بن غوريون.. ها نحن من جديد
كتب أسعد قطّان
إبّان مؤتمر علميّ نظّمه «مركز الدراسات الدينيّة» في جامعة مونستر (ألمانيا) من ١١ إلى ١٣ تمّوز/يوليو من العام ٢٠١٠ بعنوان «ما بعد التقليد» (Beyond Tradition) ، قال المفكّر الألمانيّ اليهوديّ رافايل زيليغمان إنّ هتلر نجح في أن يحقّق بعد موته ما فشل في تحقيقه إبّان حياته، أي أن يحوّل الأمّة اليهوديّة إلى أمّة مصابة بمتلازمة الخوف. تردّد صدى هذه الملاحظة حين قامت قيامة أحد الساسة الإسرائيليّين على ضبّاط الاحتياط الذين أعلنوا تعليق خدمتهم في الجيش احتجاجاً على ما حاولت أن تقوم به الحكومة من تقليص لنفوذ السلطة القضائيّة، إذ قال ما معناه أنّ الدفاع عن دولة إسرائيل واجب مقدّس، فوحده وجود هذه الدولة يضمن عدم تكرار مأساة الهولوكست. إنّها، إذاً، متلازمة الخوف ذاتها تطلّ برأسها من جديد كأنّ الأرض توقّفت عن الدوران بعد مقتل آخر يهوديّ في آخر فرن غلّفته غمامة الغاز النازيّة.بعد السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر من العام ٢٠٢٣، يعرف كلّ إسرائيليّ لم يفقد عقله بعد أنّ وجود دولة إسرائيل لا يحميه من شيء: لا من محرقة جديدة، ولا من الطوفان الفلسطينيّ الماحق. لئن يجرف هذا الطوفان معه مدنيّين أبرياء لا يسوغ التصالح مع موتهم، إلّا أنّه يبقى ردّ فعل على شرّ بنيويّ أكثر عمقاً وترسّخاً وإيغالاً، أي على الظلم الناتج من امتهان إنسانيّة الشعب الفلسطينيّ وحقوق بناته وأبنائه في العيش بكرامة على أرض أجدادهم.
بلى بلى! لا تستطيع الدول العتيّة الظالمة أن تضمن عدم تكرار المذابح، بل وحده السلام المقترن بالعدل كفيل بأن تصبح هذه المذابح جزءاً من ماضٍ لا يتكرّر. ليس من باب الصدفة أنّ التلازم بين السلام والعدل متأصّل في الكتب المقدّسة، ولا سيّما في التوراة، التي تبني عليها إسرائيل خرافتها الإيديولوجيّة عبر تأويلات مغلوطة هشّة. قدرة هذا التلازم على اجتثاث العنف الحاصل اليوم أمر ذكّرنا به، من بيت لحم، القسّ متري الراهب، رئيس جامعة «دار الكلمة»، في رسالة مقتضبة له بعد اندلاع حرب غزّة، التي لم تنتهِ فصولها بعد، واضعاً النقاط على الحروف. الدولة المغتصبة القامعة لا تصنع سلاماً ولا تحول دون استعادة المذابح. هذا هو الدرس الذي يجب أن يستخلصه المجتمع الإسرائيليّ من واقعة السابع من أكتوبر. ليس تفصيلاً أنّ خطاب هذا المجتمع راح يربط بين الهولوكست والمهانة الكبرى التي ألحقها مقاتلو «حماس» بالكيان الإسرائيليّ حين تمكّنوا من اختراق خطوطه الحمراء بفضل مزيج غرائبيّ من ذكاء تكتيكيّ مذهل وتقنيّات عسكريّة غاية في التواضع. لكنّ هذا الربط حقّ يراد به باطل. فالذين قتلهم الوحش النازيّ كانوا ضحايا حقيقيّين. أمّا دولة إسرائيل، فتتشبّث منذ عقود بدور الجلاّد الذي انزلقت إليه بفعل متلازمة الخوف.
ثمّة خوف دفين في السيكولوجيا اليهوديّة يحوّل هذه الدولة إلى كيان يحسب أنّه يدور في مجرّة ميتا-أخلاقيّة، بحيث يستطيع أن يقترف كلّ شيء وأيّ شيء من دون أن يحاسبه أحد. وثمّة شعور بالظلم والقمع والعسف لا يني يتراكم في النفس الفلسطينيّة منذ النكبة، وقد رصدنا تفجّراته مرّةً تلو مرّة، في الانتفاضات، في ثورات الحجارة، في الصرخات التي لم ينصت إليها الغرب لأسباب تترجّح بين منظومة مصالحه والإيديولوجيّات المسيحيّة المتصهينة مروراً بعقد الذنب.
لكنّ العودة الفلسطينيّة كانت مدويّةً هذه المرّة، لأنّها كسرت عنجهيّة العقل الإسرائيليّ الذي يؤمن بتفوّقه، عبر جعل المعركة تخاض في ما يعتبره هذا العقل قدس أقداسه، في «أرض إسرائيل» ذاتها، وفي قلب المستوطنات التي اقتلعت العصابات المؤدلجة سكّانها الأصليّين في عمليّة تطهير عرقيّ أرّخ لها مفكّرون يهود قبل سواهم. لقد عاد الذين اقتُلعوا كأنّهم يقولون لمؤسّس دولة إسرائيل، بالكلمات المنسوبة إلى الجنرال غورو عند قبر صلاح الدين: «بن غوريون، ها نحن من جديد». إنّه الطوفان الذي لم تقوَ كلّ سدود إسرائيل وجدرانها العازلة على كبح جماحه. إنّه «جيش التياب المخزّقة» الذي كتب عنه عاصي الرحبانيّ ذات يوم، والذي سدّد للدولة المتعجرفة أقصم ضربة تلقّتها منذ تأسيسها. لن تنتهي هذه الدوامة يا صديقي بن غوريون. لا الجدران العنصريّة نفعت، ولا التكنولوجيا المتفوّقة نفعت، ولا الأسلحة المتطوّرة التي تدكّ غزّة اليوم نفعت.
لقد حان الوقت أن تصفّوا حسابكم مع الجنديّ النمساويّ، الذي لعلّه يقهقه الآن من خلف الحجاب، بعدما جعلكم أمّةً مسكونةً بالخوف. وآن الأوان أن تتحوّلوا إلى أمّة كسائر الأمم الأخرى، بدلاً من التحليق فوقها بغطرسة الطاووس الذي يعتقد أنّه اقتدّ من مجرّة أخرى ومن تاريخ آخر؛ أمّة تخرج من بقعة العتمة، حيث تحوّلت الضحيّة إلى جلّاد مذعور، لعلّها تشترك في صناعة السلام الذي يعانق العدل، كما كتب صاحب المزامير ذات يوم.
لقد تعب «جيرانكم» من توبيخكم على صلافتكم، وضاقوا ذرعاً بغبائكم على الرغم ممّا تدّعونه لنفسكم من ذكاء.
لكنّ الذكيّ هو من يتراجع. لعلّكم تتذكّرون هذا المثل أيضاً، فهو ألمانيّ المصدر…