العالم أمام تحدّي محاسبة أميركا على استخدامها قنابل عنقودية ويورانيوم منضبد
. منذر سليمان وجعفر الجعفري
يأتي مخزون الولايات المتحدة من اليورانيوم المنضب في المرتبة الأولى عالمياً، إذ بلغ 480 ألف طن لعام 2002 (بحسب بيانات وزارة الطاقة الأميركية)، وقد استخدمته كسلاح في حرب الخليج الأولى، “عاصفة الصحراء” عام 1991، وأطلقت ما لا يقل عن 300 طن متري، أي ما يعادل 10 آلاف صلية، في أنحاء العراق كافة، (صحيفة “ذي غارديان” اللندنية نقلاً عن تقرير منظمة “السلام العالمي” في هولندا، 19 حزيران/يونيو 2014). ورصد “برنامج الأمم المتحدة للبيئة” نشر الولايات المتحدة وحلفائها نحو “170 إلى 1700 طن” من اليورانيوم المشعّ خلال غزوها للعراق. أما حصة سوريا فقدّرتها البنتاغون بـ “آلاف الطلقات من ذخيرة اليورانيوم المشعّ” أطلقت خلال الغارات الجوية عليها عام 2015. مدينة الفلوجة العراقية كانت هدفاً مستمراً للقوات الأميركية، ليس بالذخائر المشعة فحسب، بل في تخزينها وتفجيرها في تربتها، بمكوّناتها النووية والكيميائية والنفايات الطبية والبشرية كافة ، بدءاً من “عام 2003 ولغاية 2011”. وشهدت القاعدة الجوية في بلد العراقية “حرق نحو 90 ألف عبوة بلاستيكية يوميا”، وما ينتج عنه من سحابات دخان كيميائية ضارّة (أسبوعية “نيوزويك”، 4 نيسان/إبريل 2016). التدقيق في أحدث البيانات الأميركية الخاصة بمخزونها من “فائض اليورانيوم المنضب” لا يأتي بجديد، بل يلاحظ المرء تلاعب الأجهزة الرسمية، من وزارة الطاقة وهيئاتها المختلفة، في عدم الكشف عن حجم المخزون المتزايد واستخداماته، بحسب تقرير لجامعة هارفارد العريقة (“اليورانيوم المنضب، دمر القطاع الصحي: العمليات العسكرية وتلوّث البيئة في الشرق الأوسط”، 22 أيلول/سبتمبر 2021).يندر أن نجد من يجادل للدفاع عن نهج الولايات المتحدة وحلفائها بإخفاء الحقائق العلمية الموثقة لاستعمال هذه الأسلحة، والأثار السلبية على السلامة العامة للإنسان والحيوان والتربة والمياه الجوفية لمديات طويلة. بل تسخّر واشنطن نفوذها الهائل لدى المؤسسات الدولية ذات الصلة لعدم حظر أو تقييد استخدام تلك الأسلحة، وما يترتب عليها من مساءلة أممية وخطوات عقابية.يشار إلى أن الاتفاقية الدولية الخاصة بحظر استعمال اسلحة تقليدية معينة، لعام 1980، نصّت على ان “يحظر استخدام أساليب أو وسائل حربية يقصد بها او يتوقع منها ان تسبب للبيئة الطبيعية إضراراً واسعة النطاق وطويلة الأمد وشديدة الأثر “.الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التابعة للأمم المتحدة، أشارت عام 2009 إلى أن الدراسات التي أجريت في يوغوسلافيا السابقة والكويت والعراق ولبنان وسوريا وليبيا بشأن بقايا اليورانيوم المنضب أنه “لا يشكل خطراً إشعاعياً لسكان المناطق المتضررة أو البيئة”، وذلك على نقيض الحقائق العلمية المتوفّرة والتي تؤكد أن استنشاق غبار اليورانيوم المنضّب يشكل أخطاراً صحية، بما في ذلك السرطان والعيوب الخلقية للأجنّة البشرية.وصرّحت الناطق باسم البنتاغون سابرينا سينغ بأن “مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها – Centers for Disease Control” ذكرت بأنه لا يوجد دليل على أن ذخائر اليورانيوم المنضّب تسبّب السرطان، كما أن منظمة الصحة العالمية أفادت بأنه لم تسجّل زيادة في حالات السرطان بعد التعرض لليورانيوم المنضّب.بينما حذّر تقرير سابق صادر عن البنتاغون عام 1993 من ارتفاع نسبة إصابة الجنود بالسرطان بنسبة عالية حين تعرّضهم لغبار اليورانيوم المنضّب، بالرغم من نسبة سميّته المتدنية نحو 40% . كما بيّنت دراسة أجرتها “إدارة شؤون المحاربين”، بعد حرب الخليج الثانية، أن 67% من أطفال الجنود الذين ولدوا بعد الحرب يعانون من تشوّهات خلقية. مناسبة هذه المقدمة الكاشفة للمخاطر هي إعلان الحكومة الأميركية عن تزويد أوكرانيا بشحنات جديدة من قذائف اليورانيوم المنضب، من عيار 120 ملم مخصصة لدبابات “أبرامز M1A2” الأميركية، لاستخدامها ضد الدروع الروسية، لتنضم إلى شحنات أخرى من القذائف العنقودية سلمتها لكييف أيضاً.إجرائياً، يستند الرئيس بايدن في مواصلته تمويل حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا إلى تفويض السحب الرئاسي، الذي يسمح للرئيس بنقل المعدات والأفراد من دون موافقة الكونغرس خلال حالة الطوارئ. علمياً، فاليورانيوم المنضّب هو عبارة عن نفايات نووية مشعّة عالي الكثافة، وصفته “الوكالة الدولية للطاقة النووية” بأنه يُستخدم في صنع الأسلحة لأنه عالي الكثافة ويشتعل ذاتياً نتيجة طاقة حركية عالية، ترافقه سحابة حارقة من المعادن والغبار، ويصبح أكثر حدة عندما يخترق الصفائح المدرعة.عند استخدام سلاح اليورانيوم المنضّب، ينتج عنه غبار “أكسيد اليورانيوم المشع”، الذي يبقى عالقاً في الجو، وينتقل مع الرياح إلى مسافات بعيدة، ويبقى نشطاً نحو 4.5 مليارات سنة، بحسب بيانات “هيئة ضبط الطاقة النووية – Nuclear Regulation Commission” الأميركية. توقيت الإعلان الأميركي أعلاه يعود إلى مطلع العام الحالي، يناير /كانون الثاني، عندما وافق البيت الأبيض على تزويد أوكرانيا بنحو 31 دبابة من طراز “أبرامز” الأميركية، التي ستطلق الذخائر المشعّة لتعزيز قدرات أوكرانيا على مواصلة هجومها المضاد ومواجهة الدبابات الروسية.يشار إلى أن “البنتاغون” حثت الساسة الأميركيين على تذخير دبابات “أبرامز” بقذائف اليورانيوم المنضّب، والتي يستخدمها الجيش الأميركي بانتظام وتطلق بسرعة عالية “بما يمكنها من اختراق الدرع الأمامي للدبابة الروسية من مسافة بعيدة”.التوقيت يندرج أيضاً في صميم الأهداف السياسية الأميركية لتمكين أوكرانيامن إحراز تقدّم ملحوظ في ساحة المعركة، وتعزيز وضع كييف التفاوضي إن عقدت محادثات السلام.ما ينتظر أوكرانيا ومحيطها الجغرافي، بعد أن تضع الحرب أوزارها، هو حجم الأضرار الهائلة لتربتها ومياهها الجوفية نتيجة الذخائر المشعّة، فضلاً عن عدد لا يحصى من عبوات وقذائف عنقودية لم تنفجر والتي لا زالت تحصد أرواح أطفال يمارسون نشاطاتهم اليومية في فيتنام وأفغانستان والعراق وليبيا ولبنان وسوريا.برامج الأمم المتحدة لتخصيص الميزانيات والخبرات المطلوبة لنزع التلوث من البيئة تبقى أسيرة موازين القوى الدولية الراهنة، ويتعثر أداؤها في الأماكن والبلدان التي لا تخضع للهيمنة الأميركية بالكامل، مثل جنوب لبنان، على سبيل المثال.والمطلوب أممياً هو إعادة صياغة نظم وإجراءات علمية لمعالجة التلوّث البيئي من مخلّفات الحروب، الأمر الذي لا يبشر خيراً في المدى المنظور نظراً لتفاقم الصراع وحدّة الاستقطاب الدولي.