مقالات

رحلة في أعماق الروح السورية..


ما نحن فيه اليوم أبعد بكثير من حدود جغرافيتنا.. ووجود كل هذه القوى في بلادنا، سواء الصديقة منها أو المعادية، لم يأت من فراغ.
انها مرحلة مفصلية، من مسار الحضارة البشرية، وصراع الخير والشر.
من الغريب أن ما يطلق عليه عصر التنوير الأوروبي، الذي أعقب الثورة الفرنسية، هو من أنتج الحالة الاستعمارية الأوروبية لمعظم شعوب الأرض، وفي مقدمتها وأساسها بلادنا، حيث المشرق، وقلب العالم الذي تستوطن فيه روح الحضارة البشرية.
من منا يزور بلدان أوروبا اليوم، يدهش لتطورها وتنظيم مدنها ونظافتها، وتعجبه الكثير من تفاصيل الحياة فيها.. ويتساءل لماذا نحن لسنا كذلك.
لكن قليلا من التفكير، والتعمق في هذه الصورة، نرى فيها الكثير من التفاصيل، التي تضيع خلف ظاهر تلك الصورة.
فكل ما نراه من تطور الغرب ورفاهيته، مسروق من ثرواتنا ومن أرضنا ومن تاريخنا، ومن ثروات بقية شعوب الأرض، لكن أكبر سرقاتهم وأخطرها، هي فكرنا وثقافتنا وتاريخنا وروحنا.
هل يلاحظ كل من يزور متاحف أوروبا التي يتفاخرون بها، كم يوجد فيها من آثارنا وتاريخنا؟ وليقارنونها مع ضحالة ما يوجد فيها من آثارهم وتاريخهم؟؟ والغريب أن في هذه المتاحف من آثارنا وتاريخنا أضعاف أضعاف ما في متاحفنا.. هي ثقافة السرقة واللصوصية، التي يمتهنونها في كل شيء.
مع بداية تلك المرحلة الاستعمارية، كان همهم الوحيد أن “لا تتركوا الشرق ينهض” لأنهم كانوا يرون أن في نهضته موتهم، لأن ثقافتهم الإقصائية والمتوحشة، لا تؤمن بالتعاون لبناء حضارة إنسانية راقية تشمل الجميع.
فتصرفوا كمتوحشين، ولصوص وقتلة وقطاع طرق، لتدمير كل ما يمكنهم تدميره، من شرقنا الجميل وروحه الوهاجة..
حضارة أوروبا اليوم، تشبه شخص احترف بكل ذكاء اللصوصية، فسرق كل ما يمكنه من أهله وجيرانه وبلده، وبنى قصراً جميلاً، وحوله حديقة غناء، يطل من شرفته على جواره، لكن هذا لا يلغي أن في داخل هذا القصر لص حقير، وشتان ما بينه وبين الأرواح الجميلة، التي تستوطن البيوت من حوله.
أليست هي نفس الصورة التي تحدث عنها “جوزيف بوريل” مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بأن “أوروبا حديقة غناء وكل ما حولها أدغال”.
لكن هذا العنصري الحقير، لم يقل كيف بنيت هذه الحديقة، وهو أجبن وأحط من أن يجرؤ على القول، ان كل شجرة وكل وردة وكل نبتة فيها مسروقة من هذه الادغال، ومن ثروات وخيرات أهلها..
أما الأغرب..!! فهو هذا التشابه الكبير، بين هذا الفكر الاستعماري، الذي عبر عنه بوريل، وما نراه اليوم من سيطرة الفساد، الذي يلتهم كل شيء في بلادنا ومجتمعنا، فنرى اللصوص في سياراتهم الفارهة، وفي فللهم الجميلة، وحدائقها المنظمة، فيما أهالي الشهداء والجرحى والمهجرين، الذين حموا بلادنا بكل ما يمتلكون، يعيشون في فقر مدقع.
فهل وصلتكم الصورة، عن التشابه حد التطابق، بين الاستعمار والفساد، ولماذا هذا التكالب الشرس على سورية، درة العقد في هذا الشرق، ونقطة التوازن الاستراتيجي في العالم، والمكان الذي تعلن منه مؤشرات صعود وانهيار الامبراطوريات والدول العظمى..
ألم تقل الامبراطورة الروسية كاترينا “إن مفاتيح الكرملين موجودة في دمشق”.
أستطيع اليوم أن أؤكد، بأنه لا يمكن أن نحلم بمجتمع هو الأقرب إلى المدينة الفاضلة، ما لم يكن في هذا الشرق، حيث تستوطن روح الإنسانية، وهذا يتطلب أولا وقبل كل شيء، نبذ أفكار التعصب والتطرف والإقصاء والتكفير والطائفية والقبلية والفساد وسوء الإدارة، والعودة إلى روحنا السامية الراقية، التي أنتجت الأوائل في كل شيء، حيث ابولودور الدمشقي في البناء، وبابنيان الحمصي في القانون، وحيث زنوبيا وعشتار والامبراطورة ثيودورا ابنة منبج، التي حررت المرأة، وحيث افلاطون وارسو وسقراط وفيثاغورث وزينون الرواقي، ورفاقهم وتلاميذهم في المدرسة الرواقية السورية في قلب اليونان، ولا تخدعكم كذبة الغرب حول ما يسمى الحضارة الإغريقية التي هي نتاج حضارتنا المشرقية، حينما كان حوض البحر المتوسط اسمه البحر السوري.. فالغرب يمتهن اللصوصية في كل شيء.
وهل تتابعون ما تتناقله الأخبار عن إبداعات السوريين وتفوقهم، في البلاد التي استطاع اللصوص تهجيرهم إليها، لأنهم يدركون أن بلادهم التي تشيخ، وأصبحت بلا روح، ولا حياة لها ما لم تنبض فيها الروح السورية (الشامية).
في تسعينيات القرن الماضي، اتخذ البرلمان النمساوي قرارا سريا، بأن الحل الوحيد حتى لا تموت النمسا، بالسماح لشباب بلاد الشام بالهجرة إليها، وقال لي صديق يعيش في النمسا، أنه سأل بنفسه الرئيس النمساوي عن هذا القرار، وأكد له صحته.. وفي جلسة خاصة قال رئيس بلدية فيينا لصديقي السوري .. لو أن أهل بلدك من الأطباء عادوا إلى بلدهم اليوم، لتسببوا بأزمة صحية في فيينا.. فكيف هو الحال اليوم؟.

رحم الله النبي السوري “جبران خليل جبران” الذي تحدث قبل أكثر من مئة عام، عن هجرة السوريين وهروبهم من العثماني الهمجي المتوحش، وكيف أن الروح السورية تسري في جسد بقية شعوب الأرض، لتجدد الحياة في أجسادهم الميتة.. وها هي الصورة تتكرر اليوم وبشكل مدهش.
كم هو جميل، أن نستطيع بناء مجتمع فيه روح الشرق، وما هو مفيد من الغرب، بعيداً عن كذباته الثلاث التي بنى عليها اركانه (حقوق الانسان وحرية الفرد والديمقراطية) والتي انكشفت وانهارت، مع انهيار صنيعته من داعش وأخواتها.. وهذا بالتأكيد يحتاج إلى تحرير عقولنا وأرواحنا، وبناء دولة القانون والقانون فقط..
فهل نحلم بنهضة سورية، من وسط هذا الخراب، ونعيد بناء هذا المبنى الإنساني الجميل، فنحن أهل البناء والإرادة، ونحن من وضع الأساس للحضارة البشرية، ونحن من اخترع الأبجدية والنوتة الموسيقية والالعاب الرياضية، وطورنا الزراعة ودجنا الحيوان، ومن عندنا خرجت الديانات والمدارس الفكرية والفلسفية، ولا عودة للإنسانية إلى روحها ما لم تعد إلى موطن تلك الروح، حيث الشرق وسورية (بلاد الشام) روحه وعقله وقلبه… لست متشائما رغم كل الخراب (أليست سورية هي طائر الفينيق)؟.

أحمد رفعت يوسف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى