منطقتنا بين الدول المعتلة. . .والكيانات المنغولية!!
بعض الاخوة والأصدقاء اللبنانيين، انزعجوا من توصيفي الكيان اللبناني بأنه “كيان منغولي”.
ومع تأكيدي انني أحب لبنان مثلهم، انا أتفهم بأن ما من أحد في العالم يسره أن يسمع مثل هذا التوصيف عن بلده، والأمر الطبيعي أن كل إنسان يتمنى أن يكون بلده يمتلك كل مقومات الدولة الطبيعية والقوية، وامكانية توفير سبل العيش الكريم لأبنائه، ولكن هل الامنيات تغير من الواقع شيء؟
انا أستطيع ان اجزم ان السبب الحقيقي الكامن وراء “زعل” الاخوة اللبنانيين من التوصيف ليس لأنه كما وصفته، وإنما لأن لبنان هو كذلك بالفعل، وهذا يشبه حزن وزعل الام التي تنجب ولدا “منغوليا” لكن هذا لا يلغي أنها أنجبته، وهذا يدفعها (كمشاعر الأخوة اللبنانيين) لأن تعطيه كل حنانها، وربما تزيد في تدليله، والعناية به عن اخوته لأنه كذلك.
وبعيداً عن العواطف، وبنظرة واقعية نتساءل، هل لبنان دولة متكاملة الأركان؟.. أم هو مجرد كيان أقيم لدور وظيفي، ولتحقيق هدفين أساسيين، الأول لإيجاد المبرر لإقامة الك.يا.ن الصه.يو.ني ككيان عنصري ديني، والثاني وهو الأهم لتمزيق الدولة الأم، وهي سورية، لأن معادلة الصراع في المنطقة محكومة بمعادلة تقول “بلاد الشام لا تتسع لسورية وإسرائيل، فإما أن تموت سورية لتحيا إسرائيل، أو تموت إسرائيل، وتحيا سورية” وحتى تكتمل هذه المعادلة لا بد من تمزيق سورية وإضعافها (حتى الموت) فاقتطعت منها كيانات لبنان والأردن، إضافة إلى فلسطين طبعاً، وقبلها مناطق الشمال في ديار بكر وعينتاب وماردين وأورفا، ثم لواء اسكندرون، ولاحقاً الجولان.
وحتى لا يستمر زعل الأخوة اللبنانيين اقول.. ان كل دولنا في المشرق العربي اليوم هي إما “دول معتلة” بسبب التمزيق مثل سورية والعراق والسعودية واليمن أو “كيانات منغولية” اقتطعت من الجسد الأصل، مثل لبنان والأردن وفلسطين المحتلة والكويت وقطر والإمارات والبحرين وغيرها، وأعتقد أننا سنبقى كذلك حتى تتوفر الظروف الموضوعية والإرادة، لمعالجة هذا الخلل المستحكم في دولنا وكياناتنا، والسؤال الآن هل هناك من فرصة لمعالجة هذا الخلل؟.
ربما بعض (أو الكثير) ممن ينظرون إلى الأمور من خلال نظرة ضيقة، أو من خلال الظاهر فقط من الصورة، يقولون إن معالجة هذا الخلل، كحلم إبليس في الجنة، ولكن ماهذا تقرأ التطورات وانما منها خلال تلمس مسارات الأحداث، واتجاهاتها، وإلى أين يمكن أن تصل، وقراءتي ورؤيتي، تؤكد أن التغيرات والتطورات الجيوسياسية المتسارعة، في توازنات القوى والقوة في المنطقة والعالم، يجعل مسار الأحداث يسير في اتجاه تصحيح هذه الأوضاع، لسبب بسيط، يتعلق بقوانين الحياة والصراعات، والتي تقول إن تغير الأسباب، يؤدي إلى تغير النتائج، ومن كان سبباً فيما نحن فيه اليوم، تتراجع هيمنته، وقريبا سيكون في وضع من يحتاج لإنقاذه.
بالتأكيد التغيرات والتحولات الكبرى في الخرائط الجيوسياسية، لا تتم من فراغ، ولا تأتي بالأحلام والدعاء، وإنما من خلال صراع إرادات، ومعارك، وحروب، وحشد قوى، يتقرر في نهاياتها من يخسر ومن يربح المعركة، ومن يحدد مسارات الأمور ونهاياتها، وما ينتج عنها.
وفي حالتنا في المشرق العربي والمنطقة عموما، لم يعد خافياً أن معادلة سايكس بيكو حكمتنا لقرن من الزمن، ونتج عنها تمزيق المشرق العربي عموماً وسورية خاصة، وإقامة الك.يا.ن الصه.يو.ني، وأصبحت كل صراعات المنطقة ومقدراتها مرهونة لهذا الوضع، وعندما وصلت معادلة ساكس بيكو إلى نهاياتها، وبدأت مسارات الأمور تتغير، مع انهيار الاتحاد السوفييتي، والاستفراد الأمريكي في العالم، وبروز اليمين الأمريكي المحافظ والليبرالية الجديدة، حاولت القوى الجديدة وراثة سايكس بيكو، وفق معطيات ومعادلات جديدة، وهنا جاء مشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي كان يستهدف إعادة تركيب المنطقة، وتقسيمها على أسس عرقية وطائفية، تؤمن استمرار نسغ الحياة للك.يا.ن الصه.يو.ني، والمنظومة الرأسمالية العالمية، بشكلها الجديد (الليبرالية الجديدة) لكن مساراً آخر كان قد بدأ بالظهور والتبلور، وهو حلف المقا.و.مة وإيران، وعودة نهضة روسيا، وظهور الصين، كمنافس حقيقي يهدد الهيمنة الأمريكية، على السياسات والاقتصاديات العالمية.
ما ميز هذا الصراع، أن المنظومة الغربية كانت تعاني من أمراض في عمق بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فيما القوى الجديدة الصاعدة، ظهرت كقوى تمتلك وتراكم دوافع وعوامل القوة والاستمرار، مما مكنها من مواجهة مشروع الشرق الأوسط الجديد، وكسره في الميدان السوري، ومن هذا الانكسار بدأ مسار إقليمي وعالمي جديد، نراه يتشكل بشكل متسارع أمام أعيننا ونحن اليوم شهود عليه، حيث نرى تراجع للمنظومة الرأسمالية، ونهوض المنظومة المشرقية (الصين روسيا إيران) ومراكمة أطراف حلف المقا.و.مة انتصارات وعوامل قوة بدأت تفرض منطقها، وهذا سيترتب عليه تغيرات جيوسياسية جذرية في خريطة المنطقة، أساسها نجاة سورية من حربين عالميتين للإجهاز على ما تبقى منها.
الأولى: بعد غزو العراق وشروط كولن بأول، ثم مقتل رفيق الحريري لتلبيس سورية الحريمة، واتخاذها حسر عبور لإسقاطها، وتأكيد هذا الفشل مع انتصار المقا.و.مة اللبنانية وسورية عام 2006، وكان ذلك اول معالم انهيار مخطط الشرق الأوسط الجديد، الذي أعلنت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس من قلب بيروت، وعلى وقع العد.وا.ن الإسرائيلي بقولها “ما يجري هو آلام المخاض لولادة الشرق الأوسط الجديد”.
والثانية: حرب محاولة إلغاءها (خدمة لقاعدة الصراع مع الك.يا.ن الإسرائيلي) التي حدثت مع عدوان 2011 لكن فشل هذه المحاولة أصبح مؤكدا،ً وترتب عليه كل ما نراه من التحولات الجيوسياسية العميقة التي نراها اليوم في عموم المنطقة.
ولولا هذه التحولات لكنا رأينا الكيانات الوظيفية “المنغولية” وهي تكمل دورها، وكنا رأينا سمير جعجع وجماعة 14 آذار، وملك الأردن، ومحود عباس وسلطته، ومعهم عصا.با.ت الأ.خو.ا.ن وتفرعاتها، وقد تحولوا إلى ضباع لقتل كل خلية مقا.و.مة في كامل المنطقة، وللفتك بكل خلية من خلايا نسغ الحياة في سورية حتى موتها، بهدف تحقيق الشرط الأكيد لتحيا إسرائيل، ولكانت جيوشنا وقد تحولت إلى مجرد حرس حدود لدولة الكيان (العظمى)، ولأصبح نتنياهو هو من يعين الرؤساء والحكومات وحتى المخاتير في كل جوارها، وما بعده الى كل ما تراه يدخل ضمن محيطها الحيوي.
أما وقد “نجت” سورية، وحمت كامل المنطقة، مما كان يخطط لها، فإن القانون الطبيعي يؤكد، أن مسار الأحداث سيسير بشكل مختلف، وهذا ما جعل المنطقة تقف اليوم أمام تطورات فرضت نفسها على مسارات الأحداث، وحيث تتوجه المنطقة:
الأولى: المنطقة أصبحت مهيأة لمعركة كسر عظم مع العد.و الصه.يو.ني، ومن يتابع إعلام الكيان، وقراءات محلليه السياسيين والعسكريين، نرى أنهم أكثر من يستشعرون الخطر، ويتحدثون عن هذا الموضوع، ويتوقعون هذه المصير ويحذرون منه.
الثانية: وجود قرار عند أطراف حلف المقا.و.مة، ومن خلفها روسيا والصين، بإخراج الأمريكيين من كامل منطقة غرب آسيا، لارتباطه بأبعد من صرعات المنطقة، ليصل إلى الصراع الدائر لتحديد موازين القوى والقوة، بين المنظومة الأمريكية المتراجعة، والمنظومة المشرقية الصاعدة، والأمريكيون يدركون ذلك.
الثالثة: ما يجري في السعودية من تحولات عميقة، تصل حد الثورة، التي يقوم بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وسواء أحببنا هذا الرجل أم لم نحبه، لكننا لا نستطيع إلا الاعتراف بأن ما يقوم به فيه قراءة معمقة لهذه التحولات، وفي الاتجاه الصحيح، وفيه انقاذ للسعودية كنظام ودولة، فيما لو قيض لإصلاحات ابن سلمان بالوصول إلى أهدافها.
الرابعة: فشل العدوان على اليمن، حيث ثبت اليمنيون طريق نهوض بلدهم، وتحرره من الهيمنة السعودية، ومحاولات تقسيمه، وتحوله إلى قوة إقليمية، لا يمكن لأحد تجاهلها.
أعتقد من السهل جداً الاستنتاج أن هذه المقدمات، والتحولات الكبرى، سينتج عنها تغيرات دراماتيكية غير مسبوقة ستشهدها المنطقة، تعيد ترميم ما خربته سايكس بيكو، والمشروع الصه.يو.ني، وسيكون اللقاء السوري السعودي الرافعة لهذه التحولات، خاصة بعد تأكد السعودية باستحالة تحولها إلى قوة إقليمية، بدون التشبيك مع سورية، والخروج من تحت الوصاية الامريكية، وستكون نتيجتها تعافي الدول الرئيسية الأربع، وهي سورية والعراق والسعودية واليمن، وانهيار الكيانات الوظيفية وتلاشيها، مع انتهاء مهمتها، ومبررات وجودها، وهي لبنان الكويت وقطر والبحرين وحتى الإمارات، وحينها سنكون أمام مشرق عربي جديد.
قولوا عني أنني أحلم…
لكن الأيام بيننا..
وهي الأيام نداورها دول … من سره زمان ساءته ازمان..
وأن غدا لناظره قريب.
أحمد رفعت يوسف