قصّة العلاقات السورية – التركية
بقلم كمال خلف الطويل
الجمعة 12 تموز 2024
كان قرار مجلس الأمن القومي التركي، برئاسة رئيسه رجب إردوغان، في أواخر نوفمبر 2011، بالتدخّل الميداني ضدّ سوريا ونظامها الحاكم، عبر تسليح وتدريب عشرات الألوف من: مهاجرين سوريين (منهم من شجّعتهم تركيا على الهجرة ونصبت لهم مسبقاً معسكرات خيام منذ نيسان 2011، أم فضّلوا الخروج سعياً إلى فرص حياة أفضل بعيداً عن بؤر التوتر المتّسعة في الداخل)، ومهجّرين سوريين، سواء إلى تركيا أم إلى مناطق نفوذها الشمالية (مَن فرّوا بأنفسهم من سعير القتال المحتدم في مناطقهم، ومَن أوذي بنيران الجيش وميليشياته، أو مَن آذاه سلوك «محرّريه»؛ فآثر السلامة بنفسه في الأناضول عنها حولهم)، كما ومن غير سوريين وفدوا من شتّى القارات، بتيسير سافر، وبأعداد كبيرة، ليؤذّنوا على «الجهاد» في سوريا. كان ذلك القرار نذير حرب سورية طاحنة بامتياز. وقتها، قدّرتُ أن أوارها لن يخمد قبل انقضاء عقد، وأن توقّعي المكتوب، في آب من ذات العام، عن فاتورة مليون ضحية، بين قتيل ومعطوب، قد تثبّت يقيناً بذلك القرار.ما الذي دفع إردوغان إلى ارتكاب فعلةٍ، لا بدّ أن ندم عليها مع الوقت؟ لازمةٌ هنا العودة إلى عقود 1918-1957 كي نربط خيوط الماضي بالحاضر، لا سيما أن النقلة إلى المستقبل مُشارفة.بدءاً، كلا الكيانين التركي والسوري إفرازٌ وليدٌ من رحم سقوط الإمبراطورية العثمانية، وليسا من طبيعة ضاربة في التاريخ. مصطفى كمال وصحبه تكيّفوا مع المستجدّ بأن صارت أسمى أمانيهم النجاة بالأناضول من قبضة الاحتلالات الغربية العدة (اليوناني والإيطالي والفرنسي، بل والبريطاني)، ثم توسعته كي يشمل كيليكيا وإسكندرون، اللتين ضمّتهما الأقاليم الشامية في الإمبراطورية، وذلك بمقايضة فرنسا أن تسحب قواتها من الأولى لقاء توقّف كمال عن مساندة التمرّد السوري المسلّح في الشمال والساحل، أوائل العشرينيات، ثم مقايضتها، بتيسير استيلائه على الثانية لقاء حياده في الحرب العالمية الثانية، عشيّتها (ما نال سوريا الجغرافية من تركيا فاض عمّا أصاب العراق منها؛ فقد اقتصر الأمر معه على مطالبةٍ لفظية بولاية الموصل، منذ معاهدة لوزان في 1923، دون محاولة إنفاذها مادّياً).تبنّى مصطفى كمال، ومن بعده عصمت اينونو، في المدة ما بين 1923 و 1950، نهجاً حثّياً مفاده أن تركيا هي الأناضول الموسّع وحسب، وأن الطورانية عبءٌ وجب إنكاره، والعثمانية تخلّف حسُن نكرانه، والأوربة موئلٌ تحتّم ركونه. وعليه، فمن بعد وضع اليد على إسكندرون، في 1939، سلِمت سوريا من أيّ تدخّل تركي حتى عام 1954.ما الذي غيّر النهج حينها ولحين؟ انزياح تركيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية نحو الغرب الجماعي كلّياً، في وجه خصمها التاريخي روسيا، رغم دعم الأخيرة لاستقلالها في العشرينيات.كانت حماسة الجناح اليميني من الأتاتوركية، والذي انشطر عن حزب أتاتورك الواحد: الشعب الجمهوري، عشيّة الخمسينات، تحت عنوان: الحزب الديموقراطي، بزعامة عدنان مندريس؛ كانت بالغةً، سواء لانضمام قوّات تركية إلى القوّات الأميركية المحاربة في كوريا، أم لعضوية حلف «الناتو». لم يكتفِ مندريس بذلك بل راح، منذ أوائل 1954، ينسج حلفاً غربي الولاء، عابراً للبطن الرخو للاتحاد السوفياتي، بدأه مع باكستان، وبعزمِ ضمّ إيران (كانت مسألة وقت حتى يستوي أمر بهلوي، العائد من منفاه على الحراب الأنغلو-أميركية) والعراق، ثمّ «الشام»، بسرعة قياسية.كان أوّل الغيث عنده لهفة نوري السعيد، المفتون بالإنكليز، على الانضمام للحلف الجديد، الأمر الذي تمّ مطلع عام 1955، وسرعان ما أتت في إثْره دعوة المحيط للانضمام إليه، سلماً أم بالقوّة.لكن ما وضع العصي في دواليب الحليفين، وخلفهما الراعيَين الأميركي والبريطاني، كان بزوغ قيادة استقلالية معادية للاستعمار في القاهرة، رأت في حلفٍ تابع للغرب طامّة كبرى على مصر والعرب، وارتأت في بديل عربي مشترك عنه غبّ الطلب لها ولهم.ما بين مطلعي عامي 55 و58، دار على «الشام» صراع صفري بين حلف «بغداد» ورعاته الغربيين، وبين عبد الناصر وحليفه الشارع «الشامي»، بل والعراقي معه. وقف الجيش السوري مع شارعه، مع ما كلّفه ذلك من صدام عنيف مع الحزب السوري القومي الاجتماعي، والذي خلطت قيادته ما بين هدف الاتحاد السوري-العراقي –وكان خير مرام– وبين حلف «بغداد» الغربي التبعية، بل وذهبت إلى حدّ اغتيال خصمها الألدّ، العقيد عدنان المالكي، فكان أن واجهت وكادرها، العسكري والحزبي، مآلاً امتدّت آثاره لعقدين ويزيد.أحرق الصراع أيضاً شرائح واسعة من رموز اليمين السوري، سيما من الحزب الوطني (كانت مفارقة أن حزب الشعب، الداعي التاريخيّ للاتحاد السوري – العراقي، قد نجا من التلوّث بالخلط بين دعوته ومسعاه، قبل عام 54، وبين الانضمام للحلف بعده، فيما غطس «الوطني» في مستنقع الحلف بين صريح قاده ميخائيل اليان، ومستتر تزعّمه صبري العسلي). كانت أولى ضحايا منع انضمام سوريا إلى الحلف فارس الخوري وحكومته، والذي فضّل اعتزال السياسة بالمطلق عن أن تُسحب الثقة البرلمانية بحكومته لتأييدها الخجول للحلف. ثم اكتملت هزيمة مشايعيه، من نخب سورية، بتطهير اليمين العسكري من صفوف الجيش، صيف عام 57.شهدت الفترة الفاصلة ما بين «أضنة» ورحيل الأسد طيّ صفحة الحرب بالواسطة بين البلدينإبّان تلك الفترة، اضطر الملك حسين إلى النأي عن الحلف، بل وطرد الضباط البريطانيين من جيشه، وواجه كميل شمعون معارضة كاسحة منعته من ضمّ لبنان إليه. وقفت السعودية مع عبد الناصر ضد الحلف لعامين، لكن خشيتها المستجدّة منه، بعد انتصاره السياسي في «السويس»، دفعتها إلى تناءٍ متدرّج عنه، وتقارب محسوب مع خصومها الهاشميين ضدّه، وإن لم يكن شاملاً لكلّ كبار الأسرة المالكة. عزّز المجهود العربي ضدّ الحلف دعم الاتحاد السوفياتي الكامل له.ما الذي فعلته تركيا نحو سوريا في 1957؟ كان قرار حلفي «الناتو» و«بغداد»، أي المتبوع والتابع، منذ مطلعه: عزل السعودية عن مصر، وإبعاد مصر عن «الشام»، وبكلّ السبل. تحيّر المتبوع بين غزو سوريا بالجيش العراقي أم بالجيش التركي، وتردّد في المفاضلة حتى بتّ الأمر، أوائل خريفه، باعتماد التركي غازياً.مَن وما الذي منع مندريس، وخلفه أيزنهاور، عن المضيّ بخطّة الغزو المنتواة، في أكتوبر 57؟ هما عبد الناصر وخروتشيف.بعد هزيمة مقاصد السياسة التركية حينها، انكفأت أنقرة عن التدخّل في الشأن الداخلي السوري، باستثناء طيرها فرحاً بالانفصال السوري، ومسارعتها للاعتراف بسلطته في مساء اليوم الأوّل لانقلابه. لكنها مكثت بعده لابدةً لقرابة عقدين، عادت بعدهما، ومنذ انقلاب كنعان ايفرين العسكري صيف 1980، سيرتها الأولى وفقاً لتكليف ناتوي بدعم التمرّد الأصولي المسلّح في سوريا لوجستياً.ردّ حافظ الأسد، رفقة جورج حبش ونايف حواتمة، ومنذ 1984، بدعم تمرّد كردستاني مسلّح شرق الأناضول، خاضه حزب العمّال الكردستاني الماركسي العقيدة، لأكثر من دزّينة أعوام. كان موقف الأسد ذاك أوسع من مجرّد معاملةٍ بالمثل؛ لقد هدف إلى أمرين: الأوّل، أنه وباعتبار سوريا على حدود «الناتو»، فقد اقتضى ذلك مشاغلة عضوه الجار كي لا يعيد كرّة فعلته عام 80. والثاني، إرساء تبادلية وقف دعمه المتمرّدين الكرد لقاء التزام تركيا بمنسوبٍ مواتٍ من مياه نهر الفرات، يزيل ضيم السدود التركية المبنيّة على أعاليه. تمرجحت التبادلية، ما بين عامي 84 و98، مدّاً وجزراً دون رسوٍ على سويّة مستقرّة فضّت النزاع.لحَظ الأسد كذلك بانتباه شديد تصريحات الرئيس التركي، تورغوت أوزال، خلال أزمة الكويت 90/91، المُطالبة بضمّ «ولاية» الموصل (محافظات نينوى وكركوك ودهوك وأربيل والسليمانية) إلى تركيا، رابطاً إياها بخلفية لابثة في الذهن الجمعي التركي مفادها أنّ الشام (تحديداً سوريا الداخلية، وبالأخصّ شمالها) امتداد طبيعي لتركيا في كلّ الميادين.زاد الطين بِلّة اندفاع العسكريتاريا الحاكمة في تركيا إلى توقيع اتفاق تعاون عسكري وجوّي مع إسرائيل، في شباط 96، فهِمه الأسد نيّة عدوان مشترك على بلاده.رطّب الأجواء نسبياً، ويا للمفارقة، وصول الزعيم الإخواني، نجم الدين أربكان، إلى رئاسة الحكومة، في حزيران من ذات العام، سيّما أنه قد سارع إلى محاولة إغلاق ملفّ الصدام البعثي-الإخواني في سوريا. لكن الوقت لم يسعفه إذ داهمته العسكريتاريا بانقلاب هادئ، ولمّا مضى بعدُ عامٌ على حكومته.على خلفية ذلك كلّه، حفلت فترة صيف 97 – خريف 98 بمتلازمة اشتداد وتيرة عمليات الكردستانيين المسلّحة ضدّ الجيش التركي مع تقتير تركيا في تمرير مياه الفرات لسوريا. بلغ الأمر حدّه حين وقف رئيس الحكومة التركية، وصنيعة العسكريتاريا، مسعود يلماظ، في برلمان بلاده لينذر الأسد بالمليان أنْ أوقف دعمك لعبد الله أوجلان، زعيم التمرّد الكردستاني، واطرده من لدنك (سوريا ولبنان) من توّك، وإلّا فالجيش التركي آتٍ إلى دمشق غازياً؛ لا بل وأضاف إلى التهديد ألفاظاً سوقيّة بحقّ مَن هاجم.قلّب الأسد الأمر على كل وجوهه فأدرك أنّ التهديد جدّي هذه المرّة، سيما أن الولايات المتحدة منشغلة بالتحضير لحملة «ثعلب الصحراء» ضد العراق، وروسيا في حالة احتضار، فما كان من سبيل سوى الإنصات إلى وساطتين، مصرية وإيرانية، تدرآن احتمال الحرب؛ وقد كان.تمخّض عن فضّ الاشتباك توقيع اتّفاق أضنة، في أكتوبر 98، والذي نصّ على حق المطاردة الساخنة للقوّات التركية بعمق 5 أميال داخل الأراضي السورية، مع التزام دمشق بوقف تامّ وفوري لكلّ أشكال الدعم لأوجلان وطرده من البلاد.وفعلاً، فقد شهدت الفترة الفاصلة ما بين «أضنة» ورحيل الأسد طيّ صفحة الحرب بالواسطة بين البلدين، وإرساء هدوء تامّ على طرفي الحدود؛ بل وتوّج حضور الرئيس التركي، نجدت قيصر، جنازة الأسد، مناخ تطبيع جدّي لعلاقات البلدين، ولعقدٍ بعد.
د.كمال خلف الطويل