مقالات

هل تفلح واشنطن في استيلاد “إسرائيل” جديدة؟

بقلم د. حسن أحمد حسن

لم يعد بإمكان الفكر التحليلي الموضوعي الحديث عن “إسرائيل” بدورها الوظيفي التقليدي بعد السابع من تشرين الأول 2023م.

فـ “إسرائيل” القديمة التي نالت الاعتراف بكيانها عام 1948 لم تعد كما هي، ولن تعود، وليس أمام القوى العالمية التي كانت وراء إنشائها واحتضانها وإحاطتها بالدعم والرعاية إلا العمل على تغيير مقومات هويتها لتكون قابلة لاستمرارية الوجود وفق مفرزات الواقع القائم، وما يعيشه العالم من مخاض ولادة نظام عالمي جديد يسعى بعض المتضررين من عصر الأحادية القطبية لتسريع ولادته ولو بعملية قيصرية لا تخلو من خطر موت الجنين قبل أن يبصر النور، وهذا ما تعمل واشنطن للدفع باتجاهه وادعاء العكس للتنصل من المسؤولية المباشرة من كل ما قد يترتب من نتائج كارثية حتمية للعبث غير المتزن أو غير المحسوب بمدخلات الستاتيكو القائم الذي يشكل اللوحة الكونية بكل مكوناتها، بغض النظر عن الحاجة الفعلية والمشروعة لخلخلة هذا الستاتيكو، لكن بمزيد من الحذر والإحساس العالي بالمسؤولية والاستناد في أي قرار يمكن اتخاذه إلى مسلمة “البناء على أسوأ خيار قد يعتمده الآخر”، وحساب التكلفة والمردودية، والأهم التنسيق العالي بين الأطراف المتضررة من استمرار فرض الأحادية القطبية، وهي كثيرة وتكاد تشمل غالبية دول العالم إلا أن الجهود المشتركة ما تزال مشتتة أو دون المستوى المطلوب من التنسيق والتكامل.

لماذا القول: “إسرائيل” القديمة لم تعد موجودة؟بعيداً عن الخوض في التفاصيل التاريخية التي سبقت إقامة الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين عام 1948 من المسلم به أن الكيان بكليته هو ثمرة التقاء مصالح الحركة الصهيونية العالمية مع مصالح القوى الاستعمارية الصاعدة قبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها، وحاجة تلك القوى للرأسمال اليهودي والتغلغل الذي تتمتع به الصهيونية العالمية في العديد من مفاصل صنع القرار جراء السيطرة على أهم ثلاثة قطاعات مؤثرة في العديد من الدول والقوى المتنفذة، منذ ذلك التاريخ، وهي:

قطاع المال والمصارف

ـــ قطاع الإعلام ووسائله التي كانت شبه محصورة بالصحافة والدعاية

ــــ قطاع التعليم العالي، ونظراً لأهمية ما يمكن أن ينتج عن هذا التزاوج بين القوى الاستعمارية التقليدية والليبرالية الصاعدة من جهة، وما تستطيع الحركة الصهيونية التحكم به من قدرات مالية وإعلامية وفكرية جاءت الرعاية في مراحلها الأولى من العرش البريطاني الذي لم تكن الشمس تغيب عن مستعمراته، وانتقلت الرعاية إلى الحضن الأمريكي بعد نجاح واشنطن في استثمار نتائج الحرب العالمية الثانية وتجييرها لصالحها وإلحاق أوربا الغربية بعجلتها العسكرية أولاً عبر حلف الناتو، ومن ثم ربط القرار الاقتصاد الأوربي بها عبر مشروع مارشال، ولا حقاً الانضواء عسكرياً واقتصادياً وسياسياً تحت العباءة الأمريكية التي فرضت الحرب الباردة على العلاقات الدولية، وفي تلك الفترة بالذات كان الدعم الأمريكي غير المسبوق للكيان الإسرائيلي وتمكينه من احتلال المزيد من الأراضي العربية وتوسيع دوره الوظيفي إلى مرحلة البدء بالتطبيق العملي لمشروع تدجين منطقة الشرق الأوسط، وتكليف الكيان الغاصب بالإمساك بدفة القيادة والسيطرة، والعمل على تفويضه وفق ما يراه مناسباً للتحكم بالمنطقة، وضمان تمكين واشنطن ليس فقط من استغلال ثروات المنطقة، بل والاستثمار بالثقل الجيوبولتيكي الوازن للمنطقة لخدمة المصالح الأمريكية وضمان التفرد بالقرار الدولي أطول فترة ممكنة، وهذا ما حدث واستمر لولا بعض المنغصات التي أفرزتها مواقف التوجه المقاوم الذي ازدادت قوته، وشكلت العلاقات السورية ـــ الإيرانية قاعدته التي نمت وتوسعت إلى أن فرضت وجودها كمحور مقاوم للهيمنة الصهيو ـــ أمريكية، واستطاعت أن تثبت مفهوم جدوى المقاومة وإمكانية البناء على صمودها في مواجهة الجبروت الأمريكي والتفرد بالقرار الدولي، وقد يكون من المفيد الإشارة إلى بعض العناوين والأفكار المهمة التي تساعد على توضيح الصوة بشكل أفضل، ومنها:

• بلوغ العدوانية الأمريكية الذروة بعد صول المحافظين الجدد مع إدارة بوش الابن، وإطلاق العنان للجبروت العسكري الأمريكي لاستخدام الطاقة التدميرية الهائلة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001م.

واحتلال دول مستقلة ذات سيادة/أفغانستان ـــ العراق/ في ظل صمت دولي مطبق، بل وخضوع شبه كوني لنزعة القتل وفرض الإرادة الأمريكية بالقوة العسكرية المفرطة.

• الصعود العمودي للهيمنة الأمريكية جاء مسبوقاً بانحسار نوعي في قوة الردع الإسرائيلية وتآكل الهيبة المتوهمة التي كانت تحيط بجيش الكيان بعد إرغامه على الخروج من جنوب لبنان عام 2000م. وهو يجر أذيال الهزيمة والعجز عن البقاء في أرض احتلها فكادت أن تبتلع جنوده، وقد سبق ذلك عدة محطات من المواجهات المؤقتة التي أثبتت المقاومة الفلسطينية واللبنانية فيها قدراتها على احتواء الموجات الجديدة من العدوانية الصهيونية التي فقدت قدرتها الردعية المسبقة.

• جسر الهوة الكبيرة بين توسع الهيمنة الأمريكية وتآكل القدرة الإسرائيلية أصبح حاجة أمريكية ملحة نظراً لأهمية منطقة الشرق الأوسط والدور الذي يمكن أن تلعبه في تمكين واشنطن من إحكام قبضتها على القرار الدولي بأسرع وقت ممكن، والكيان الإسرائيلي هو صاحب الدور الوظيفي لتأدية هذه المهمة، وهذا يفسر جنوح العديد من المفكرين والمحللين للاعتقاد بأن حرب تموز وآب 2006 كانت حرباً أمريكية كُلّفَ الكيان الصهيوني بخوضها للوصول إلى “الشرق الأوسط الجديد” الذي بشرت به كونداليزا رايس على سيل دماء الأطفال والمدنيين الأبرياء في لبنان وغيره، لكن رياح المقاومة وأعاصيرها هبت على عكس ما يشتهي القبطان الأمريكي والبحارة الإسرائيليون المنفذون، فكان لزاماً على المايسترو الأمريكي تصحيح المسار بعد إدخال التعديلات المطلوبة.

• الانتصار الاستراتيجي الذي حققه حزب الله في حرب 2006 تمت رسملته في صندوق إنجازات محور المقاومة، فكان المطلوب إيجاد بديل عبر اعتماد خطاب آخر وتهيئة الأجواء لإعطاء زخم جديد لقطار التطبيع الذي ركبته سابقاً مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، لكن محركه لم يستطع معاودة الإقلاع للانطلاق باتجاهات عدة، فكان المطلوب إعطاء حقنة أشد مفعولاً، وجاءت أعاصير الربيع العربي المزعوم التي ضربت دول المنطقة، ويمكن لكل من يريد أن يحتكم إلى العقل أن يتساءل: أين كانت المنطقة والعلاقات التي تحكم توازن القوى إقليمياً ودولياً لو أن قطار التدمير المعنون بالربيع العربي استطاع أن يجتاح القلعة السورية؟.

• تعثر المشروع الصهيو ــــ أمريكي وعجز الأصيل والوكلاء عن أخذ سورية، أو حملها على تغيير ثوابتها ودورها الوطني والقومي والإسلامي أعاد ترتيب أوراق الأجندة، وتقدمت ورقة التطبيع مع عدد من الأنظمة العربية سراً أو علانية، وجميع المخرجات تشير إلى التوجه العام لتهميش القضية الفلسطينية وتراجعها إلى المراتب الخلفية في سلم الاهتمامات، وقد وصل الأمر إلى نكرانها أو إسقاطها من أية حسابات في اتفاقات التطبيع التي أنجزت مؤخراً، أو تلك التي كانت في طريقها إلى التبلور والإعلان في أقرب وقت.

• في هذه الأجواء المعقدة والمتشابكة جاءت ملحمة طوفان الأقصى فكانت بحق الطوفان الذي ترك تداعياته على الجميع، وأثبت أن كل ما تم التخطيط له، والعمل لفرضه قابل أن يصبح في مهب الريح، وهذا ما أرغم إدارة بايدن للمسارعة والحضور الشخصي لأهم أقطاب الإدارة من العسكريين والسياسيين الدبلوماسيين والأمنيين والاقتصاديين، ودعوة أتباعهم من المسؤولين الأوربيين، واستحضار البوارج وحاملات الطائرات والمدمرات والأساطيل، وتعطيل مجلس الأمن وشل إرادته عن اتحاذ أي قرار يدين عدوانية تل أبيب ووحشيتها التي لم تعرف لها البشرية مثيلاً.

منح حكومة نتنياهو وجيش الاحتلال مهلة وصلت/49/ يوماً للقضاء على حماس وتسوية غزة بالأرض، لكن في كل يوم كانت تزداد القرائن الدالة على عجز جيش الكيان عن تحقيق أي من الأهداف التي أعلن عنها، وهذا يعني انتقال الفشل والإخفاق من المستويين التكتيكي والعملياتي إلى المستوى الاستراتيجي، فكان التدخل الأمريكي، وكانت الهدنة التي تم الإعلان عنها، والتي تعني التسليم بعجز جيش الكيان عن حماية نفسه ومستوطنيه، كما يعني التسليم بتآكل ما تبقى من دور وظيفي للكيان الإسرائيلي، ومن الطبيعي أن يترتب على هذا الكثير.• كل ما له علاقة بحماية مصالح ما يمكن تسميته مجازاً بـ “حكومة الظل الكونية” أصبح من الماضي، و”إسرائيل” المخيفة والبعبع الذي يرعب دول أكثر المناطق الاستراتيجية أهمية في النظريات الجيوبوليتكية ـــ أي منطقة الشرق الأوسط ـــ ظهرت على عكس ما هو مسلم به في الوعي الجمعي، فلا مستوطنوها مستعدين لترك حياة الوفرة والترف في أوطانهم الأصلية كرمى الإقامة بما أسموه “أرض الميعاد” وهم غير آمنين على حياتهم، بعكس ما كانوا يعيشونه في الدول التي خرجوا منها ويحملون جوازات سفرها، ولا جيشها الذي قيل إنه لا يقهر قادر على حماية نفسه فكيف بحماية غيره، ولا الكوكتيل غير المتجانس من نخبها الحاكمة ناجح بإثبات أنه مؤهل لاستمرارية أداء الدور الوظيفي الذي أنيط بالزعامات التقليدية منذ ما قبل الإعلان عن فرض إقامة الكيان على أرض فلسطين عام 1948، ولا المتحكمين بالاقتصاد والعسكرة وأهم مراكز صنع القرار الدولي موقنين بجدوى المراهنة على حصان خاسر.• الدول التي خرج منها المستوطنون طوعاً واستقروا في فلسطين تحت سلطة العلم الإسرائيلي غير مستعدة لقبول عودة أولئك الذين صدعوا رأس أوربا والعالم فيما عرف بالمسألة اليهودية، لأن الغالبية إن لم يكن الجميع على يقين أن التعايش مكلف مع أولئك المسكونين بميثولوجيا عقائدية متزمتة تدعي التفوق على العنصر البشري الذي خُلِقَ لخدمتها، وفق قناعاتها المَرَضية، ولذلك تم العمل في الماضي على تجميع أكبر عدد ممكن من أولئك، وتأمين ذهابهم إلى أرض فلسطين وفرض إقامة دولة مدعومة لهم، لأن ذلك يريح بقية دول العالم من تبعات الفتن وإثارة الخلافات والصراعات التي لا تنتهي في جميع الدول التي قد يعود إليها مستوطنو الكيان إذا استمر الواقع القائم في منطقة الشرق الأوسط.• لا مصلحة استراتيجية لأي من القوى الفاعلة والمؤثرة إقليمياً ودولياً بتغيير الستاتيكو القائم منذ اتفاقية سايكس بيكو، وإذا كان هناك من تعديل مطلوب فهو بالضرورة نحو الأسوأ، كما أن بقاء الوضع على ما هو عليه يحمل أخطار إمكانية انفجار القنبلة الموقوتة، وامتداد ألسنة اللهب لتشمل كامل المنطقة، وقد تمتد إلى خارجها، ولا أحد يستطيع تحمل تكلفة ذلك وتداعياته، وهذا يضع الجميع أمام مسؤولية كبرى تتطلب الإجابة على سؤال عريض يقول: وماذا بعد؟• كل ما ذكر يؤكد سقوط الدور الوظيفي وإخفاق تل أبيب في استعادته، وهذا يحتم على إدارة بايدن التفتيش لإيجاد مخارج ممكنة التحقق، وبخاصة أن بايدن هذا هو الذي قال منذ عام 1986م: (لو لم تكن هناك “إسرائيل” لكان علينا العمل لخلق “إسرائيل”، وهو كان يعي ويعني ما يقول، وهذه القناعة ليست عند بايدن فقط، بل هي حاضرة وبقوة في وجدان غالبية زعامات الغرب الأطلسي، ولدى نسبة كبيرة من النخب الحاكمة في بقية دول العالم، فـ “إسرائيل” ليست مجرد كيان أقيم لتخفيف التوترات والمشاكل التي كان يسببها من تم غض البصر لضمان مغادرة أوطانهم والتوجه للإقامة في فلسطين وما أسموه أرض الميعاد، بل تم إنشاؤه على أرض فلسطين لأنها قلب هذه المنطقة الجيو استراتيجية ، والتي تشكل جزءاً من قلب العالم ” الهارتلند” كما هو معروف ومحدد في النظريات الجيوبوليتكية.خلاصة:”إسرائيل” القديمة فشلت في أداء الوظيفي المكلفة بتنفيذه، ومشكلة الإدارة الأمريكية تكمن في عدم وجود بديل يمكن تكليفه بهذا الدور، فجميع دول المنطقة الدائرة في الفلك الأمريكي غير مؤهلة للقيام بدور الكيان المأزوم، بما في ذلك تركيا، وأقصى ما تستطيع واشنطن فعله محصور بإدخال بعض التعديلات الخاصة بهوية الكيان ليستعيد قدرة أجهزته على التنفس الطبيعي، لأن طول المدة المطلوبة على “المنفسة” أجهزة التنفس الاصطناعي قد يحافظ على الحياة، لكن مع افتقاد القدرة على الحركة والفعل، وهذا هو الواقع الذي يحكم أداء حكومة نتنياهو، فــــ “إسرائيل ـــ الدولة” تقوم على رافعتين:

الجيش الإسرائيلي، والدعم والتغطية الخارجية، وعملية طوفان الأقصى أثبتت أن الرافعة الأولى أي الجيش قد كسرت، والاستمرار برافعة واحدة أي التغطية والمساعدة الخارجية يعني الاستمرار بوضع المريض على المنفسة، وبالتالي افتقاد ما تبقى من أوراق حياة طبيعية، ولهذا قلت في البداية “إسرائيل القديمة 48” لم تعد موجودة، وما تفعله الإدارة الأمريكية مع بقية مفاصل حكومة الظل العالمية هو تفصيل هوية جديدة بمواصفات عالمية لــ “إسرائيل”، وليس بالضرورة أن تكلل تلك الجهود بالنجاح، فالظروف تغيرت، و”طوفان المقاومة” القادم أكثر قدة، وأعلى ارتفاعاً وأوسع مدى، ولن يكون بالإمكان تمرير مصطلحات جديدة يتم العمل على تفصيلها وتسويقها، فعاصمة الدولة الفلسطينية القادمة هي القدس، وفي أسوأ الحالات القدس الشرقية، ولن تكون “شرق القدس” كما يتمنى أحباء صهيون الذين شمروا عن سواعدهم وتقاطروا للاطمئنان على صحة من وضع على جهاز الإنعاش تمهيداً للانتقال به من التنفس الاصطناعي إلى التنفس الطبيعي، وهيهات لهم أن يروا ذلك.

د. حسن أحمد حسن

لواء متقاعد – باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى