36 عاماً على الانتفاضة الفلسطينية الاولى: “هذا ليس تمرد انما حرب” زفّ انتفاضة الحجارة الى العالم وهز القادة الإسرائيليين!
36 عاماً على الانتفاضة الفلسطينية الاولى ،،، وتقرير مكرم خُوري – مَخّوُل ( الصحافي آنذاك) عنوانه: “هذا ليس تمرد انما حرب” زفّ الإنتفاضة إلى العالم وهز أركان قادة الاحتلال الإسرائيلي
“بمناسبة مرور 36 عاما على انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الاولى ننشر فيما يلي الترجمة العربية الكاملة للمستند التاريخي الذي هو عبارة عن تقرير صحافي تحت عنوان “هذا ليس تمرد.. إنما حرب” وقد زفّ الى العالم آنذاك ميلاد الانتفاضة الفلسطينية الاولى في كانون الاول (ديسمبر) ١٩٨٧ وكان كاتب هذا التقرير – الدكتور مكرم خوري – مخول، شاهداً متفاعلا على الحدث في قطاع غزة.”
مقدمة تنويرية لتوفير السياق:
كنت حينها في مدينتي ومسقط رأسي يـافا، صحفياً شاباً اعمل في ملحق صحيفة “هارتس” العبرية في تل – ابيب. وكانت الصحيفة قد طلبت مني السفر في مهمة من مدينة يافا صباح يوم الخامس عشر من ديسمبر ١٩٨٧ الى قطاع غزة لتغطيه ما اتضح انه يوم مشهود تخللته احداث دامية لأكتشف انني كنت الصحافي الوحيد في قطاع غزة بعد ان اعلنت سلطات جيش الاحتلال الاسرائيلي قطاع غزة منطقة عسكرية مغلقة. وقد أصبت في وجهي بعيار معدني (مغطى بالمطاط) اثناء التغطية التي استمرت زهاء عشرين ساعة. وبعد اصابتي اجريت لي عملية في مستشفى الشفاء في ظروف قاسية وتحت ازيز الرصاص والتوغل العسكري الى جوار المستشفى. ورغم ذلك فقد رفضت البقاء في المستشفى او نيل قسط من الراحة واكملت تحركاتي بمساعدة من القادة الميدانيين ومجموعة من المثقفين امثال المرحوم الدكتور حيدر عبد الشافي الصوراني والمرحوم الدكتور رباح مهنا والمحامي راجي الصوراني ( له مديد العُمر) وآخرين الى ان شاهدت عمليات قتل نفذها جنود الاحتلال وجمعت شهادات صاخبة كثيرة حتى استطعت رغم فرض حظر التجول العودة الى يافا ومن ثم الى المستشفى الذي غادرته لاحقا لتصميمي على كتابة التقرير رغم اصابتي.ويشار الى انه في تلك الحقبة من الزمن، اي قبل تطور تكنولوجيا الاتصالات، في عصر كان يخلو حتى من اجهزة التكنولوجيا لا سيما الهواتف الخليوية، كان من الصعب نقل الخبر عن حدث تاريخي كانطلاقة انتفاضة بسرعة حيث كان جهاز الفاكسيميلي اكبر انجاز في تكنولوجيا الاتصالات (من مرسل واحد الى شخص متلق واحد وليس كالانترنت الذي يسمح لشخص/مرسل واحد الارسال الى عدد كبير من المتلقين). وبسبب التواصل عبر الفاكسيميلي ما بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، فقد منعت سلطات الاحتلال استعمال جهاز الفاكسيميلي خلال الانتفاضة الاولى. كما لم تكن في ذلك الحين قنوات فضائية، ولا سيما العربية منها، ولا شبكة الانترنت او وسائل التواصل الاجتماعي، الامر الذي جعل امكانية توزيع ما اصبح سبقا صحافيا عالميا عن حركة مقاومة شعبية فلسطينية دخلت التاريخ المعاصر كابرز المواجهات بين شعب ومحتل مسألة بطيئة بمفاهيم يومنا هذا.اما العامل الآخر الذي منع توزيع التقرير الصحافي بسرعة ( مقارنة باليوم) فيكمن في الرقابة الذاتية للصحافيين الاسرائيليين الذين تخدم الغالبية منهم في احتياطي الجيش. ويشار الى ان تسريب التقرير حول هذا الحدث غير العادي حصل عبر ترجمة مقتطفات منه واقتباسه من قبل بعض الصحافيين الاجانب وبعض الصحافيين الاسرائيليين الذين يعملون لصالح وسائل اعلام اجنبية مثل الكاتب اليساري ومراسل صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية شالوم كوهين. خلال بضعة ايام تمت ترجمة التقرير الى الالمانية والاسبانية والى لغات اخرى. كما ترجم التقرير الى اللغة الانجليزية من قبل العديد من الصحافيين والاكاديميين وفي مقدمتهم المرحوم البروفيسور اسرائيل شاحاك. وقد وصف الراحل المرحوم البروفيسور ادوارد سعيد تقريري في عدد من كتاباته بـ “التقرير البارع في وضوحه وجرأته”. أما كبير مراسلي شبكة “سي بي اس” بوب سايمون فاطلق على خوري-مخول لقب “متنبئ الانتفاضة” لانه اصر علىانها موجودة ووصفها بانها حرب.صعق هذا التقرير المؤسسة الاسرائيلية بكل مركباتها، بما فيها الاجهزة السياسية بقيادة رئيس الحكومة آنذاك اسحق شامير، كذلك الجهاز العسكري بقيادة وزير الدفاع اسحق رابين، اذ تحول التقرير الذي نشر بالعبرية في صحيفة اسرائيلية ولكن من قبل صحافي فلسطيني من يافا يتقن العبرية (اضافة الى ما تضمنه التقرير من معلومات واكتشافات) الى حديث الساعة ولمدة شهور. وقد شنت المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة حملة اعلامية ضد مكرم خوري-مخول لانه “ذبح” سمعة “البقرة المقدسة” الوهمية – اي جيش الاحتلال – في المجتمع الاسرائيلي والعالم. ذلك ان التقرير ازال القناع عن ما يسمى “الجيش الاخلاقي” واسقط القناع عن الاحتلال الاسرائيلي بشكل عام ما جعل الكاتب الصحافي غيل رونين يقول ان مكرم خوري-مخول سبب ضررا جسيما لسمعة اسرائيل في العالم. وبالايعاز من جهاز الامن والتنسيق مع الجيش، شن كبير المحللين العسكريين في اسرائيل آنذاك المخضرم زئيف شيف حملة اطلق فيها على مكرم خوري-مخول تعريف “المراسل العسكري الفلسطيني” للنيل من مصداقيته وسمعته، لكي يُْهَمَ ان مكرم خوري-مخول “تعدى” على مجال صحافي (عسكري) متاح للصحافيين الاسرائيليين ومقتصر عليهم فقط. كما تم وصف تقرير مكرم خوري-مخول من قبل الكاتب الصحافي يعقوب هعليون في صحيفة “معاريف” بـ “النص الكتابي الذي يتجاوز تلك الاساليب التي رافقت افران المحرقة اثناء النازية”. وكان قد قام من اصبح لاحقاً رئيسا لحكومة اسرائيل وقائد حرب ٢٠٠٨ على قطاع غزة (المحامي وعضو البرلمان عن”ليكود”) ايهود اولمرت بتقديم شكوى ضد خوري-مخول بتهمة “التحريض على التمرد” فخضع مكرم خوري-مخول الى تحقيقات عسكرية وشرطية بهدف ارهابه والحصول على معلومات امنية عن تحركات قيادة الانتفاضة في قطاع غزة.✍️🇵🇸🩸وفي ما يلي نص التقرير: “هذا ليس تمرد..انما حرب”:بقلم: مكرم خُوري – مَخّوُل”فيلم طويل لا نهاية له. بدايته كانت انتظارا طويلا في محطة سيارات الأجرة الغزية في يافا. مرت ساعة ولم تصل حتى ولو سيارة واحدة. تردد سائق غزي بقي عالقاً في يافا مع سيارته في الموافقة. واصل التردد حتى وهو في الطريق وقال “أنا لا اعرف إن كان يتوجب علي العودة إلى غزه اليوم. كلنا نعرف تلك القاعدة، أنه إذا قالت إذاعة “صوت إسرائيل” باللغة العربية أن الوضع هادئ، فهذه علامة على أن العكس هو الصحيح”. بعد التاسعة والنصف بقليل نزلت في بيت حانون. كان ما زال أمامي أكثر من ساعة للقاء القائد في وسط مدينة غزة.كانت الشوارع خالية من الناس. بعد بضع دقائق رأيت ثلاثة سيارات “جيب” تابعة للجيش بجانب الطريق، وعلى مقربة منها وقف أكثر من عشرة جنود بدأوا بإطلاق النار صوب أحد الشوارع الفرعية. واصلت المشي نحو الجنوب باتجاه غزة، دُرتُ من حول الجنود فوجدت نفسي في منطقة مهجورة. من الأمام كان مئات المتظاهرين يتقدمون نحوي وهم يقذفون الزجاجات الحارقة والحجارة والعصي. ومن ورائي كان الجنود الإسرائيليون في الوقت ذاته يطلقون النار صوب المتظاهرين.رأيت الجنود يطلقون النار، والسلاح قريباً من بطونهم ومصوب مباشرة إلى الأمام. تطاير الرصاص من حولي، وسمعت أزيزه. قبل أن أفكر في كيفية الخروج من هناك، وجدت نفسي مغطى بالدماء. لم أشعر بضربة أو وجع، وشعرت فقط كما لو أن أحدا سكب زجاجة دم على رأسي. أخرجت كوفيَه حمراء- بيضاء من حقيبتي، وضمدت بها رأسي. في هذه الأثناء سرت على حافة الطريق وابتعدت عن محور المواجهة. مرت سيارة أجرة من هناك فحملتني إلى مستشفى الشفاء في غزة. وكنت طوال الرحلة أسمع صوت إطلاق النار.في مدخل المستشفى وقف قرابة ثلاثين طبيباً بلباسهم الأبيض بانتظار المصابين. فكنت الحالة الأولى. أدخلوني إلى غرفة العمليات وبدأ عشرة أطباء، بينهم جراحون، بمعالجتي معاً. أحدهم قاس ضغط الدم والثاني قاس الحرارة، والثالث فحص بطني، وآخر وصلني بجهاز تصوير للرأس. أصبت في الوجه بجانب الأنف. وفيما كانوا يخيطون جروحي مع تخدير موضعي، أحضِر إلى المستشفى فتى عمره سبعة عشرة سنة أصيب في المواجهة ذاتها مع الجنود في بيت حانون. من فوق سرير العمليات الجراحية لمحت في المرآة فوهة بندقية تتحرك بعصبية خلف حافة النافذة. أما الجريح الثاني فتوفي على طاولة العمليات إلى جانبي.خرجت من غرفة العمليات مباشرة إلى ساحة المستشفى. وفي الجانب الآخر وقف سبعة جنود وقد احتجزوا مجموعة من الشبان قد جاءوا للاطمئنان على صديق لهم مصاب. رغم كل ما حصل قررت أن أحاول الوصول إلى مكان اللقاء. هناك وجدت بانتظاري شخصاً آخر نقلني إلى القائد.كان شرطه أن لا أعرف اسمه. حتى ولا أي معلومات قد تكشف عن هويته، أو أين يسكن، وماذا تعلّم وأين.
بعد ذلك رأيته يمارس مهامه. كان يعطي الأوامر، ويتسلم التقارير ويحرك آلاف الناس ضد الجيش. شاهدت جنود الجيش الإسرائيلي مرتين وهم يتقهقرون.كان يتكلم بلغة عربية فصحى راقية. ويتكلم العبرية بشكل جيد. يتكلم بصراحة كلاماً قاطعاً، مزوداً بالأرقام والمعطيات. تلقى التقارير من رجاله حول الأحداث في القطاع بانتظام كل نصف ساعة. رأيت حوله خمسة أشخاص يمررون له أخباراً سريعة. خلال النهار كنت معه في نقاط مختلفة في غزة وفي مخيمي اللاجئين جباليا والشاطئ. كان يقف منتصباً باستمرار. وبثبات ولا يتحرك تقريباً. أينما ذهب كان الجميع ينجذبون إليه كالمغناطيس. تكلمت معه عندما كنا نمشي في الازقه والمعابر بين البيوت.سألني الغزيون الذين رأوني بجانبه ماذا كنت أفعل لديهم. إنهم معتادون على أن الصحافيين، الأجانب والإسرائيليين، يجلسون في مقر قيادة الجيش أو يتجولون ومن حولهم 20 سيارة جيب عسكرية، ثم يلتقطون قليلاً من الصور ويرحلون. قال القائد حول هذا الموضوع: “أمرنا رجالنا جميعاً ألا يصدقوا اللافتات المكتوب عليها صحافه أجنبية، لأن المستوطنين، وجنود الاحتلال، يقفون خلفها، لكي يستغلوا الفرصة من أجل دخول القطاع”. لكن مع هذا قال ان “الصحافيين اليهود التقدميين هم الأكثر ذكاءً وطيبةً في إسرائيل”.أسقطت الضمادة التي كانت على وجهي بعض حواجز الشك. وبدا لي أنه يتكلم معي بحرية وبصراحة كبيرة. إذ قدم القـائد مساهمة في الجدل الدائر في إسرائيل بقوله: “هـذه في الحقيقة ليست مظـاهرات، وهذا ليس تمرداً”، وأضاف: “هذه حرب مستمرة أربعـة وعشرون سـاعة يوميـاً نحن نعمل بدوريـات. كانت الأوامر أن يدخل الشبـان بصدورهم لمـواجهة إطلاق النـار، وهم لا يترددون في القيام بذلك. إنهم يغلقون الطريق المركزيـة للجيش. هذه هي المرة الأولى في التـاريخ التي يحدث فيهـا هذا الأمر. أنـي أتجول في كل القطاع وأعطي التعليمـات في المخيمـات. ليس فقط للتلاميذ، إنها تشمل الجميع، من جيل صفر إلى مئة. هذه امرأة بعمر الخـامسة والخمسـين شاركت في الأحداث وتلقت الضرب بالعصي من الجنود. إنهن لا يخفن. تسعون بالمائة من النـاس في غزه ينتمون إلى تيارات سياسية، وليسوا بحاجة لتعليمـات من أحد. بالإضافة إلى ذلك، من يعيش تحت احتلال وقمع ليس بحاجة إلى أحد ليحمسه”.كيف تنظـم المظـاهرات اليوم؟”في السابق لكي نبدأ بمظاهرة كنـا نرسل أولاداً ليتسببوا بالاشتعـال. الآن الكل يخرج للشوارع، في الثـالثـة فجراً. إنهم ليسوا عشرة، أو عشرين شخصـاً، بل المئـات. لا يوجد لدينا جدول أعمال، لدينـا عـادة، أن نخرج على دفعات، في الثـالثة فجراً، في الصباح نفسه، في الظهر، وفي المسـاء. في المساء وحتى الثـالثة فجرا ننام ونعيد تنظيم صفوفنا. عندما يتطلب الوضع، نخرج أحيانا في العاشرة ليلاً، لأنه في الليل ليس للجيش سلطة على الشارع وهم لا يعرفون تضاريس المنطقـة، وعندها نحن الذين نسيطر. مثلاً، في الأمس في مخيم جباليا للاجئين، كانت المظاهرات ليلا ولم يكن هناك أي جندي، رغم حظر التجول الذي كان مفروضـاً. ببساطة هرب الجنود، لان آلاف النـاس خرجت بشكل جدار بشري متحرك، ومقابل شيء كهذا لا شيء يجدي نفعـاً، لا القبضـة الحديديـة ولا إطلاق النـار”.ألا تخـافون؟”ممنوع، الخوف من أي شيء ببساطة ممنوع. سلطات الاحتلال تظن أنه إن مـات أحد وأخذوا جثمـانه وسمحوا بدفنه فقط في ساعات الليل، فلن تكون هناك أحداث شغب. ولكن عقيدتنا قد تخطت هذا الحاجز. الطريقة الجديدة هي أننا نخطف الجثة من المستشفى وندفنهـا ثم نخرج في مظاهرة عفويـة. لقد منعنـا الأطبـاء أيضـاً من تسليم الجثة لسلطات الجيش، عدا عن ذلك ليس للأطباء سيطرة على هذا الأمر، لأنه لا توجد لدينا مشكلة لخطف الجثث. فمثلا في الأيـام الأخيرة خطفنا أربع جثث وأجرينـا مراسم الدفن في الليل، فتحوّلت إلى مظاهرات. عندها خرجت كل المنطقة إلى الشوارع، مثل خـان يونس أمس. لم يبق أحدً في بيته. خمسة وثلاثون ألفا شاركوا في مراسم الدفن هذه. وأثناءها أصبنـا سبعة جنود. أول من أمس قمت بعدة تنقلات، من خان يونس إلى رفح ومن رفح إلى البريج. كان هناك عشرات الآلاف من النـاس، ولم يتمكن الجيش مع كل قواته من اقتحام المكان حتى الثالثة فجراً. خمسون متراً كانت المسافة بين حراس الحدود من الغزيين وبين الجيش، ولم يجرؤ الجيش على الدخول”.
في أحد الشوارع الفرعيـة اقترب منه أحد الأشخاص وأخبره بوفاة شاب في السابعة عشرة من عمره في بيت حانون. كان هذا الشاب الذي توفي على طاولة العمليات بجانبي، قبل حوالي ساعة. طوال الوقت وصلت إليه التقارير، بالتفصيل، عن كل شاب تلقى ضربة، بعصا أو بأي آلة أُخرى، في أي عضو من جسمه، والمكان الذي وقع فيه ذلك. أخبرني أن توزيع المنـاشير لأي منظمة كانت ممنوع، وقال أنه لو أراد لاستطاع توزيع أي منشور، في أي يوم كان، من دون مشاكل: “نحن نعرف الآن كيف نميز استخبـاراتهم المدنية. نحن نشعر بوجودهم، خاصة في الصبـاح. جعلنـا الحكم العسكري غير قادر على معرفة هوية المحرضين. السلطة لن ترى المحرضين بعد. تصدر هنـاك توجيهات فيخرج الجميع، بصورة عفوية وكلية. لا يوجد محرضون أفراد”.عندمـا سألته عن مكانة القائد في تحريك الجماهير، حاول أن يظهر متواضعاً: “كلا، إنه ليس قائداً بالضبط. إنه مجرد من يعطي التعليمات”.
لكن الساعات التي قضيتها برفقته تكشف أن تعليماته تنفذ بطاعة شبه دينية. الأمور بنظره كالتالي: “من أصل 650 ألف مواطن في القطاع، احتجزت سلطات الاحتلال 47 ألفاً حتى الآن. كل واحد منهم هو قائد بحد ذاته في المكان الذي يحيا فيه. السجون تخلق القادة. نحن نجعل الناس مسيسين وهم يفرحون بذلك لأنهم محتاجون إليه. حتى لا يظن أحمق ما أن هناك قوى خارجية تدير ما يحدث في الداخل. الناس في الداخل منتسبون إلى منظمات، هي نوع من الأحزاب السياسية للدولة التي في الطريق. حتى أولئك غير المنتسبين لأي جسم، فإنهم متضامنون مع النضال الجماعي”.خلال السنين تطورت لدى أهالي القطاع ضغينة خفية لأبناء شعبهم في الضفة الغربية. إنهم يشعرون بأنهم مهملون، وحتى منسيون. الصحافيون الذين يكتبون عما يحصل في المناطق المحتلة يخرجون عادة من القدس. إنهم يصلون بسهولة إلى رام الله أو بيت لحم، ولكنهم قليلاً ما يأتون إلى غزة. بطبيعة الحال، الضفة تحظى بتغطية إعلامية. حتى عندما تحدث في غزة أحداث أهم بكثير، لا توجد لها تغطية إعلامية.الالتزام بما يسمى وحدة الصف الفلسطينية تمنع أهالي غزة من التعبير عن خيبة أملهم، ولكن الكثير منهم يشعرون بأن القيادة الوطنية في الضفة تنظر إليهم نظرة فوقية، كما ينظر سكان المدن لأهالي منطقة ريفية نائية. لم يكن القائد مستعداً للحديث عن لهذه الفروقات الا بعبارات مقتضبة: “عندما يقرر الغزيون فعل شيء ما، فإنهم يفعلونه حتى النهاية. الضفة هي بمثابة جنة عدن مقارنةً بالقطاع. حتى أمر بسيط مثل جواز السفر غير متوفر لسكان القطاع. كل ما لدى الغالبية منهم هي بطاقة لاجئ فقط”.
ربما هذا هو السبب لتميز القطاع إلى درجة كبيرة بالنشاطات المستقلة. في نهاية سنوات الـ60 اعتادت الجماعات السرية العمل تحت مظلة إحدى المنظمات الفلسطينية، ولكن حتى في حالة حدوث اتصال مع القيادة في الخارج، كان من الصعب الحفاظ عليه. فالقرار حول النشاطات اتخذ في القطاع، والناس بشكل عام حصلوا على السلاح والمتفجرات بقواهم الذاتية. في السنوات الأخيرة جرت المحافظة بشدة على تقسيم واضح بين الخلايا المسلحة بالأسلحة النارية وبين النشيطين الذين يعتبرون “سياسيين”. لم تطلق النار من بين المتظاهرين على الجيش بأي حال من الأحوال، لأن مثل هذا الأمر كان سيؤدي إلى مجزرة. هذه الطاعة كان مسؤول عنها القادة المحليون.”لكل حي هناك قائد معروف خاص به، وهو بشكل عام شخصية بارزة. يمتاز بوعيه السياسي العالي، وبقوة جاذبيته، وهو ليس بحاجة للكثير من أجل الإقناع، لأن الوضع يساعده على ذلك. عليه فقط إعطاء الإشارة. كل واحد من هؤلاء القادة أصبح رمزاً. إن كانت المنطقة كبيرة، يكون هناك اثنان أو ثلاثة قادة. المعتقلون هم بشكل عام سياسيون منضمون إلى تيار أيديولوجي ما وليسوا بالضرورة منتسبين إلى تنظيم معين. القائد يجمع من حوله جمهوراً كبيراً من الناس قادراً على الخروج وفعل ما يتوجب فعله في أي وقت كان. نحن في الحقيقة نريد الجيش. نحن لا نتظاهر عندما لا يكون الجيش موجوداً. نريده لنواجهه، بأي طريقةٍ كانت”.وعن نجاعة النشاطات التنظيمية قال: “في الأمس خرجت إلى بيت حانون 500 امرأة عرفن عن الرحلة المخطط لها قبل خروجهن بخمس دقائق. فتجنيد كل فئات الشعب هو في الواقع مثل عملية عسكرية. عندما نريد أن نقوم بنشاط على مستوى القطاع، فإن تجربتنا القصيرة أثبتت لنا أنبامكاننا في غضون دقائق معدودة إغلاق شريان المواصلات الرئيسي الواصل بين القطاع والخارج. عندما يصرح الجيش بأنه يفتح المحور المركزي، فهذا كذب، لأن المحور مغلق بحواجزنا”.وكلف نفسه عناء التأكيد بشدة قائلاً: “ليس صحيحاً أن المساجد هي مراكز تحريض. نحن فقط نستعمل مكبرات الصوت في المساجد، لا أكثر. الآن الشارع كله موحد في جبهة واحدة. في هذه اللحظة لا يهم من هي المنظمات، مع العلم أن الجبهة الشعبية هي أكثر ثورية من فتح. التواجد الأساسي في الساحة هو للجبهة الشعبية وفتح، مع أن فتح أكبر عددا”.فجأة اختفى عني. لا أعرف إلى أين. حتى أنه لم يودعني. قابلته مرة أخرى بعد ساعة في مستشفى الشفاء، الذي كانت قواته محاصرة بداخله لمدة خمس ساعات.بعد الساعة الحادية عشرة بقليل وصلت إلى مقر الصليب الأحمر، الذي تحصن به منذ الصباح حوالي مائتي محامٍ. عند الساعة الثانية عشرة إلا ربعا قرروا الخروج في مسيرة صامتة باتجاه المستشفى، الذي امتلأ بالمصابين في الساعتين الأخيرتين. مسيرة غريبة في الشارع الغزي، الكثير من الرؤوس المكسوة بالشيب، وعشرات الناس بسترات وربطات عنق وأحذية ملمعة، يسيرون بصمت بين إطارات السيارات المشتعلة. في ساحة المستشفى استقبلهم القائد.
وجه أوامره لهم قائلاً: “فكوا ربطات عنقكم واندمجوا مع الجميع”.
شعر بعض المحامين الكبار في السن بالإهانة. بعد خمس دقائق فقط انشغل جميعهم برمي الحجارة على الجنود الذين أحاطوا المنطقة.يقوم بجانب المستشفى مسجد صغير. دخل القائد إليه، أوقف بعض الحراس في المدخل، استولى على مكبرات الصوت وجمع رجاله. الخبر حول وفاة الشاب من بيت حانون بدأ بالانتشار، ومئات الناس توافدوا إلى المستشفى. في غضون ساعة وصل إلى المستشفى ثلاثة عشر مصاباً بإطلاق النار. بينهم رأيت طفلة أصيبت في مؤخرتها وشاباً أصيب في ذراعه.
شاهدت ثقبين، واحد لدخول الرصاصة والثاني لخروجها.جميع مباني المستشفى كانت مليئة، بالآلاف من الناس. الكثير منهم بحثوا عن ملجأ من إطلاق النار في الشوارع، كان تقديرهم أن الجيش لن يدخل إلى المستشفى. العبور في الممرات كان صعباً. من جديد سمع إطلاق النار، وهذه المرة كان الصوت أقرب، أقرب بكثير. بدأ القائد بإخراج رجاله.
خرج الشبان أولاً، والمتقدمون في السن في الصف الثاني وفي الخلف كل النساء. أمرهن القائد بنقل الحجارة من المؤخرة إلى خط القتال. فانتظمت في الحال سلسلة بشرية، وقذفت زخات من الحجارة إلى الخارج. وراء كل دفعة كان القائد يصدر أوامره: “الجميع إلى الداخل!”.بدأ الجنود بإطلاق النار صوب شاب كان على سطح الطابق الثاني للمبنى الشرقي. فقفز إلى الساحة ليتفادى الرصاص. دخل بعض الجنود إلى المستشفى. حاول الشاب الهرب، فرأى جندياً أمامه. توقف عن الجري، ووقف مقابل الجندي وجهاً لوجه، فتح قميصه، وقال له: أطلق النار. صوب الجندي إليه بندقيته وأطلق النار من مسافة 15 متراً تقريباً.حدث هذا أمامي، على مسافة أقل من 20 متراً مني. صورة وجه الجندي طبعت في ذهني. من حولي سمعت صراخاً: مصاب، مصاب. استمر إطلاق النار. فصرخ القائد: فلتخرج جميع النساء إلى الخارج، إلى المصاب. خرجن، أحضرن الجثة فوضعها الأطباء على حمالة. وأدخلت إلى غرفة العمليات. أخبرني الطبيب أن الرصاصة قد قطعت شريان دم رئيسي. حالا بعد أن أعلنت وفاة الشاب، دخل شبان ملثمون وخطفوا الجثمان. تراجع الجنود حوالي 300 متر، إلى شارع عمر المختار.عشرة شبان ساروا بمسيره صغيرة مع جثة الشاب، واختفوا عن الأنظار في غضون دقائق.مع كل مصاب آخر أو جثة أخرى وصل مئات الناس. وبدأ هؤلاء في المستشفى بتحضير زجاجات حارقه (مولوتوف).
رأيت ولداً صغيراً يحمل زجاجة عن الأرض، ويخرج من جيبه قنينة بلاستيكيه صغيره فيها وقود وخرقة، فيحكم إغلاقها، ويشعلها بعود ثقاب ويرميها. اشتعلت النيران في الإطارات التي دُحرجت في الساحة.
أخبرني القائد انه بالإضافة إلى الحجر والزجاجة الحارقة، عادوا الآن لاستخدام الطريقة القديمه: الحجر والمقلاع، كما فعل داود.الجنود الذين وصلوا في إحدى الهجمات إلى مكان قريب جداً من المستشفى، علقوا بين الإطارات المشتعلة، وبدأ مئات المتظاهرين بتطويقهم. حاول الجنود الهرب، ولكن المتظاهرين نجحوا بالإمساك بأحدهم. وهرب زملاؤه جميعهم.انتزعت ثياب الرهينة عنه. سترته، حقيبته وكل أغراضه أخذت منه. لم يلمس أحد جسده، ثم أطلق سراحه وعلى جسده سروال ممزق فقط. لو أرادوا لاستطاعوا قتله. فتحوا حقيبته، نبشوا أغراضه، تساءلوا أين القنابل. بعضهم بدأ بالرقص ممسكين باغة البندقية بيد وبالأخرى يرفعون علامة النصر. رموا سترة الجندي وقميصه على الأرض وتجمع حولها الجميع وداسوا فوقها.سألتهم، لما هذه الفرحة؟ فأجابوا: هذ هو أكبر إذلال للاحتلال.بعد هذا النصر تفرغ لي القائد لبضع دقائق. “في السابق كان من الصعب البدء بالإضراب” قال، “اليوم بسهولة نضرب. الجيش يفتح الحوانيت، وهم يغلقونها. رشاد الشوا، الذي ليس له تأثير اليوم، قال ان ما يحدث في القطاع هو تعبير عن يأس الناس. ولكن اليائس لا يقاوم، بل يستسلم. في الحقيقة لا يوجد لدينا سلاح حي، ولكن مع ذلك، إن استمر الوضع لن ندحر الجنود إلى حاجز إيريز فقط، بل إلى تل-أبيب”.إصابتي بدأت تضايقني. لحقني بعض الأطباء وعرضوا علي ضغط الجرح بأكياس الثلج. أحدهم عرض علي حبوب مضادات حيوية. بالمناسبة، بعد منتصف الليل، بعد أن خلفت الجحيم خلفي، أجبروني في مستشفى إيخيلوف في تل-أبيب على الانتظار أربع ساعات حتى تلقيت العلاج.إلى مدخل المستشفى أحضر مصاب آخر، قد أصيب برأسه. لكنه توفي بعد ذلك بقليل. واختطف جثمانه. ودخل الجنود مرة أخرى إلى ساحة المستشفى. سمع صوت صليات رصاص داخل المبنى. فتراكم صدى إطلاق الرصاص فوق الضجيج والضوضاء. بدأ الناس يتحصنون في الداخل، وجد هناك بعض المصابين، ولكن لم يكن هناك متسع من الوقت لمعالجتهم. صرخ القائد بالنساء للخروج ومساعدة المصابين، رغم المخاطر.نحو كل مصاب جرى 20 شخصاً للتبرع بالدم. 28 مصاباً وصلوا في غضون فترة قصيرة، بينهم ثلاثة مصابين بجروح بالغة. أحدهم توفي في السابعة مساءاً. في غرفة العمليات عمل عشرات الأطباء من دون توقف، مثل شريط متحرك. حوالي الساعة الواحدة من بعد الظهر أصيب صبي في العاشرة من عمره بساحة المستشفى أمام عيني أمه. لف جثمانه لف بملاءة خضراء تابع للمستشفى ووضعوه على لوح خشبي، مزيّن بحفنتين من التمر.
صعدت إلى السطح. في الثالثة والربع بدأ القصف من الجو: طائرة عاموديه حلقت 18 مرة ورمت قنابل غاز مسيل للدموع. بدأ الجميع بالسعال. من لم يستنشق الغاز من الأعلى استنشقه من الأسفل. سمع صوت زخات رصاص من ناحية الطائرة. ثم سمعت مكبرات الصوت التابعة للجيش وهي تعلن ان المستشفى هو منطقة عسكرية مغلقة. هوجمت المنطقة من ثلاث نواح، تم اقتحام بوابات الحديد واستمر إطلاق النار لفترة 45 دقيقة. 40 شخص من أهالي غزة اعتقلوا. كان هناك الكثير من المصابين. رأيت رجلا يهرب، وهو يجر رجله.شعرت أنني هدف حي. من الحسن أن مسجل الصوت الذي بحوزتي كان يعمل، على ما أظن، ليسجل على الأقل كيف أقتَل. في هذا الوقت دخلت إلى منطقة المستشفى قرابة 30 سيارة جيش، وسمع إطلاق النار من كل الجهات. حتى المصابون قفزوا من فوق جدار المستشفى، إلى الكرم المحاذي.
آخرون هربوا إلى الأزقة بين البيوت المجاورة، فواجه الجنود صعوبة في الدخول إلى هناك. سمعت صوت صرخات المحاصرين. كانوا يضربونهم بالهراوات.دخلت إلى أحد البيوت المجاورة. حاولت الاتصال بوزارة الدفاع. مكتب رئيس الحكومة. مشغول. لا خطوط. اتصلت إلى الكنيست. أجابوني أنه لا يوجد أي عضو كنيست هناك.
“إنهم موجودون في الجوار ولكن لا يمكن الاتصال بهم”. عاملة مركز الاتصالات استطاعت أن تجد توفيق زيّاد. قال لي: “سأطرح الأمر في جلسة الكنيست”. اتصلت أيضا بالصليب الأحمر. قالوا إنهم سيأتون. لم يأتوا. فحصت نبض قلبي. 120 نبضة في الدقيقة.مظاهرة لآلاف الناس من مخيم الشاطئ وصلت إلى المستشفى. لقد سمعوا عن القتلى. قابلت طبيباً في الشارع، كان قد رآني مصاباً في الصباح. دعاني إلى بيته للاستراحة بالإضافة إلى حبوب مسكنة للآلام. في بيته جلس طبيب آخر. بدأ كلاهما بفحصي. قالا أنه ربما لدي كسر في الذقن. في الرابعة بدأ حظر التجول. بدأ يخيم الليل. قطع الجيش التيار الكهربائي فجلس السكان في بيوت معتمة وأضاءوا الشموع. فيما كان ارئيل شارون يضيء الشمعة الأولى لعيد الأنوار (الحانوكا) في بيته الجديد في الحي الإسلامي في القدس.صعدت إلى سطح منزل الطبيب. فشاهدت من حولي تجمعات عديدة من الناس وإطارات مشتعلة. أما الجنود فاختفوا. الظلمة هي السلاح الأنجع ضد قوات الاحتلال، كما يقول أهالي غزة. آلاف الناس تملأ الشوارع. هكذا هو حظر التجول. اتصلت بمكتب الجريدة، بحثاً عن طريقة للخروج. فحص اثنان من الغزيين الطريق وأعلموني أنّ الطريق الرئيسية مغلقة. عرض علي الطبيب أن أنام عنده. في التاسعة أُعيد وصل التيار الكهربائي. حذروني: “الحجر الآن هو سيد الشارع. من يخرج وحده، يخاطر بحياته”.
فقررت الخروج.سرت في الطرق التي خلت من الناس، لمسافة كيلومترا واحدا، حتى وصلت الى مقر الشرطة. كانت البوابة مقفلة. شهر رجال الشرطة أسلحتهم وصوّبوها نحوي، وفقط بعد أن تأكدوا من أوراقي سمحوا لي بالدخول. عندما وصلت السيارة التابعة للحكم العسكري التي حضرت لإجلائي حتى حاجز إيريز، صعد عدد من رجال الشرطة إلى سطح المبنى لحراستي وأنا أقطع مسافة الأمتار العشرة في الشارع التي كان علي أن اقطعها لأصل الى سيارة الإنقاذ.في حاجز إيريز ( شمال قطاع غزة)، على مسافة أقل من عشرة كيلومترات من مركز الأحداث، جلس بعض من جنود الاحتياط يغالبهم الناعس. سألوني عما يحدث في غزة ومما أصبت. قلت لهم أني دعيت كحكم في مباراة لكرة السلة بين مكابي الخليل وهبوعيل غزة، فضربني الجمهور. حاولت أن أشرح لهم، فقالوا أنّ الحكم ابن زانية. أحد جنود الاحتياط قال لي انه يمارس لعبة كرة السلة واستفسر عن مستوى اللاعبين العرب، ومن فاز بالمباراة.
09.12.2023