انقلاب النيجر: طرد الاستعمار القديم.. وواشنطن تعدّ غزواً عسكرياً بالوكالة
منذر سليمان وجعفر الجعفري
إعلان “قوات الأمن والدفاع” في النيجر عزل الرئيس محمد بازوم واحتجازه في القصر الرئاسي، يوم 26 تموز/يوليو 2023، وإغلاق حدود البلاد، جاءا صادمَين لعدد من محطات صنع القرار في الولايات المتحدة، والتي تكهّنت طويلاً بطلب الدول الأفريقية مغادرة القوات الفرنسية أراضيها، بينما ما زالت النيجر تستقبل القوات الأميركية بناءً على “ترتيبات” سابقة بين واشنطن والرئيس بازوم.
تُوج نجاح “الانقلاب” السلمي بعقد مؤتمر قمة روسية – أفريقية في اليوم التالي في سان بطرسبرغ، بحضور واهتمام لافتين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومندوبين عن “قوات الأمن والدفاع” ونحو 49 من القادة الأفارقة، بينهم 17 رئيس دولة.
لا يُعتقد أن هناك رابطاً مباشراً بين الحدثين، سوى في المغزى والرسائل، التي أراد المشاركون إيصالها إلى العالم بكل وضوح: أفريقيا تدخل عصراً جديداً تمارس فيه سيادتها وحماية ثرواتها وطرد فرنسا الاستعمارية، بالإضافة إلى صدى لقاء سان بطرسبرغ المدوّي، إيذاناً ببزوغ عالم متعدد الأقطاب، وقطع اختلال التبادل التجاري السابق بين أفريقيا وأوروبا الاستعمارية، وإبداله بصيغة أكثر عدلاً وإفادة بين الدول الأفريقية وروسيا، تحت عنوان “سيادة الغذاء”.
ولم يفت مراعاة روسيا لتاريخ الاتحاد السوفياتي السابق بدعم حركات التحرر في أفريقيا، بصورة خاصة، وأعادت إحياء “جامعة باتريس لومومبا للصداقة بين الشعوب”، في 5 شباط/فبراير 2023، لتعزيز الدور التاريخي لهذا الصرح في “تطوير العلاقات التعليمية والعلمية الدولية، وتدريب الكوادر الوطنية في الدول الصديقة لدولة روسيا الاتحادية”، كما جاء في إعلان الخارجية الروسية.
ما يهمنا في هذا التطور هو تسليط الضوء على طبيعة “الرد” الأميركي على انقلاب قاده عسكريون، انطلاقاً من دوافع وطنية، بحسب معايير المؤسسة الإعلامية الأميركية، واستقراء ما في جعبة واشنطن، التي قادت تاريخياً كل الانقلابات المعادية لطموح الشعوب، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، آخرها انقلاب باكستان على رئيس الوزراء المنتخب عمران خان.
بدايةً، لا نستطيع الجزم بمعرفة أجهزة الاستخبارات الأميركية مسبّقاً بالانقلاب، بحيث تشير الدلائل المتعدّدة إلى عكس ذلك، يعززها تقاسم المهمّات بين الدول الغربية في أفريقيا: فرنسا في مستعمراتها السابقة، والولايات المتحدة كطرف داعم بوجود 3 قواعد عسكرية أميركية في النيجر، على الرغم من إقرار البنتاغون بوجود قاعدة وحيدة هناك، وقاعدة أخرى للطائرات المسيّرة.
الثابت أن الولايات المتحدة دانت رسمياً الانقلاب، وكذلك فعلت حليفتاها بريطانيا وفرنسا، وطالبت بإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها، وحمّلت روسيا و”مجموعة فاغنر” مسؤولية التمدد في أفريقيا لمقارعة الوجود الأميركي.
الشخصية الرئيسة في الانقلاب كانت رئيس الحرس الرئاسي، عبد الرحمن تشياني، بدعم عدد من كبار قادة الجيش والقوات المسلحة، الأمر الذي يدلّ على تفاقم حالة تذمّر عامة في اوساط القادة العسكريين، أبرز أسبابها انصياع الرئيس بازوم لتنفيذ متطلبات فرنسا، بينها حق طلب تدخلها عسكرياً في بلاده، علاوة على تدهور الأوضاع الأمنية، وانتشار الإتجار غير المشروع بثروة الذهب الوطنية.
لم تُخفِ واشنطن نياتها في التدخل العسكري وإعادة الرئيس المعتقل وإبرام معاهدات عسكرية وأمنية جديدة تحابي المصالح الأميركية، لكنّ ما يمنعها في هذا الظرف بالتحديد جملة عوامل، لولاها لشهدنا تكرار الغزوات في ليبيا والعراق.
بين تلك العوامل، حساسية المسألة الداخلية من جراء استنزاف حرب أوكرانيا لموارد الدولة من دون أفق مرئي، وتفشي حالات العنف والانتحار بين جنودها العائدين من حروب أفغانستان والعراق، والانتشار العريض للقوات العسكرية الأميركية عبر العالم، وتكثيف حضورها في مواجهة الصين وروسيا، والجاهزية القتالية المشكوك فيها للقوات الأميركية، بعيداً عن الضخ الإعلامي الدعائي.
بشأن حالة الجاهزية، تُبلغنا مجلة “نيوزويك” فشلَ التكتيكات القتالية الأميركية في أوكرانيا، استناداً إلى تقرير داخلي للبنتاغون، من ضمن ما ذكره حالة الذهول بين القادة الاستراتيجيين الأميركيين بسبب عدم تحقيق أي تقدم ملحوظ ضد روسيا، وربما “التدريبات القتالية لم تنجح بالقدر أو المستوى الذي كان متوقعاً”، مضيفاً أن القوات الأوكرانية “طرحت جانباً الأساليب القتالية الأميركية، وطبّقت التكتيكات التي تعرفها جيداً”، والعائدة إلى الحقبة السوفياتية (أسبوعية “نيوزويك”، 10 آب/أغسطس 2023).
والنتيجة الصادمة، التي أثارتها المجلة الأميركية، جاءت بصيغة سؤال وجواب: “إذاً، لماذا نشهد فشلاً للتكتيكات الحربية الأميركية في أوكرانيا؟”. وجواب المجلة المباشر “لأن القتال الحقيقي ضد روسيا لا يشبه أي فيلم تُخرجه هوليوود، عنوانه الجندي الأميركي يطلق النار بغزارة”.
أمام تلك الاعترافات الصادمة، والتي ليست متاحة للتداول بسهولة، ما يتبقى من خيارات لواشنطن لبسط سيطرتها على مناطق العالم هو “القتال بالإنابة”، أي تجنيد قوات من دول أخرى تدور في فلك واشنطن للقيام بالمهمة، وهي تنفذ ذلك حالياً في أوكرانيا.
ونتيجةً لهذه الأسباب مجتمعة، بالإضافة إلى الدعم الشعبي لعناصر الانقلاب، أوكلت مهمة “التصدي للانقلاب وعكس مساره” إلى مجموعة من الدول الأفريقية المجاورة للنيجر، بعد تعثر فرنسا في القيام بالمهمة، تحت مسمّى اقتصادي هذه المرة “المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا” – “إيكواس”. تأسست المجموعة عام 1975 بعضوية 15 دولة، ومقرها عاصمة نيجيريا أبوجا، وانسحبت موريتانيا من العضوية عام 2001.
وعليه، تزخر وسائل الإعلام الأميركية بعنوان مشترك “إيكواس توافق على التدخل العسكري في أقرب وقت ممكن”، نقلاً عن رئيس ساحل العاج، الحسن واتارا، عقب اجتماع المجموعة لتدارس الخطوة المقبلة بإيعاز من واشنطن.
الإعداد للتدخل العسكري المنشود سيستغرق “نحو 6 أشهر”، بحسب قائد عسكري رفيع في “إيكواس” لصحيفة “وول ستريت جورنال، بتاريخ 11 آب/أغسطس 2023، وسط أنباء رصدت وصول “معدات عسكرية أوروبية إلى نيجيريا”. وانضمت روسيا سريعاً إلى دعم قادة النيجر الجدد بإصدارها تحذيراً لدول “إيكواس” بعدم التدخل عسكرياً لما ينطوي عليه من مخاطر بحرب طويلة الأمد وتدهور الاستقرار في منطقة الساحل الأفريقي.
وطبّقت نيجيريا وصفة التدخل بقطعها التيار الكهربائي عن النيجر، وسارعت الجزائر إلى تدارك الموقف وتوريد الطاقة “مجّاناً” إليها.
أرفقت واشنطن موقفها المعلن بإعادة الاعتبار إلى الرئيس السابق بإرسال نائبة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند، للقاء قادة الانقلاب و”الاطمئنان” على صحة الرئيس المعتقل. استقبلها قادة النيجر الجدد بمقاطعتها ورفض اللقاء المباشر معها، وعدم السماح لها برؤية الرئيس السابق، بل التحدث إليه هاتفياً. وأقصى ما حصلت عليه هو لقاء مع الجنرال موسى سالو بارمو “الذي نصّب نفسه وزيراً للدفاع”، وهو الذي “عمل مع القوات الخاصة الأميركية في النيجر عدة أعوام”، أرفقته بإعلان وقف المساعدات الأميركية المقررة للنيجر.
بعض النخب السياسية الأميركية عدّ زيارة نولاند تمهيداً لاستدراج القادة الجدد بتصفية الرئيس المعتقل كي يتوافر لها مبرر التدخل العسكري المباشر. لكن يقظة القادة وحنكتهم أفشلتا مرامي نولاند المشهورة بتوزيعها الحلوى في ساحة “ميدان” في كييف عقب انقلاب أطاح رئيسها المنتخب عام 2014.
لم تتراجع حظوظ الوصفة الأميركية المفضّلة بالتدخل العسكري، على الرغم من العقبات الواردة أعلاه، لكن خطابها اليومي يزخر بالتمسك بالديمقراطية وإعادة “الرئيس المنتخب”، ريثما تنضج بعض الظروف قيد الإعداد، ضمن سقف الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة.
لكن تمدد خطابها العدواني ضد روسيا والصين معاً قد يدفعها إلى التريث في تطبيق ذلك مباشرة، وإيلاء المهمة للقوات النيجيرية تحت سيطرة رئيس البلاد الموالي لواشنطن، بولا تينوبو، الأمر الذي يعزز هدف وصول المعدات العسكرية الغربية إلى نيجيريا في ظلّ هذا الظرف المتوتر.