مقالات

نهاية المخاض الأوروبي

ـ بقلم: محمود موسى مصطفى

المصدر: الرأي اليوم اللندنيةاتخذت الحكومات الأوروبية الغربية مجموعة تدابير ملموسة لمواجهة التحديات والأخطار المحدقة بها، وخاصة في مجالي الأمن القومي والوطني للحفاظ على الأمن والاستقرار في بلادهم.لقد أصبحت الإستراتيجية العسكرية والأمنية في المقدمة ومن صلب أولويات الدول الأوروبية الغربية، حيث ازداد الإنفاق العسكري خلال الأعوام العشرة السابقة ليصل إلى /552/ مليار دولار في العام الماضي 2023م، بينما كان /330/ مليار دولار في عام 2014م، وتأتي في مقدمة هذه الدول بريطانيا (74.9) مليار دولار، ثم المانيا (66.8) مليار دولار، وفرنسا (61.3) مليار دولار، وإجمالي نفقات الدول الأعضاء الـ (31) في حلف الناتو (1341) مليار دولار والذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتأتي الأخيرة بالمركز الأول في الإنفاق العسكري (916) مليار دولار.وبالإجمال فإن دول أوروبا الغربية تعتبر نفسها خط الدفاع الثاني بالمواجهة العسكرية مع روسيا الاتحادية وحلفائها بالحرب القائمة حالياً بين روسيا الاتحادية وجمهورية أوكرانيا، وعلى نفس النهج ازداد الإنفاق العسكري لدى حكومات دول وسط أوروبا والتي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي سابقاً وانخرطت بالتحالف الأوروبي الغربي، وتأتي بالمقدمة جمهورية أوكرانيا (64.8) مليار دولار، وبالإضافة للمساعدات العسكرية المقدمة لها من حلفائها والتي تقدر بـ (35) مليار دولار منها (25.4) مليار دولار من الولايات المتحدة الأمريكية خلال عام 2023م، وثم تأتي جمهورية بولندا والتي تتخوف من أن يكون مصيرها ومستقبلاً كمصير جارتها المنكوبة أوكرانيا، فكان الإنفاق العسكري البولندي ملفتاً للنظر حيث يقدر بـ (31.6) مليار دولار خلال العام 2023م، وهذا الرقم يعتبر كبيراً نسبياً بالنسبة لدولة بحجم بولندا.وبالمقابل ففي الجبهة الشرقية لأوروبا قدر الإنفاق العسكري لجمهورية روسيا الاتحادية بنحو (109) مليار دولار.هذه الأرقام المذكورة سابقاً مأخوذة من الإحصائيات المقدمة من معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري”، وهي تقريبية لأن أكثر الدول لا تعترف أو تعطي أرقاماً صحيحة حول إنفاقها العسكري أو برنامجها الاستراتيجي الأمني والقومي.من جانب آخر فإن القارة الأوروبية تواجه مجموعة أخطار أهمها: خطر انتشار المجموعات الإرهابية المسلحة والمنحدرة من الدول العربية والإسلامية، وبما فيهم المقيمين في الدول الأوروبية ويحملون جنسياتها، وهؤلاء أصبحوا عبئاً وخطراً على الأمن القومي الأوروبي بعد تورطهم بالإعمال الإرهابية التي نفذوها في بعض المدن الأوروبية، كما أن هناك خطر التطرف اليميني الأوروبي وهؤلاء لهم تمثيل في البرلمانات الأوروبية ولديهم أحزاب ومجموعات وتنظيماتهم الخاصة بهم، ويحاولون الوصول إلى هرم السلطة عن طريق الانتخابات الرئاسية، ولديهم أجنداتهم السياسية الخطيرة بتحويل منهجية ونظام الدول الديمقراطية إلى نظام عنصري أو نازي، ونفذت بعض المجموعات المتطرفة اليمينية اعتداءات على المهاجرين والأجانب المقيمين في الدول الأوروبية وصلت إلى حد ارتكاب جرائم القتل، وهذا ما ترفضه الأكثرية من الشعوب الأوروبية المتحضرة، والتي تحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير والرأي وتتخذ من المواطنة والمساواة نهجاً لها في حكم البلاد.ومن هذه المجموعات السابقة ذكرها خرجت أحزاب ومجموعات مسيحية متصهينة وهي مرتبطة بالحركة الصهيونية العالمية الداعمة للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وخرج من هؤلاء شخصيات سياسية وأصحاب قرار ولهم نفوذهم في الحكومات الأوروبية الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية ويتجاوز عددهم الـ /70/ مليون شخص، حيث يتفاخرون بانتسابهم للحركة الصهيونية العنصرية علناً وأيديهم ملطخة بدماء العرب والمسلمين في فلسطين المحتلة وغيرها من الدول.أما الخطر الخارجي والذي يهدد الأمن القومي للدول الأوروبية الغربية هو التخوف من تمدد روسيا الاتحادية باتجاه حدودهم، وهذا القلق بدأ منذ أن ضمت الأخيرة شبه جزيرة القرم لأراضيها، وبعدها بفترة قصيرة اجتاح الجيش الروسي الأراضي الأوكرانية خلال عام 2020م، ومازالت المعارك الضارية تدور بين الجيشين الروسي والأوكراني حتى يومنا هذا، والنزاع المذكور أعاد للواجهة ذكريات الحرب الباردة والحروب التي قبلها، وأصبحت جميع القوى المتناحرة على الساحة الأوكرانية تنذر بحرب عالمية ثالثة.ففي ظل هذا التشابك والتمدد والانتشار لشتى أنواع الصراعات المسلحة على الساحة الأوروبية والدولية، جاء هجوم كروكوس الإرهابي الأخير ليعمق الخلافات السياسية والعسكرية، وفتح الباب على مصرعيه أمام القيادة الروسية لاستخدام الذراع الطويلة في حربها مع المجموعات الإرهابية المسلحة ومع الدول التي دعمتها في تنفيذ الهجوم المذكور، وهذا واضح من خلال تصريحات وتهديدات السياسيين الروس حيث قال: نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف: (كل من شارك في هجوم كروكوس الإرهابي هو الآن هدف قانوني لروسيا)، ومن ثم جاء تصريح رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الروسي الكسندر بورتنيكوف والذي اتهم واشنطن ولندن وكييف وراء الهجوم المدبر على قاعة كروكوس.لقد جاء توقيت وهدف عملية كروكوس الإرهابية لتلفت وتعيد أنظار المجتمع الدولي للحرب المشتعلة في أوكرانيا، بعد أن أصبحت أولوية المجتمع الدولي الحرب على قطاع غزة والإبادة الجماعية التي ينفذها العدو الصهيوني، بدعم واهتمام واشنطن والعواصم الغربية التي تزود الكيان الصهيوني بالسلاح والمال بحربه على غزة، وتركت نظام كييف يتخبط لوحده في الصراع مع روسيا الاتحادية، وهذا ما أغضب قادة نظام كييف بعد خسارتهم الفادحة لمساحات واسعة من الأراضي في جبهات القتال مع الجيش الروسي وحلفائه، كما أن هناك أسباب أخرى تفوح منها رائحة الكراهية والانتقام على سياسة روسيا الاتحادية، بسبب وجود قواعد روسية في الشرق الأوسط وتمددها السياسي والعسكري والاقتصادي باتجاه أفريقية مقابل الانكفاء والتراجع الفرنسي والأمريكي منها، بالإضافة للحرب المستعرة في أوكرانيا، والتي تسببت بمعضلة كبيرة للدول الأوروبية وخاصة في ملف المهاجرين واندلاع أزمة اقتصادية عالمية خانقة.هجوم كروكوس ليس أقل أهمية من شرارة الحرب العالمية الأولى، عندما أقدم شاب بوسني على اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فردينال وزوجته عام 1914م، لتندلع بعدها حرب طاحنة راح ضحيتها نحو 22 مليون نسمة، وكان كل طرف أو حلف له أهدافه السياسية والاقتصادية وأطماعه في السيطرة على المزيد من الأراضي، أو الرغبة في التسوية والتحرير والاستقلال، وهذا ما يحدث حالياً مع الدول الأوروبية وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد.لقد دامت الحرب العالمية الأولى أكثر من أربع سنوات تم خلالها تدمير البنية التحتية للدول المشاركة فيها، وتغيرت الخارطة الجيوسياسية لأوروبا ودول المنطقة والعالم، حيث اندلعت ثورات وسقطت أنظمة وحكومات تلتها نزاعات داخلية وخارجية، لتعود الكره مرة ثانية من جديد بالحرب العالمية الثانية (1939ـ1945)م، حيث استخدمت في هذه الحرب أسلحة أكثر تطوراً وفتكاً وكانت نتائجها مرعبة على العالم بأسره، سقط الملايين من القتلى والجرحى وبأرقام يصعب تقديرها، بالإضافة للدمار الذي لحق البنية التحتية للأطراف المتنازعة بالحرب، وأعيدت من جديد رسم الخارطة الجيوسياسية لأوروبا ومستعمراتها حول العالم بعد الحرب مباشرة.ثم جاءت الحرب الباردة وانقسم العالم إلى قطبين القطب الأول الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية، والقطب الثاني الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، تسابق القطبان لفترة طويلة على التسلح النووي والتهديد به، وفي النهاية تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من حسم الصراع واخترقت المنظومة السياسية للاتحاد السوفيتي، وتم تفكيكه وتقسيمه لدويلات مستقلة عام 1991م، دون أن تطلق طلقة واحدة، وعمّت الفوضى في جميع البلاد وانتشر الفقر، وأصبحت كل جمهورية سوفيتية لها استقلالها وكيانها السياسي والاقتصادي والثقافي، وظهرت النزعة القومية والدينية والمذهبية، وانفصلت بعض الكنائس عن الكنيسة المركزية الأم الشرقية، ووجدت هذه الدول المستقلة مصالحها المشتركة مع أوروبا الغربية.لاشك بأن الرئيس الروسي فيلاديمير بوتن بذل جهداً كبيراً لإحياء ما تبقى من الاتحاد السوفيتي والمتمثل حالياً بروسيا الاتحادية، وجعلها قوة لا يستهان بها حيث حافظت الأخيرة على مؤسستها العسكرية وصناعتها بقدر المستطاع، برغم كل الأزمات والتحديات الداخلية والخارجية التي ألمت بها، فمن الطبيعي أن يحلم الرئيس بوتن والذي يحكم البلاد منذ أكثر من ربع قرن بإعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي، وخاصة أنه واحد من أبناء هذه المدرسة التي عاصرها وخدم في مؤسساتها العسكرية والأمنية، ويشعر بالاعتزاز بقوة ونفوذ الاتحاد السوفيتي على الصعيد العالمي، وهذا الحلم كان يمكن له أن يتحقق لو استلم الرئيس بوتن مقاليد السلطة في السنوات الأولى لانهيار الاتحاد السوفيتي، وليس بعد مرور هذه الفترة الطويلة من الزمن، حيث انخرطت واندمجت شعوب وقوميات الدول المستقلة بالمجتمع الأوروبي الغربي الأكثر تطوراً ورفاهية، حتى الشعب الروسي لم يعد كما كان سابقاً أيام الاتحاد السوفيتي منغلقاً عن التواصل مع الأكثرية من دول العالم، فالاندماج مع أقرانهم الأوروبيين اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً أدى إلى تغيرات كثيرة في الأفكار والآراء والعقائد المشتركة، وبنفس الوقت أصبحت روسيا محطة أنظار لجلب الأوروبيين الغربيين للاستثمار فيها بسبب ثرواتها الباطنية وما تمتلكه من الطاقة التي تحتاجها أوروبا الغربية.وعندما انخرطت بعض دول وسط أوروبا بحلف الناتو فقد أحدث ذلك حالة عدم الاستقرار والتهديدات الأمنية وعسكرية لأوروبا الشرقية، وأصبحت هذه الدول في جبهة المواجهة والعدائية مع روسيا الاتحادية، وهذا ما حدث مع أوكرانيا والتي تعتبر نفسها رأس الحربة بالمواجهة العسكرية مع روسيا الاتحادية في حربها الدائرة حالياً، والتي أصبحت فيها الحلول السياسية شبه مستحيلة وأكثر تعقيداً بعد رفض روسيا الانسحاب من الأراضي التي استولت عليها بالقوة العسكرية، ومن تداعيات النزاع الأوكراني وانعكاساته على الشعوب الأوروبية، الكراهية التي طالت الروس وخاصة العاملين في الشركات الأوروبية الغربية والمواطنين العاديين الذين أصبحوا بالإجمال غير مرغوب فيهم في تلك الدول، وتسببت الأزمة الأوكرانية بلجوء الملايين من وسط أوروبا إلى الشطر الأوروبي الغربي مما زاد العبء الاقتصادي على كاهل الحكومات الأوروبية الغربية.تحتاج روسيا الاتحادية حالياً إلى إعادة برمجة إستراتيجيتها الحالية من جديد، فالتحديات كثيرة في جبهاتها الداخلية والخارجية، فقوة روسيا الاتحادية وجيشها الحالي لا تتناسب مع قوة الاتحاد السوفيتي سابقاً والذي كان يحسب له ألف حساب، وفي حال اتسعت رقعة الحرب باتجاه أوروبا الغربية ستكون الكارثة أعظم، فالأخيرة لديها ما يكفيها من الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية والبطالة والمهجرين ومحاربة الإرهاب وغير ذلك، قد تكون هذه الأزمات بالإجمال سبباً قوياً لاندلاع حرب عالمية ثالثة.ـ كاتب وباحث سوري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى