مقالات

فائض الإرادة والكرامة مقابل فائض القوة والتضليل..


د. حسن أحمد حسن(*)
المقال الدوري المنشور بتاريخ الأمس 13/6/2023م. على موقع العهد الإخباري..
https://www.alahednews.com.lb/article.php?id=55060&cid=121
لا يختلف عاقلان على أن الولايات المتحدة الأمريكية جبروت عسكري واقتصادي، ولديها من أسلحة القتل والتدمير والإبادة ما يكفي لإفناء البشرية أكثر من مرة. ولا يختلف مسؤولان أمريكيان على أن ترسانات الأسلحة الأمريكية بما فيها المخصصة لإبادة الجنس البشري لم تعد تخيف من يرفض الإذعان للعربدة الأمريكية التي كانت منفلتة من كل عقال. وللتخفيف من حدة تلاشي الخوف من البطش الأمريكي تصر الإدارات المتعاقبة جمهورية كانت أم ديمقراطية على الأخذ بنصيحة ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر المتضمنة أن تبقى الكف الأمريكية ممسكة بخيوط اللعبة في جميع أماكن التوتر في العالم لضمان تحريكها وفق مشيئة واشنطن وبالاتجاه الذي تريده، والتحكم بوتائر شدة التداعيات وفق مستويات يحددها بشكل مسبق مطبخ السياسة الأمريكية عبر ما لديه من أدوات مالية واقتصادية وعسكرية ودبلوماسية تكفل بقاء مقود القطار الكوني بيد أمريكية وعلى السكة التي أقامتها واشنطن بعظام الإنسانية وبقايا أجساد الضحايا ممن قضوا جراء العدوانية الأمريكية المباشرة منها وغير المباشرة بالاعتماد على أصحاب الأدوار الوظيفية، مع إمكانية التخلي عنهم وكأن شيئاً لم يكن بعد انتهاء مدة صلاحية الاستخدام، والغريب أن هذا المبدأ معتمد ومطبق على جميع من يشملهم أفراداً كانوا أم مؤسسات أم دولاً أم تكتلات دولية.
يتناسى المسؤولون الأمريكيون أن إحدى إداراتهم السابقة أول من استخدمت القنابل الذرية التي ألقتها على هيروشيما وناغازكي لا لتحقيق نتيجة ميدانية مباشرة لأن الحرب كانت قد وضعت أوزارها الكبرى، بل لتكون أول مرة تستخدم فيها واشنطن مبدأ “الحرب الاستباقية” ليس ضد اليابان، بل ضد الاتحاد السوفييتي ومن معه ممن كان لهم الفضل الأكبر في القضاء على النازية، وكذلك ضد أوروبا المصطفة مع أمريكا لضمان استمرارية تقديم فروض الطاعة العمياء لليانكي الأمريكي المتعامي عن الترسانة النووية الإسرائيلية المكدسة منذ عقود، مع استمرار رفض “تل أبيب” الانضمام إلى منظمة حظر انتشار الأسلحة النووية، في حين يمزق ترامب الاتفاق النووي الإيراني الذي وقعته إدارة أوباما بغض النظر عن التزام طهران بكل تعهداتها، وتعاونها التام مع جميع مفتشي الوكالة الدولة للطاقة الذرية، ومع ذلك يناور الأمريكي ويداور ويسوف ويماطل ويحاصر ويهدد ويتوعد ويرعد ويزبد مع يقينه بأن كل أراجيفه المذكورة وغيرها لن تثني إيران الثورة الإسلامية عن تمسكها بحقوقها المشروعة في الحصول على تقانة الطاقة النووية لأغراض سلمية، وها هي قد حققت خطوات متقدمة جداً في هذا الميدان وغيره رغم أنف واشنطن و”تل أبيب”.
تصاب الذاكرة الأمريكية بالخرف عندما يتعلق الأمر بافتضاح الكذبة الكبرى التي سوقوها لاجتياح العراق كمقدمة لإحكام السيطرة على هذه المنطقة الجيوستراتيجية من العالم، ومتابعة عربداتهم ـ لو تمكنوا ـ أكثر فأكثر لتطويق إيران والتقرب من الحدود الروسية تمهيداً لخنقها، وعندما تيقنوا من انسداد الأفق على هذه الجبهة فتحوا جبهة أوكرانيا، وأوعزوا لولاتهم ومندوبيهم في بقية أقطاب حلف الناتو لتكريس كل الجهود لإغراق روسيا في المستنقع الأوكراني، ونصب جسر جوي وبري على مدار الساعة لدعم أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً، وها هم يتعثرون جميعاً على الرغم من كل ما ذكر. وواضح لكل من يريد أن يحتكم إلى العقل أن الإدارة الأمريكية حريصة على استمرار الحرب القائمة حتى آخر جندي أوكراني، بل حتى آخر موطن أوروبي أيضاً، وقد يكون إضعاف أوروبا ومنعها من إمكانية التفكير بشق عصا الطاعة الأمريكية أحد الأهداف الأساسية من إشعال جبهة أوكرانيا.
يصاب المسؤولون الأمريكيون على مختلف مستوياتهم بالزهايمر السياسي إذا كان الأمر له علاقة بحقوق مشروعة وصادرة بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي وغيره من المؤسسات التابعة للمنظمة الدولية، وجميعها تؤكد بطلان احتلال الكيان الإسرائيلي للأراضي العربية في فلسطين وسورية ولبنان، ويستنكرون على أبناء هذه الدول أن يطالبوا بحقوقهم المستلبة، أو يتمسكوا بما لديهم لضمان القدرة على الاستمرار في الحياة التي هي حق طبيعي مشروع ومكفول عالمياً إلا بعرف “الكاوبوي” الأمريكي الذي لا يتورع عن نشر أساطيله وبوارجه المدمرة وحاملات طائراته وجنوده في المياه الكونية في شتى أصقاع الكون، ويدعي بعد ذلك كله الحرص على حقوق الإنسان والديمقراطية، وما شابه ذلك من مصطلحات ممجوجة وبعيدة كل البعد عن الواقع، فذاك لا يعني مفاصل صنع القرار الأمريكي، طالما أن الرأي العام الداخلي الأمريكي منهمك بملذاته وترفه على حساب بقية شعوب العالم، وفي الوقت نفسه مغيَّب عن حقيقة ما يحدث وخلفياته داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها. ويبدو أن حكومة الظل التي تمسك بالقرار الأمريكي غير قلقة بهذا الشأن لأنها على يقين أن الإمبراطوريات الإعلامية التي تمتهن التضليل والكذب والافتراء وقلب الحقائق ما تزال قادرة على التحكم بطرائق التفكير العامة، وتغييب منطلقات الرؤية الواقعية الموضوعية عن الرأي العام الأمريكي والعالمي.
كل ما ذكر لم يشفع لأصحاب نظريات “الفوضى الخلاقة” و”الشرق الأوسط الجديد” بنسختيه القديمة والمعدلة التي أسموها “الشرق الأوسط الموسع” و”رقعة الشطرنج الكبرى” و”نهاية التاريخ” وغيرهم من مصاصي الدماء أمام محكمة التاريخ لأنها تستند إلى قوة الحق، لا إلى حق القوة. ولأن أنصار الحق وعشاقه لم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل حولوا التحديات الكبرى إلى فرص، وها هي إيران المحاصرة منذ فجر الثورة الإسلامية تحتل مراتب متقدمة في الصناعات العسكرية الثقيلة، وترد بهدوء ووضوح وثقة مطلقة بالله وبالنفس على التهديدات الإسرائيلية التي ما كان لها أن تظهر لولا الاطمئنان إلى الدعم الأمريكي والأطلسي وغيرهما، ومع ذلك تأتي الردود واضحة وضوح الشمس. فإيران اليوم قطعت أشواطاً بعيدة في التصنيع العسكري الحربي الثقيل، فمن التقدم بخطوات نوعية على طريق امتلاك التقانة النووية لأغراض سلمية، إلى الإعلان عن أفواج متتالية من الصواريخ التي طيَّرت النوم من أعين حكام “تل أبيب” ومستوطنيهم، ولن يكون آخر تلك الصواريخ ما أعلن عنه مثل صاروخ “خيبر4” الذي يبلغ مداه /2000كم/ ولا الصاروخ فرط الصوتي “فتاح” القادر على تحييد كل ما هو معروف حتى الآن من منظومات دفاع جوي: “باتريوت ـ حيتس ـ مقلاع داوود ـ القبة الحديدية و.. و..الخ”، فضلاً عن إمكانية التحليق حتى خارج الغلاف الجوي، ويدرك جنرالات واشنطن و”تل أبيب” أنه مضمون الوصول إلى أي هدف يتم تحميله، وبشعاع يصل حتى /1400كم/ أي أن كل الأهداف ضمن المديات المذكورة هي بحكم المُدَمَّرَة في أية مواجهة مفتوحة قادمة.
صورة أخرى تتكامل مع صورة دولة الاقتدار التي بلورتها طهران، وإن كان التكامل بأشكال متعددة، فجندي مصري واحد ـ الشهيد البطل محمد صلاح ـ استطاع أن يمسح عقوداً من التطبيع المذل مع كيان الاحتلال، وأثبت للعالم برمته أنه لا يمكن إسقاط جبهة سيناء من حسابات وحدة الساحات وتواصل الجبهات، وأن أصحاب الإرادة والكرامة يعرفون كيف يدافعون عن قناعتهم ومبادئهم ويحصنون إرادة الشعوب الحية التي ينتمون إليها. والأمر ذاته تكرر في تلال كفرشوبا اللبنانية التي أثبت فيها البطل إسماعيل ناصر أن تجذره بالأرض أقوى من جرافات الاحتلال وترسانة أسلحة الدمار الشامل المكدسة في مخازن ومستودعات صالحة لأن تتحول إلى مراكز انفجار تزيل كيان الاحتلال، فإحداثيات غالبية تلك المخازن ـ إن لم يكن جميعها ـ محملة رسمياً في بنك الأهداف، وأي صاروخ يصل إلى أي مخزن سلاح سيحول ما فيه إلى قذائف تنطلق في كل اتجاه، وما أكثر الصواريخ التي تصل بكل يقين إلى كل متر مربع فلسطين المحتلة.. وعلى الساحة السورية تكررت اللقطات التي تظهر تصدي مواطنين سوريين عزل للعربات الأمريكية ويلزمونها بالحجارة على التوقف والعودة من حيث أتت، وما ارتفاع الصراخ الأمريكي اليوم والحديث عن جهود تبذل لتنظيم مقاومة شعبية سورية ضد الوجود الاحتلالي الأمريكي وأعوانه إلا رأس قمة جبل الجليد، فـ “السوبرمان” الأمريكي القادر على القفز من بنية إلى أخرى وتحطيم كل ما يقف في طريقه ليس أكثر من وهم، وواقع افتراضي لا أكثر، ولا وجود لذاك “السوبرمان” إلا في استوديوهات هوليود المتآكلة هي الأخرى.
كل ما ذكر ما هو إلا غيض من فيض، وإذا أضفنا إليه الصعود الصيني اقتصاديا، والروسي عسكريا، وتجمع البريكس نقدياً، وإعادة التموضع السعودي والخليجي بترولياً ومالياً، وتنقية الأجواء العربية مقابل تراجع حمى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي إقليمياً، وتشظي الداخل الإسرائيلي وتعدد عوامل انقساماته، والخوف من الموت الذي يسيطر على جبهته الداخلية تصبح الصورة واضحة الدلالات، فالمشروع الصهيو ـ أمريكي لديه فائض قوة، وفائض إجرام، وفائض غطرسة، وفائض كذب وتضليل، وفائض أسلحة قتل وتدمير شامل وإبادة، لكنه عاجز عن تحمل تكلفة استخدام كل ذلك، ولدى محور المقاومة ومن يدعمه فائض كرامة، وفائض إرادة، وفائض وفاء لدماء الشهداء الأبرار، وفائض يقين بحتمية النصر القادم والناجز والحتمي إن شاء لله، وإن غداً لناظره قريب.

  • لواء متقاعد – باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى