أزمة الديون العالمية: هل تقوض الدولار الأمريكي؟
إبراهيم علوش – الميادين نت
تتأجج مشكلة الديون العالمية، يوماً بعد يوم، كأنها صاروخٌ ذاتي الدفع يحلق عبر القارات بقوة دفعٍ مستقلةٍ عن هياكل المنصة التي أطلقته في فضاء الاقتصاد الدولي. وإذا كانت مفاصلُ بعينها، مثل الأزمة المالية الدولية عام 2008، أو أزمة كوفيد-19، أو سلسلة رفع معدلات الفائدة الأمريكية مؤخراً، يمثل كلٌ منها نقطة تحول جعلت مسار الديون العالمية ينعطف صعوداً بصورةٍ أكثر عزماً وتسارعاً، فإن ديناميكية التكاثر الذاتي في ظاهرة الديون العالمية جعلتها تزداد حجماً وكثافةً واكفهراراً كسحبِ جحيمٍ تهدد بإغراق الاقتصاد الدولي برمته في الإفلاس الشامل.
قرعت الأمم المتحدة جرسَ إنذارٍ رناناً في 12/7/2023، معلنةً تراكم الديون الحكومية خطراً محدقاً بالاقتصاد الدولي، مع تزايدها 5 أضعاف منذ عام 2000، في حين ارتفع الناتج الإجمالي عالمياً 3 أضعاف فقط في الفترة ذاتها، الأمر الذي “يتطلب اتخاذ إجراءات فورية لمعالجة الأزمة المتصاعدة التي تؤثر في البلدان النامية على وجه الخصوص”، بحسب مؤتمر صحفي لأمينها العام أطلق فيه تقريراً شاملاً بعنوان “عالمٍ من الديون. عبءٌ متزايدٌ على الازدهار العالمي”.
قبل تقرير الأمم المتحدة وبعده، حذرت وسائل الإعلام الغربية من تفاقم أزمة الديون الحكومية عالمياً، مع بلوغها 92 ترليون دولار عام 2022، ولا سيما انعكاسها على الدول النامية. أنظر مثلاً “فورن أفيرز” في 20/2/2023؛ “ذي غارديان” في 13/4/2023؛ “نيويورك تايمز” في 17/4/2023؛ “فايننشال تايمز” في 2/6/2023؛ وغيرها من التقارير.
وفي 1/8/2023، خفضت مؤسسة “فيتش” التصنيف الائتماني طويل المدى للولايات المتحدة الأمريكية من أعلى درجة ثقة في سداد التزاماتها المالية، وهي (AAA)، إلى درجة أدنى منزلةً، وهي (AA)، مدفوعةً بالقلق من العجوزات المتصاعدة لموازنتها السنوية وتراكم دينها العام وطريقة إدارتها العشوائية لسياساتها المالية والنقدية.
ويبقى تصنيف “فيتش” الائتماني للصين ثابتاً عند درجة (A+) منذ عام 2007، لكن وسائل الإعلام الاقتصادية أشارت في 16/8/2023 إلى أن “فيتش” ربما تعيد النظر في تصنيف الصين الائتماني، بالنظر إلى تراكم دينها العام أيضاً.
تصاعد نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عالمياً
تمثل نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي المؤشر الإحصائي الأبرز الذي يظهر عبء الدين العام على كاهل الاقتصاد. ومن البديهي أن احتمالية الإفلاس، أو تعثر سداد الأقساط والفوائد على الأقل، تزداد كلما ارتفعت نسبة الدين إلى الدخل السنوي، مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة.
قدّر صندوق النقد الدولي الناتج المحلي الإجمالي عالمياً في نهاية الربع الأول من عام 2023، بحسب موقعه الإلكتروني، عند 105.57 ترليون دولار، بالأسعار الجارية، منها 60.47 ترليون للاقتصادات المتقدمة، و45.1 ترليون للاقتصادات النامية والأسواق الناشئة، بحسب تصنيفه لاقتصادات العالم. ويمكن أن نقول، بلغةٍ أكثر وضوحاً، الغرب الجماعي وأفرعه، من جهة، مقابل بقية العالم من جهةٍ أخرى.
بلغ الدين العام، بالمقابل، نحو 99 ترليون دولار أمريكي، بالأسعار الجارية، في الفترة ذاتها، بحسب تقديرات موقع Visual Capitalist، المستندة إلى إحصاءات صندوق النقد الدولي. وهذا يعني أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عالمياً بلغت 93.6% في الربع الأول من عام 2023.
يذكر أن تلك النسبة كانت 64.3% قبيل الأزمة المالية الدولية مباشرةً عام 2008، وأنها قفزت إلى 75% عام 2009.
كما يذكر أن تلك النسبة بلغت أكثر من 84% بقليل عام 2019، قبيل أزمة كوفيد-19 مباشرة، وأنها شهقت إلى نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عام 2020.
انخفضت تلك النسبة إلى أقل من 96% عام 2021، وإلى أقل من 93% عام 2022، لتعود إلى الارتفاع مع سلسلة رفع أسعار الفائدة الأمريكية ابتداءً من خريف عام 2022، ويتوقع أن تعود تلك النسبة إلى 100% عام 2027.
لا بد من الانتباه جيداً هنا أن انخفاض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عالمياً، عامي 2021 و2022، يعود إلى عاملين أساسيين:
أ – ارتفاع معدل التضخم. ويشار إلى أن ارتفاع معدل زيادة الأسعار يجعل قيمة الأصول المالية تتآكل، أي أنه يجعل الدين العام يتقلص. لنفرض مثلاً أنك اشتريت أذونات خزينة بقيمة 100 دولار أمريكي عام 2021، فإذا انخفضت القوة الشرائية للدولار في الولايات المتحدة 8%، كما حدث عام 2022، فإن الـ 100 التي ترد إليك عام 2022 ستكون قيمتها 92 دولاراً فحسب، بمقاييس عام 2021. هذا يعني أن التضخم يقلص الدين العام القديم، أو يعومه، وبالتالي يقلص البسط في نسبة الدين العام القديم إلى الناتج الإجمالي في العام التالي، والذي يحسب الآن بأسعار جارية أعلى (على افتراض أن الدين العام القديم بقي ثابتاً، ولم يضف إليه دينٌ عامٌ جديد).
ب – ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي. ويشار إلى أن الناتج المحلي الإجمالي تقلص عالمياً أكثر من 3% عام 2020، وهذا جعل نسبة البسط إلى المقام أعلى، وأن الناتج الإجمالي عالمياً ارتفع أكثر من 6% عام 2021، وأكثر من 3% عام 2022، وهذا أسهم في زيادة المقام في نسبة الدين العام إلى الناتج الإجمالي.
تتقلص حالياً معدلات نمو الاقتصاد العالمي، ولا سيما غربياً، كما أن رفع معدلات الفائدة يزيد عبء الديون أقساطاً وفوائد، فيرتفع الدين العام من جراء ذلك، في حين يتقلص معدل التضخم، ويُرفع سقف الدين العام الأمريكي، أكبر دين عام في العالم، وفي التاريخ. لذلك، تعود نسبة الدين العام إلى الناتج الإجمالي عالمياً إلى الارتفاع، مرخيةً ثقلها على الاقتصاد الدولي.
علامات فارقة في أزمة الديون دولياً
تشير إحصاءات صندوق النقد الدولي إلى أن نسبة الدين العام إلى الناتج الإجمالي بلغت 112.4% في “الاقتصادات المتقدمة”، أي في الغرب الجماعي، في حين بلغت 67.5% في “الاقتصادات النامية والأسواق الناشئة”، أي في بقية العالم. هذا يعني أن مشكلة الديون العالمية هي مشكلة غربية في الأعم الأغلب، بالقيمة المطلقة، وبالتالي، كنسبة من المجموع العالمي للديون العامة.
وبحسب تقرير الأمم المتحدة المذكور أعلاه، والمستند إلى أرقام عام 2022، ينحدر هرم الديون العامة في “الاقتصادات المتقدمة” بحسب التسلسل التالي: الولايات المتحدة الأمريكية، 31 ترليون دولار؛ بريطانيا، 3.152 ترليون دولار؛ فرنسا، 3.092 ترليون دولار؛ أيطاليا، 2.911 ترليون دولار؛ ألمانيا، 2.711 ترليون دولار؛ إسبانيا، 1.568؛ اليابان، 1.1 ترليون دولار؛ أستراليا، 0.947 ترليون دولار.
ويقول التقرير ذاته إن 70% من الدين العام عالمياً سحبته حكومات الغرب الجماعي. أما الباقي، فيتسلسل أهمه كما يلي: الصين، نحو 14 ترليون دولار؛ الهند، 2.815 ترليون دولار؛ البرازيل، 1.653 ترليون دولار؛ المكسيك، 0.792 ترليون دولار.
لكن المشكلة، بحسب التقرير ذاته، هي أن:
أ – الدين العام أسرع نمواً في الدول النامية منه في الاقتصادات المتقدمة.
ب – الدول النامية أكثر عرضةً للصدمات الخارجية لأن ديونها مسحوبة بعملات صعبة.
ج – نسبة متزايدة من ديون الدول النامية تأتي من المؤسسات المالية والمصرفية الدولية الخاصة، أي بفوائد أعلى وشروطٍ أصعب.
على سبيل المثال، أصدرت ألمانيا سنداتها الخارجية في السنة المالية 2022-2023 بعائدٍ مقداره 1.5%، والولايات المتحدة الأمريكية بعائدٍ مقداره 3.1%، في حين أن متوسط العائد على سندات البلدان الآسيوية 6.5%، ومتوسط العائد على سندات بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية 7.7%، ومتوسط العائد على البلدان الإفريقية 11.6%.
هذا يعني أن حكومات البلدان الواقعة خارج إطار الغرب الجماعي تدفع نسبة أكبر من عائداتها على فوائد الديون، مقارنةً مع حكومات بلدان “الاقتصادات المتقدمة”، وأن كثيراً منها يدفع نسبة أكبر من عائداته على تلك الفوائد مما يدفع على التعليم والصحة والاستثمار العام.
على الرغم من ذلك، نجد أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، مع نهاية عام 2022، أعلى في الغرب الجماعي منها في بقية العالم، بناءً على إحصاءات موقع Trading Economics، بحسب التسلسل التالي: اليابان، نحو 264%؛ اليونان، 171.3%؛ سنغافورة، 168%؛ إيطاليا، 144.7%؛ الولايات المتحدة الأمريكية، 129%؛ البرتغال، نحو 114%؛ إسبانيا، 113.2%؛ كندا، 112.8%؛ فرنسا، 111.6%؛ بلجيكا، 105.1%؛ بريطانيا، 100%؛ منطقة اليورو، 91.5%؛ ألمانيا، 66.3%.
لكن نلاحظ أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في دول “بريكس”، مع نهاية عام 2022، بحسب الموقع ذاته، جاءت كما يلي: الهند، نحو 90%؛ الصين، نحو 77%؛ البرازيل، نحو 73%؛ جنوب إفريقيا، 67.4%؛ روسيا، 17.2%، وهي معدلات أدنى بكثير من مثيلتها في الغرب الجماعي بصورةٍ عامة.
نجد، في المقابل، مجموعة دول في الجنوب والشرق ترتفع فيها نسبة الدين العام إلى ناتجها المحلي الإجمالي في الفترة ذاتها، لأسبابٍ واضحة أو غير واضحة، ومنها: فنزويلا، 241%؛ لبنان، 150.6%؛ زامبيا، 123%؛ البحرين، نحو 120%؛ كوبا، 117%؛ الموزامبيق، 101%؛ الكونغو، نحو 100%.
العبرة أن ديناً أصغر في اقتصادٍ أصغر، مقوماً بالعملة الصعبة، وفوائده أعلى، يظل عبء خدمته أكبر، أقساطاً وفوائد، من دينٍ أكبر في اقتصادٍ أكبر، مسحوبٍ بالعملة المحلية، ولا يرتبط بشروطٍ تصحيحٍ هيكليٍ ذات أثرٍ انكماشيٍ اقتصادياً.
فهل يعني ذلك أن نخب الغرب الجماعي تستطيع أن تستمر إلى ما لا نهاية في الانفاق بالدين، وفي تجاوز أزماتها البنيوية عن طريق مراكمة الديون، وفي تصدير أزماتها إلى المستقبل؟
سنجد، بالنسبة إلى مؤشر قوة الدولار الأمريكي مقابل سلة من العملات الرئيسية مثلاً، أن توقعات تآكل معدلات النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة (أي نمو الناتج أقل من الدين العام)، وانهيار عدد من البنوك الكبيرة (وبالتالي الثقة بالنظام المصرفي)، وانفلات الانفاق العام من عقاله (أي تراكم الدين العام)، بدأ ينال مؤخراً من الثقة بالدولار (أنظر موقع CNN مثلاً، تحت عنوان “لماذا يفقد الدولار بريقه؟”، في 28/7/2023).
لكنّ الجواب على هذا السؤال، يعتمد إلى حدٍ بعيد أيضاً على قدرة الولايات المتحدة على:
أ – تفعيل معدلات نموها اقتصادياً بما يتيح لها أن تغطي خدمة ديونها المتراكمة، ويتطلب ذلك بدوره أن تحافظ على سيطرتها على القمم العليا للاقتصاد الدولي مواردَ وأسواقاً وتكنولوجيا.
ب – تعطيل معدلات النمو الاقتصادي للدول والحركات المستقلة، وافتعال أزمات تشلها أو تعيقها، لأن إطاحة الهيمنة الغربية لا تنتج تلقائياً من عدم قدرة القوة المهيمنة على الاستمرار في الحكم كعادتها، أي من الظرف الموضوعي فحسب، بل من نشوء قوى بديلة تستطيع الاستفادة من تأزم الغرب الجماعي لإطاحة هيمنته.
مسألة الديون العامة مقابل الخاصة في مقارنة بين الولايات المتحدة والصين
من يطلع على الصحافة الاقتصادية الغربية سيجدها حافلةً بالتقارير عن “أزمة الديون في الصين”، و”أثر الانفجار المحتمل لتلك الأزمة على الاقتصاد الدولي”، و”خطورة فقاعة الديون العقارية الصينية”، و”القلق من تزايد الديون غير الموثقة لدى المصارف أو الجهات الرسمية في القطاع الخاص الصيني”، إلخ…
وعلى الرغم من أن معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني تظل أعلى بما لا يقاس من معدلات نمو الناتج الإجمالي في الغرب الجماعي، ومن أن نسب الدين العام من الناتج الإجمالي صينياً تظل أقل منها في الغرب الجماعي، ومن أن التقارير الرسمية للمؤسسات الدولية لا تحاول تصدير الانطباع ذاته إعلامياً بأن “الاقتصاد الصيني على وشك الانفجار من جراء أزمة ديونه المزعومة”، فإن الحكمة تقتضي تحري خلفيات مثل ذلك الطرح بموضوعية، لأن إنشاء نظام عالمي تعددي بديل يعتمد على صلابة الصين اقتصادياً، بمقدار اعتماده على صلابة روسيا عسكرياً وسياسياً، وعلى نشوء وعي وجبهة مناهضة للإمبريالية عالمياً.
لقد وجدت بعد تفحص المعطيات الصينية، ومقارنتها بغيرها، ما يلي:
أ – أن ديون القطاع الخاص الصيني كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي الصيني تعد من المعدلات المرتفعة عالمياً، إذ بلغت 185% في عام 2022، بحسب موقع البنك الدولي، في حين أن المتوسط العالمي هو 145%.
ب – أن ديون القطاع الخاص الأمريكي بلغت 216.3% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، بحسب المرجع ذاته للفترة ذاتها.
يضيف موقع Trading Economics إن ديون القطاع الخاص كنسبة من الناتج الإجمالي لبعض أهم اقتصادات العالم، في نهاية عام 2022، جاءت كما يلي: أستراليا، 179%؛ كندا، 270%؛ فرنسا، 279%؛ ألمانيا، 182%؛ اليابان، 243%؛ إيطاليا، 166%؛ كوريا الجنوبية، 282%؛ إسبانيا، 206%؛ السويد، 309%؛ سويسرا، 274%؛ تركيا، 184%؛ النرويج، 239%؛ هولندا، 259%؛ بريطانيا، 194%.
لا شك إذاً في أن ديون القطاع الخاص الصيني كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تعد من أعلى النسب عالمياً، لكنها ليست في الصف الأول على صعيد نسب ديون القطاع الخاص إلى الناتج المحلي الإجمالي.
فلو جمعنا الدينين العام والخاص لكل العالم، سنجد أنهما أصبحا معاً 305 ترليون دولار، أي أقل بقليل من 3 أضعاف الناتج الإجمالي عالمياً، وهذا يفاقم من مشكلة الديون العالمية بالضرورة.
فلو جمعنا نسبة الدينين العام والخاص كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة إلى أهم 12 اقتصاداً عالمياً سنجدها كما يلي: اليابان، نحو 507%؛ فرنسا، 390.6%؛ كندا، 382.8%؛ الولايات المتحدة، 345.3%؛ إيطاليا، 310.7%؛ بريطانيا، 294%؛ الصين، 262%؛ ألمانيا، 248.3%؛ أستراليا، 234.7%؛ الهند، 142%؛ البرازيل، 107.6%؛ روسيا، 70%.
وإذ زعمت “بلومبيرغ”، في 8/5/2023، أن مجموع الدين الصيني العام والخاص ارتفع إلى نحو 280% من الناتج المحلي الإجمالي، كأن تلك نهاية الصين، فإنها لم تتوقف عند مجاميع أكبر بكثير للدين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، مروراً بالولايات المتحدة، أليس كذلك؟
ولو شئنا التوقف هنا، لحق القول إن الميزان يميل بصورةٍ عامة مع دول “بريكس”. لكنّ التوقف هنا سيحرمنا من النظر إلى طبيعة دين القطاع الخاص الصيني، مقارنةً بطبيعة دين القطاع الخاص الأمريكي.
ينقسم دين القطاع الخاص الأمريكي إلى نصفين تقريباً: نصفٌ للقطاع المنزلي، ونصف آخر لقطاع الأعمال. ويتكون دين القطاع المنزلي من قروض عقارية، وقروض طلابية، وقروض سيارات، وقروض بطاقات ائتمان، وغيرها من القروض الاستهلاكية. أما قروض قطاع الأعمال فيذهب أربعة أخماسها لأغراض مالية، لا إنتاجية، مثل الاستحواذ على شركات أخرى واستعادة الإدارة للأسهم المتداولة لشركاتها في السوق لتعزيز سيطرتها، بحسب مادة منشورة في موقع الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك في 29/5/2019، بعنوان “هل ديون قطاع الأعمال أكبر مما يجب؟”.
أما دين القطاع الخاص الصيني، فيذهب أقل من ثلثه فحسب إلى القطاع المنزلي، ويذهب ثلثاه إلى قطاع الأعمال. وما يجري تجاوزه هنا هو أن معظم الدين الخاص الصيني يذهب للاستثمار في رأس المال المادي، لا في الاستهلاك أو في الاستحواذ على الأصول المالية. إن هذا مهم لأن الاقتراض من أجل الاستثمار ليس كالاقتراض من أجل الاستهلاك أو تغطية النفقات الجارية للدولة، فالاستثمار المادي يزيد الطاقة الإنتاجية ويزيد، بالتالي، الناتج المحلي الإجمالي، أي أنه يقلل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي استراتيجياً.
يشبه الفرق من يقترض كي يؤسس منشأة إنتاجية، ومن يقترض كي يذهب في رحلة سياحية، ففي الحالة الأولى سوف يزداد دينه، نعم، لكنْ سوف يزداد دخله أيضاً. وإذا حسبها جيداً، فإن دخله سيزداد أكثر من دينه على المدى البعيد. أما في الحالة الثانية، فإن الدين وحده هو الذي سيزداد، وهذا هو الفرق الجوهري بين ديون الصين وديون الغرب الجماعي.
إن مشكلة الديون العقارية الصينية تنبع من توسع الشركات العقارية استثمارياً أكثر مما يحتمل الطلب الذي تباطأ نموه مع تباطؤ الاقتصاد نسبياً. ولا تأخذوا الكلام من مصدر صيني. خذوه من “نيويورك تايمز”، في تقريرٍ لها في 8/7/2023، بعنوان “لماذا لدى الصين كومة عملاقة من الديون؟”، يقول، فيما يقوله: “بدأ الأمر بالعقارات التي تعاني من الإفراط في البناء، وانخفاض الأسعار، والمشترين المحتملين الذين يواجهون صعوبات”، أي أنها مشكلة فائض إنتاج، ما كانت ستكون مشكلة كبيرة لو تحسنت حالة الاقتصاد عالمياً بما يرفع القوة الشرائية للمستهلك الصيني، الذي يعتمد على اقتصاد مصدِّر، الأمر الذي يعتمد بدوره على مستوى معيشة المستهلك الأجنبي.
نظرياً، تستطيع الولايات المتحدة غداً صباحاً أن تطبع قيمة دينها العام كاملاً، وأن تسدده حتى آخر سنت، لكن ذلك سوف يؤدي إلى انهيارٍ عامٍ في قيمة الدولار الأمريكي. كما أنها تستطيع أن تفرض ضرائب قاسية ترفع بها عائداتها العامة، لكن ذلك سوف يخنق الاقتصاد خنقاً. كما تستطيع أن تفرض رسوماً جمركية تمسح الواردات مسحاً وتنهي عجز الميزان التجاري، لكن ذلك سيرفع أسعارها إلى درجة تمسح معها المستهلك الأمريكي وتعيده إلى مرحلة “المستوطنين الأوائل”، لأن الولايات المتحدة دولة مستوردة تستغل قوة الدولار كي تعيش على حساب بقية العالم.
كل الخيارات صعبةٌ إذاً أمام الولايات المتحدة الأمريكية، أما الصين فدولة مصدرة، من مصلحتها أن تنخفض قيمة اليوان كي تصبح المنتجات الصينية أرخص في الخارج، ولتحفيز اقتصادها داخلياً. وقد قامت مؤخراً بتخفيض معدل الفائدة على الإيداعات باليوان، في حين تنخفض قيمته أمام الدولار الأمريكي، الأمر الذي يرشحه للمزيد من الانخفاض، ويزيد من الفائض التجاري الصيني، ومعه الناتج المحلي الإجمالي.