. ولكن هناك مصلحة مشتركة ما بين واشنطن وأنقرة من أجل توزيع “الأعباء” في الشمال والشرق السوري، ولذلك ترعى واشنطن اليوم جيش سوريا الحرة المكون من جيش مغاوير الثورة وقسد فيما ترعى تركيا الجيش الوطني السوري المكون من بقايا النصرة. كما أفهمت أنقرة الأميركيين مدى حاجة تركية للوقوف في وجه الإنفصاليين الأكراد وإبعادهم عن حدودها. وقد كان هناك، على سبيل المثال، منذ أسبوع تقريباً، وقبل بدء الإقتتال ما بين العشائر وقسد، لقاء في أنقرة لكبير مستشاري الرئيس التركي، أردوغان، السفير عاكف تشاغاطاي مع أعضاء من مجلس النواب الأميركي. تم خلال الإجتماع مناقشة العلاقات ما بين البلدين والقضايا الإقليمية والعلاقات التجارية وملفات الأمن والصناعات الدفاعية والعلاقة مع حلف الناتو وبالتأكيد مكافحة تنظمي حزب العمال الكردستاني وقضية تسليم فتح الله غولن.
كما أن هناك لغة تهديد واستفزاز تستخدمها تركيا ضد سوريا عبر عنها ياسين أقتاي، أحد قيادي حزب العدالة والتنمية في مقال تحت عنوان “اللغة التي يستحقها الأسد”، في صحيفة يني شفق التركية في 14 آب/ أوغسطس الماضي أعاد فيها التهديد وقال بان: “على تركيا أن تبدأ بالمطالبة بإقامة مناطق آمنة وأن تضع حلب وحتى حمص تحت إشرافها أو إشراف الأمم المتحدة”. جاء مقال أقتاي بعد لقاء الرئيس السوري بشار الأسد على سكاي نيوز والتي تحدث فيها عن وجوب خروج الإحتلال التركي من الشمال السوري، وإلا فإنه سيقاتل كمحتل. هذه التصريحات للرئيس الأسد ليست فقط عامل استفزاز للتركي بل للأميركي أيضاً. فالأميركي لم ينس العملية ضد المارينز في لبنان في العام 1982، والتي من الممكن أن تتكرر ضد اية موقع أو دورية أميركية، ومن الجدير ذكره أن كل من الجيش السوري والأهالي قد منعوا تقدم العديد من الدوريات الأميركية بالجسد العاري، وقد نشر على مواقع التواصل منذ ثلاث أعوام فيديو لضابط سوري يحمل اللاسلكي ويرتدي حذاء مفتوحاً “مشاية”، وهو يكيل السباب للدورية الأميركية ويشير لها بالإبتعاد، وابتعدت.
وأما بالنسبة للجيش التركي فما زالت معركة تحرير حلب وتحرير سراقب الثاني في العام 2020، بشكل خاص وحصار قوة تركيا لأسبوع كامل ماثلة في ذاكرته. ومهما تكن التهديدات التركية أو الأميركية فهي ليست بقادرة على فعل أي شيء دون الدفع بعملاءهما. في حين أن قسد تحفظ خط رجعة وهمي بعدم مهاجمة الجيش السوري، فإن قوى داعش والنصرة، مهما تكن تسمياتها الجديدة، تعلم أن خروج مشغليهم يعني نهايتهم الحتمية، ولذا فهم مجبرون على الخضوع لمزاج المشغلين ومهاجمة الجيش السوري. وإذا أرادت تركيا أن تثبت أنها قادرة على احتلال مناطق اوسع فهذا يعني أنها تغامر بالتوازن الذي حققته مع روسيا بعد معركة سراقب الثانية. وبانتظار ما ستتأتى عنه اشتباكات العدوين الطبيعيين قسد والمجلس العسكري للعشائر من نتائج، يمكننا البناء حول قدرة مشغليهم على الإستمرار بخططهم أو بالإندحار النهائي.