مقالات

في زمن التّناقضات هل نملك شجاعة الاعتراف ؟

بقلم محمد ضياء الدين بديوي
رئيس تحرير وصحفي استقصائي علمي

قراءة تحليليّة في تناقضات الخطاب العربي حول التّطبيع والمقاومة

السّيادة أولاً

في ظلّ التحوّلات الجيوسياسية المتسارعة التي تعصف بالمنطقة العربية يطفو على السطح تناقض صارخ في الخطاب السياسي تجاه مفهومي التطبيع والمقاومة فبينما يُجرَّم لقاء سياسي مع وفد إسرائيلي ويُوصَم بالخيانة تُبرَّر تحالفات مع قوى إقليميّة تورَّطت في قتل وتشريد ملايين المدنيين في سوريا واليمن والعراق بل ويُمنَح بعض رموزها لقب شهداء القدس

هذا التناقض لا يعكس خللاً أخلاقيّاً فحسب بل يكشف عن أزمة أعمق في فهم السيادة والمصلحة الوطنية ويستدعي مراجعة جذريّة للخطاب السياسي العربي في مرحلة ما بعد النزاعات حيث لم تعد الشعارات كافية لتبرير التحالفات أو إدانة الخصوم

أولاً _ ازدواجية المعايير في توصيف التحالفات

تُقيم بعض الفصائل العربية وعلى رأسها فصائل فلسطينية تحالفات استراتيجية مع جهات ثبُت تورطها في جرائم حرب ضد شعوب عربية دون أن يُنظَر إلى ذلك كخيانة في المقابل يُهاجَم أي لقاء سياسي مع وفد إسرائيلي حتى وإن كان في سياق تفاوضي أو دبلوماسي ويُحمَّل صاحبه مسؤولية التفريط بالقضية الفلسطينية

هذه الازدواجية تطرح تساؤلات جوهريّة ألا و هي

هل تُستخدَم القضية الفلسطينية كغطاء لتحالفات ملوَّثة بالدم العربي ؟
لماذا يُغضّ الطرف عن قتل أطفال حلب بينما تُستثمَر دماء أطفال غزة ؟
كيف يُختزَل وطن كسوريا في شخص أو نظام ويُمنَح لقب سوريا الأسد ؟
أين تقع حدود الأخلاق السياسية في توصيف العدوّ والحليف ؟

إنّ هذا التناقض لا يقتصر على الخطاب السياسي بل يمتدّ إلى الإعلام والمنصّات الجماهيرية حيث يُمارَس الانتقاء في الغضب والتعاطف ويُعاد تشكيل الوعي الجمعي وفقًا لمصالح المحاور الإقليميّة لا وفقًا لحقوق الشعوب

ثانياً _ التحوُّل السوري نحو أولويات وطنيّة

بعد أكثر من عقد من الحرب بدأت السياسة السورية تُعيد ترتيب أولوياتها بعيدًا عن الشعارات الأيديولوجية وبما ينسجم مع الواقع الوطني وتتمثّل هذه الأولويات في أربعة محاور رئيسيّة

أوّلاً
التركيز على وحدة الأرض من خلال رفض مشاريع التقسيم والتفتيت التي تُهدِّد كيان الدولة
ثانياً
السعي إلى حقن الدماء عبر تعزيز المصالحة الوطنية ووقف النزيف الداخلي
ثالثاً
إعطاء الأولويّة للبناء الداخلي من خلال التركيز على إعادة الإعمار والتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة
رابعاً
ترسيخ مفهوم السيادة الوطنية برفض التبعيّة لأيّ محور خارجي بما يُعكس استقلاليّة القرار السوري ويُعيد الاعتبار للمصلحة الوطنية كمرجعيّة أساسيّة في رسم السياسات

هذا التحوُّل يُعبِّر عن إدراك متزايد بأنّ الشعارات العابرة للحدود لم تعد قادرة على حماية الداخل وأنّ استعادة السيادة تبدأ من إعادة بناء الدولة لا من تبنّي صراعات الآخرين كما أنّ إعادة تعريف الأولويّات لا تعني الانسحاب من القضايا القوميّة بل تعني مقاربتها من زاوية المصلحة الوطنيّة لا من منطق التوظيف السياسي

ثالثاً _ معركة البناء كأولوية استراتيجية

في ظلّ التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتدخّلات الخارجيّة لم تعد المعارك الأيديولوجيّة أو العسكريّة مجدية المعركة الحقيقيّة اليوم هي معركة تنمويّة وسياديّة تتطلّب

تعزيز الوحدة الوطنيّة كدرع ضد مشاريع التفتيت
ترسيخ الوعي السياسي لمواجهة التلاعب بالشعارات
ضمان استقلال القرار السياسي لاستعادة الدور السوري الإقليمي والدولي

إنّ معركة البناء لا تقتصر على البنية التحتيّة بل تشمل إعادة بناء الإنسان وإصلاح المؤسّسات واستعادة الثقة بين المواطن والدولة وهي معركة تتطلّب خطاباً عقلانيّاً لا شعاراتيّاً يضع السيادة فوق الولاءات الخارجيّة ويُعيد الاعتبار للدم السوري في معادلة التحالفات

رابعاً _ نحو خطاب سياسي أخلاقي ومتّسق

لم يعد ممكناً الاستمرار في تعريف مفاهيم التطبيع والمقاومة والسيادة وفق منطق شعاراتي متناقض فالتطبيع ليس مجرّد لقاء بل موقف شامل من الاحتلال ومن الدم العربي ومن الكرامة الإنسانيّة والمقاومة ليست شعاراً بل التزام أخلاقي لا يُجزَّأ بين طفل في غزة وآخر في حلب

إنّ المطلوب من النخب الفكريّة والسياسيّة مراجعة شاملة للخطاب السائد وتبنّي رؤية أكثر اتّساقاً مع المبادئ الإنسانيّة وأكثر ارتباطاً بالمصلحة الوطنيّة بعيداً عن التقديس الأيديولوجي أو التوظيف السياسي للقضايا العادلة

فالتحالف مع أنظمة قمعيّة يكشف تناقضاُ صارخاً بين خطاب حقوق الإنسان والممارسة السياسيّة والسيادة ليست شعاراً يُرفَع في المناسبات بل ممارسة يوميّة في القرار الوطني وفي احترام دماء الشّعوب وفي رفض التبعيّة لأيّ محور خارجي أمّا المقاومة الحقيقيّة فهي تبدأ من الداخل من بناء الإنسان وحماية الأرض واستعادة الكرامة

لقد آن الأوان لإعادة تعريف العدوّ والحليف وفقاً للدم العربي لا وفقاً للشعار السياسي فالمعيار الأخلاقي يجب أن يكون ثابتاً لا يتغيّر بتغيّر المحاور ولا يُجزَّأ حسب الجغرافيا أو الهويّة

عكـس الاتّـجاه نيـوز
الحقيقـة الكاملـة
معــاً نصنع إعـلاماً جـديداً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى