قمة البريكس الخامسة عشرة والنظام العالمي الجديد
د. محمد رقية
*2023.08.12
في ظل ترقب العالم، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية لمخرجات القمة الـ15 لدول بريكس، وتخوفاتها من خطورة توسيع المنظمة على مستقبل الدولار، خاصة بعد التوقعات التي رصدها كتاب “الأب الغني والأب الفقير” لـ”روبرت كيوساكي”، الذي أعرب عن قلقه من أن الدولار قد يفقد قيمته و”يصبح ورق تواليت”، يبقى السؤال: هل تأخذ هذه القمة مبادرة اتفاق حول إصدار العملة الجديدة كبديل للدولار الأمريكي، خاصة بعد أن أصبح “بنك التنمية الجديد”، التابع للمنظمة الذي بلغ رأس ماله 50 مليار دولار حديث الخبراء، الذي يمكن أن يكون البديل عن البنك الدولي وصندوق النقد؟
■ تمثل مجموعة “بريكس” أكبر تكتل اقتصادي عالمي، بدأت فكرة تأسيسه في أيلول من عام 2006، ويضم التكتل خمس دول تعد صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. عقدت أول قمة بين رؤساء الدول الأربع البرازيل وروسيا والهند والصين المؤسسة في يكاترينبورغ بروسيا في حزيران 2009 حيث تضمنت الإعلان عن تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية تحت اسم “بريك” ثم انضمت جنوب إفريقيا إلى المنظمة عام 2010 ليصبح اسمها “بريكس”.وكلمة “بريكس” (BRICS) هي اختصار يضم الحروف الأولى لأسماء هذه الدول بالإنجليزية.
■ تعمل بريكس على تشجيع التعاون التجاري والسياسي والثقافي بين الدول المنضوية تحت هذا التحالف، وقد أصبحت أحد أهم التكتلات الاقتصادية في العالم، نظراً لأرقام النمو التي باتت تحققها دول هذا التكتل مع توالي السنوات، مما جعلها محط اهتمام عديد من الدول التي ترغب في الانضمام إليها.
■ يذكر أن دول مجموعة بريكس تشكل مجتمعة أكثر من ثلث مساحة اليابسة، ويعيش فيها أكثر من 40% من سكان الأرض، حيث تضم أكبر 5 دول مساحة في العالم وأكثرها كثافة سكانية، إذ تتحكم مجموعة بريكس في 50% من احتياطي الذهب والعملات، وقد وصلت مساهمة المجموعة في الاقتصاد العالمي إلى 31.5%، وهناك توقعات أن اقتصادات هذه الدول ستهيمن مجتمعة على الاقتصاد العالمي بحلول عام 2050. – حسب مجموعة غولدمان ساكس البنكية العالمية، بينما توقفت مساهمة مجموعة السبع الصناعية والتي تضم كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، عند 30.7 %
■ تملك دول بريكس ميزات يندر وجودها في كثير من دول العالم فالبرازيل عملاق أمريكا اللاتينية مساحة وتأثيراً ومن أكثر الدول المزودة للمواد الخام، وروسيا مصدر عالمي للطاقة الكامنة والغاز والثروات المعدنية بكل أنواعها وهي أكبر دولة مساحة في العالم التي تصل الى 17 مليون كم2 ، والهند الدولة الأولى في العالم بعدد السكان وهي مصدر مهم لتكنولوجيا المعلومات، أما الصين الدولة الثانية بعدد السكان فلها موقع اقتصادي وإنتاجي وديموغرافي متقدم ومتطور ينافس أكبر اقتصاديات العالم ، وأخيراً جنوب أفريقيا وهي منطقة تعدين مهمة عالمياً وموقع استراتيجي عالمي مهم جدا بإشرافها على المحيطين الهندي والأطلسي معا.
■ تشير الإحصائيات التي أعلنت عن مجموعة “بريكس” إلى تغيير كبير في موازين القوة الاقتصادية والسياسية. وهي آخذة في الصعود، خصوصاً بعد حرب أوكرانيا وعدم مشاركة دول المجموعة في العقوبات المفروضة من الغرب على موسكو، وهو يعني مزيداً من الاستقلال والسيادة لهذه الدول التي “لا ترغب في العيش بعالم القطب الواحد”
■ لقد نفذت دول “بريكس خلال السنين الماضية ” سلسلة من مقايضات العملات الثنائية لزيادة استخدام العملات المحلية في التجارة وتجاوز الدولار، مما أدى إلى تعميق مسارات التخلص من الدولار بين هذه الدول .
■ سعت دول “بريكس” إلى خلق نظام اقتصادي جديد مواز لنظام المؤسسات الدولية الحالية، وتتعامل بطرق جديدة تخرج الدولار من معاملاتها باعتباره وسيطاً ومقياساً لأسعار العملات، ووسيلة للدفع، وحتى وحدة لعمل المقاصة الدولية. وقد قامت “بريكس” حتى الآن بخلق مؤسسات جديدة تسعى لخلق نظام اقتصادي مالي دولي جديد. وهذه المؤسسات قد بدأت عملها بدون ضجيج أو محاولة لتعطيل دور المنظمات الدولية النظيرة لها. فقد تم انشاء أولاً، بنك التنمية الجديد, الذي انتسبت اليه الكثير من الدول رغم الضغوط الأميركية وهو يقوم بتقديم قروض يُحول معظمها من الصين لتزويد الدول بالمال للبنى التحتية, وأنشأت ترتيباً جديداً لدعم الاحتياطات الأجنبية أطلق عليه اسم (Contingent Reserve Arrangement)، وهو بديل عن دور أساسي يقوم به صندوق النقد الدولي، ثم نظام “بريكس” للمدفوعات، ثم دار نشر الإحصاءات لدول “البريكس”، ثم وهو الأخطر إنشاء سلة عملات جديدة للدول الأعضاء في “بريكس”.
■ ولو تمعّنا في هذه المؤسسات لرأينا أنها تواجه منظمات دولية أساسية وهي البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وإحصاءات الأمم المتحدة، ونظام المدفوعات الذي يمكن تطويره لإحداث نظير لنظام سويفت (SWIFT) الأميركي، ونظام آخر للتخلي عن الدولار في تسديد المدفوعات بين الدول، واستبداله بوحدة نقد جديدة تقوم على احتياطات دول البريكس. وقد تنامت مساعي المجموعة في توسيع عدد الدول الأعضاء فيها عبر توفير مزايا اقتصادية للدول الأعضاء، وتعزيز التحالفات وتشكيل كتل جديدة وتوقيع اتفاقيات تجارية وأمنية، ما ساهم في تزايد رغبة الدول بالانضمام وتحقيق نوع من “التوزان الجيوسياسي” العالمي.
■ ستعقد قمة بريكس الخامسة عشرة في جنوب افريقيا يومي 22 و 24 أغسطس/ آب الجاري، تحت عنوان “بريكس وأفريقيا: الشراكة من أجل تسريع النمو المتبادل والتنمية المستدامة والتعددية الشاملة”. وسيحضر قادتها إضافة الى قادة أكثر من 34 دولة على الأقل” وفق ما صرحت به وزيرة خارجية جنوب أفريقيا . وقال رئيس جنوب افريقيا إن إحدى أولويات الرئاسة الدورية لجنوب أفريقيا لبريكس هي بناء شراكة بين دول بريكس وأفريقيا، وستدعو جنوب أفريقيا العديد من القادة الأفارقة للمشاركة في قمة هذا العام. كما أن تعزيز التعددية والتصدي للتحديات والفرص المشتركة بين جنوب أفريقيا وأعضاء بريكس الآخرين من الأولويات.
■ لقد قال وزير الخارجية الهندي خلال كلمة افتتاحية “اجتماعنا يجب أن يبعث رسالة قوية مفادها أن العالم متعدد الأقطاب، وأنه يعيد توازنه، وأن الطرق القديمة لا يمكنها معالجة الأوضاع الجديدة”. أضاف “نحن رمز للتغيير ويجب أن نتصرف على هذا الأساس”، كما أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن القمة المقبلة لمجموعة دول بريكس ستناقش إنشاء عملة موحدة لدول المجموعة وقال للصحافيين “هذا هو الاتجاه الذي تسير فيه المبادرات
■ قال مندوب جنوب أفريقيا في المجموعة إن “22 دولة تواصلت رسميا مع دول بريكس لتصبح عضوا بشكل كامل، من بينها عدد من الدول العربية النفطية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والجزائر والبحرين إضافة الى ايران التي قدمت طلبها سابقا”. ويطرح انضمام الدول النفطية ما إذا كان سيؤثر على سياسة بيع النفط بالدولار الذي تتبعه دول “أوبك” منذ عقد السبعينيات الماضي في ما يطلق عليه “البترودولار”.. ومن الدول الاخرى المهتمة بالعضوية أفغانستان مصر إندونيسيا سوريا، العراق، تونس، الارجنتين ,كازاخستان، نيكاراجوا، نيجيريا ,السنغال، تايلاند وغيرها.
■ يأتي اهتمام الدول بالانضمام إلى مجموعة بريكس في وقت تتنامي فيه الأزمات الاقتصادية التي تسببت في المزيد من المتاعب للحكومات في العديد من أنحاء العالم. كما يأتي في وقت يواجه العالم أزمة طاقة متنامية.
■ لعل هذه القمة ستكون قمة تاريخية و نقطة فاصلة ليس لبريكس فقط ، وإنما للعالم اجمع، حيث من المتوقع اعلان عملة جديدة قابلة للتداول مدعومة بالذهب للتعامل بها بدلا عن الدولار، و في حال ما تم إطلاق عملة بريكس فسيتم فعليا و عمليا ، كسر الهيمنة الغربية ونفوذها الجيوسياسي و كسر أدوات الهيمنة الأمريكية و بخاصة الدولار الأمريكي، و ستكون العملة الجديدة بمثابة الخنجر الذي سيقطع وريد اقتصاد المركز الرأسمالي العالمي وسياساته الإمبريالية الاستغلالية , فالنموذج التنموي الذي ابتكره الغرب و ساد المعمورة شرقا و غربا، و تبنته مختلف الدول بما فيها الصين، لم يعد صالحا لبناء المستقبل، بمعنى بناء اقتصاديات قادرة على تحقيق النمو دون إضرار بالبيئة و تدميرها، و تحقيق التوزيع العادل للثروة و الدخل محليا و دوليا، فهذا النموذج بلغ ذروته، و ما نراه اليوم من تدهور اقتصادي و تدمير بيئي و انحطاط ثقافي و تفشي الأوبئة و تريليونات الدولارات التي تتبخر على الحروب والهيمنة و التي لو استثمرت فعليا” في عمارة الأرض ورفاه الأمم لكان الوضع مختلف عما عليه اليوم.
■ إن المتغيرات الدولية التي يشهدها النظام الدولي فرصة نادرة للبلدان العربية وبلدان العالم الثالث للتحرر من الهيمنة الغربية و النظام الاقتصادي و المالي الغربي و التحرر التدريجي من قبضة الرأسمالية المتوحشة و النظام النقدي العالمي القائم على قاعدة الدولار و الدفع باتجاه تغيير قواعد اللعبة الدولية و الدعوة إلى إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب و القطيعة مع الهيمنة الأمريكية و المركزية الغربية , وعلينا، كعرب أن ننظر إلى المتغيرات الحالية في الساحة الدولية، بطريقة أكثر إيجابية، وينبغي استغلالها بذكاء ومسؤولية للتأسيس لاقتصاديات حقيقية تلبي الاحتياجات الأساسية لشعوبنا ودولنا.
■ لكن السؤال الذي يطرحه البعض هل ستنجح بلدان المجموعة في إطلاق العملة الجديدة و بالتالي نجاح ” تحالف الشرق” بقيادة الصين وروسيا بالإضافة الى القوى الصاعدة فى النظام العالمي في انتزاع مركز الثقل بشكل سلس و إقامة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب؟ أم أن “تحالف الغرب” بقيادة أمريكا ستدافع عن مكانتها و هيمنة عملتها على النظام النقدي والمالي العالمي لكسر تحالف الشرق؟
نشير هنا الى بعض الملاحظات
1- قدم وزير المالية الروسي، المزيد من الأدلة حول ماهية عملة بريكس. وقال إنه بدلاً من التفكير فيها كعملة بديلة، “ربما يسميها وحدة دفع داخل دول البريكس”. وبالتالي فإن عملة “بريكس” ستستقر في البداية على التجارة بين دول “البريكس”. وهذا من شأنه من الناحية النظرية أن يخلق الظروف اللازمة لعلاقات نقدية أكثر ثباتاً بين الدول الأعضاء، على سبيل المثال، مثل آلية سعر الصرف الأوروبي قبل اليورو للنمو بشكل عضوي.
2- يعتقد جوزيف سوليفان الذي عمل سابقاً كخبيرٍ اقتصاديّ في مجلس البيت الأبيض للمستشارين الاقتصاديين خلال إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إنّ “عملة البريكس يمكن أن تهزّ هيمنة الدولار، وقد تكون لحظة إزالة الدولرة وصلت أخيراً”. فحسب رأيه، يمكن لدول “البريكس” تمويل فواتير وارداتها بشكلٍ مستقلٍ، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في التجارة الدولية، نظراً إلى الفائض التجاري الذي سجلته في عام 2022، وعلى عكس اتحادات العملات الحالية، فإن مجموعة “بريكس”، لا تُركز على الحدود الإقليمية، ويمكن أن تنتج مجموعةً واسعةً من السلع، مما يُعزز لديها الاعتماد على الذات. وعلاوةً على ذلك، فإن النفوذ الاقتصادي الذي يتمتع به البلدان الأعضاء، يجعل “بريكس” أكثر توقا” للانخراط في الأعمال التجارية العالمية باستخدام العملة المُقترحة، مما يضمن القبول العالمي والمرونة التجارية، ويسمح للسلع بتجاوز القيود والتعريفات التجارية المفروضة
3- تجد بكين وموسكو أن الفرصة سانحة الآن لإعادة تشكيل النظام العالمي، خاصة بعد دخول الصين كمنافس رئيسي للولايات المتحدة في قطاعات التكنولوجيا وأشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي إضافة إلى مجال الفضاء، ما انعكس إيجابياً على وضعها الاقتصادي عالمياً، وبالمثل تطمح روسيا إلى إعادة تشكيل النظام الدولي وجعله متعدد الأقطاب بالتركيز على التحالفات الجديدة والتوسع في التسلح التقليدي والنووي، لذا تتوافق المصالح بين الجانبين الروسي والصيني لمواجهة الجانب الأمريكي.
4- بات متوقعاً أن تصبح بريكس رسمية بشكل متزايد وأن تصبح مؤسسية بشكل أعمق. ما يزيد من المخاوف لدى بعض صانعي السياسات في أوروبا والولايات المتحدة من أن تصبح دول البريكس ملاذاً اقتصادياً للقوى الصاعدة التي تسعى للتأثير على النمو والتنمية العالميين.
5- أدركت بعض الدول الأوروبية الآثار السياسية والاقتصادية لصعود المجموعة بالتزامن مع المواجهة بين بكين وواشنطن. وأبقت على قنوات تواصل مفتوحة مع جميع الأطراف وحجز مكان لها في مجموعة “بريكس”.
6- تسعى دول “بريكس” جاهدة لتعزيز سيادتها المالية وعزل نفسها عن تأثير العقوبات الغربية من خلال تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي وتبني آليات دفع بديلة. يمكن أن تمثل قمة “بريكس” 2023 منعطفاً حاسماً، يمثل بداية حقبة جديدة في التمويل العالمي.
7- من المتوقع أن تلعب القارة الإفريقية دوراً مهماً وحاسماً في تكتل بريكس وفي تقوية التحالف الروسي الصيني، نظراً لأن القارة غنية بالموارد الطبيعية من مصادر الطاقة والمحاصيل الزراعية، لذا تصبح نقطة جاذبة للاستثمارات من قبل الدول الكبرى في السنوات القادمة.
8- تمثل قمة بريكس ال15 نقطة فارقة في العلاقات بين إفريقيا وروسيا والصين، خاصة في حال نجاح القمة في اتخاذ قرارات اقتصادية تتعلق بإصدار عملة موحدة للتكتل أو تدشين مبادرات مع دول إفريقية غير أعضاء بالمجموعة، ما ينعكس بشكل مباشر على ملامح النظام العالمي في المرحلة المقبلة
9- يقول محللون في حين أنه من غير الواضح ما إذا كانت عملة “بريكس” الجديدة ستلهم إنشاء بدائل أخرى للدولار الأميركي، فإن إمكانية تحدي هيمنة الدولار كعملة احتياطية لا تزال قائمة. ومع استمرار البلدان في تنويع حيازاتها الاحتياطية، قد يواجه الدولار الأمريكي منافسة متزايدة من العملات الناشئة، مما قد يؤدي إلى تغيير ميزان القوى في الأسواق العالمية.
10- ستحاول أمريكا وحلفائها الدفاع عن مصالحها بكل ما يتوفر من امكانات لكن سبق السيف العزل فالزمن لا يمكن أن يعود الى الوراء ولكل ظالم نهاية ولكل مستغل افول فالعملة المقترحة هي بداية أفول الدولار عالميا” ورغم ان الأمر سيأخذ عدة سنوات كي يكتمل كما يشير محللون إلا أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة .
باحث أكاديمي وكاتب سياسي