الخطاب الأول للشيخ نعيم قاسم أمينًا عامًا لحزب الله.. إستراتيجيا التوقيت والمضمون
حيان نيوف
جاء انتخاب الشيخ نعيم قاسم واختياره أميناً عاماً لحزب الله خلفاً لسماحة السيد الشهيد حسن نصرالله (رض) بعد شهر من شغور هذا المنصب ليؤكد بأن الحزب قد أتمّ الهيكلية القيادية له بعد استشهاد العديد من قياداته على يد العدو الصهيوني الغادر في إطار المعركة الوجودية التي يخوضها حزب الله نيابة عن لبنان وعن الأمتين العربية والإسلامية في مواجهة المشروع الصهيو-أمريكي في المنطقة، وفي الوقت نفسه فإنه يمكن القول إن انتخاب أميناً عاماً جديداً للحزب بهذا التوقيت يشير إلى أن حزب الله ومجاهديه قد أصبحوا في وضع ميداني وسياسي مريح ومتقدم، واستعادوا زمام المبادرة في الميدان وفي السياسة أيضاً، وهو ما دلت عليه العديد من المواقف والتصريحات من العدو خاصة والتي شكلت اعترافاً بعجز الكيان وقادته وجيشه أمام الملحمة الأسطورية التي يسطرها مجاهدو الحزب على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة وفي عمق الكيان الصهيوني الغاصب.
لم يتأخر الشيخ نعيم قاسم في إطلالته على جمهور المقاومة في لبنان والمنطقة وإلقائه لخطابه الأول بعيد يومٍ من انتخابه خاصة وأن ظروف المعركة والصراع قد وصلت لمرحلة بالغة الأهمية يحتاج معها الحزب إلى وضع النقاط على الحروف تأكيدًا لنهجه المقاوم، وتبياناً لخيارات المواجهة وفق ما تقتضيه ظروف المرحلة القادمة.
وعلى نهج سلفه ورفيق دربه وقدوته سماحة الشهيد الأقدس السيد حسن نصرالله (رض) فقد جاء خطاب الشيخ نعيم قاسم جامعاً للحكمة والبأس في آنٍ معاً، ووجه رسائله في كافة الاتجاهات على الأصعدة الداخلية والإقليمية وحتى الدولية لتصل للصديق والعدو.
محاور الخطاب:
يمكن لنا نميّز أربعة محاور رئيسية تناولها الشيخ نعيم قاسم في خطابه وفق الآتي:
ـ المحور الأول؛ التأكيد على نهج الشهيد القائد سماحة السيد حسن نصر الله :
حيث أكد الشيخ قاسم استمرارية العمل وفق برنامج القائد السيد حسن نصر الله رضوان الله تعالى عليه في كل المجالات، السياسية والجهادية والاجتماعية والثقافية، وعلى استمرارية تنفيذ خطة الحرب التي وضعها سماحته مع قيادة المقاومة، والبقاء في مسار الحرب ضمن التوجهات السياسية المرسومة، والتعامل مع تطورات هذه المرحلة بمراحلها.
ـ المحور الثاني؛ مشروعية المقاومة وخياراتها بالمواجهة :
استفاض الشيخ نعيم قاسم في هذا المحور، مستعرضاً بالتفصيل العوامل والأسباب والموجبات الحتمية التي دفعت الحزب لاتخاذ قرار الدخول في معركة “طوفان الأقصى” سواء لجهة إسناد غزة وفلسطين أو لجهة حماية لبنان، أو لجهة إسقاط المشروع الصهيوني الخبيث والمبيّت، والذي كان يعد للمنطقة ككل، ويمكن لنا تتبع ما عرضه الشيخ قاسم بترتيب لتلك الموجبات والعوامل وفق الآتي:
* إن “مساندة غزة كانت واجبة لمواجهة خطر “إسرائيل” على المنطقة بأسرها من بوابة غزة”، وهذا يعكس إدراك الحزب المسبق للأهداف الخبيثة التي أرادتها “إسرائيل” ومن خلفها واشنطن من حرب الإبادة على غزة والمتمثلة بالسيطرة على المنطقة ككل انطلاقاً من تدمير وإبادة غزة وأهلها، بمعنى أن الحرب على غزة لم تكن إلا بداية.
* إن “مساندة غزة كانت واجبة لحقّ أهل غزة علينا وعلى الجميع أن ينصروهم”، وهنا أراد الشيخ نعيم التذكير بالواجب الأخلاقي والعروبي والديني الذي سارع الحزب لتلبيته في ظل تقاعس المتخاذلين.
* إن “إسرائيل لا تحتاج إلى استفزاز، والمقاومة وجدت لمواجهة الاحتلال المستمر منذ 75 عاماً ، وبهذا يعيد الشيخ قاسم توضيح ما يحاول بعض المناوئين للمقاومة التعمية عليه بأن أصل المشكلة في المنطقة متمثل باحتلال الكيان الصهيوني للأرض الفلسطينية، وهو السبب الموجب لوجود المقاومة بالأساس.
* إن “إسرائيل اعتدت على لبنان واحتلت جزءًا من أراضيه لأهداف توسعية قبل أن يكون حزب الله موجودًا، ولم تعُر وزنًا للقرارات الدولية التي طالبتها بالانسحاب”، وهنا يوجه سماحته خطابه لبعض من في الداخل اللبناني بأن وجود وتشكل المقاومة الإسلامية في لبنان لم يكن سوى نتيجة طبيعية للعجز لسنوات من الاحتلال “الإسرائيلي” للأراضي اللبنانية وفشل الخيارات السياسية التي تبنتها الأمم المتحدة.
* إن “المقاومة اللبنانية ممثلة بحزب الله وحركة أمل وأحزاب أخرى هي التي أخرجت الاحتلال “الإسرائيلي” وليست القرارات الأممية”، يؤكد الشيخ نعيم قاسم في كلامه على صوابية وفاعلية الخيار المقاوم الذي أثبت جدواه بتحرير الأرض عندما عجزت الأمم المتحدة عن إجبار “إسرائيل” على تنفيذ قراراتها بهذا الخصوص، في الوقت الذي كان ولا يزال بعض الداخل اللبناني يتشدق بخيار قوة لبنان في ضعفه وامتثاله للقرارات الدولية.
* “بعد عدوان تموز عام 2006 وصدور القرار 1701 استمرت “إسرائيل” في اعتداءاتها، ونفذت 39 ألف خرق جوي وبحري، وهذا يعني أن العدوان “الإسرائيلي” كان مستمرًا طوال 17 عامًا بعد صدور القرار 1701 ولم تفعل الأمم المتحدة شيئاً سوى إحصاء تلك الاعتداءات”، يريد هنا الأمين العام القول إن التزام الجانب اللبناني بالقرار الأممي 1701 ونشر الجيش في الجنوب وعلى الحدود لم يقابل بالمثل من “إسرائيل” التي لم توقف اعتداءاتها طوال تلك المدة، وهو ما استوجب قيام المقاومة بدورها وواجبها تجاه لبنان رداً على العدو.
* “منذ اليوم الرابع لطوفان الأقصى كان هناك نوايا أميركية إسرائيلية للاعتداء على لبنان عبرت عنها النقاشات التي جرت بين الجانبين بهذا الخصوص” ، وهنا ينتقل الشيخ نعيم للحديث عن العلم المسبق والمؤكد بنوايا العدو في العدوان على لبنان .
* “في داخل الكيان كانوا يستعدون لفكرة حرب مفاجئة في وقت معين، وكانوا يدرسون كل خطواتها بمعزل عن حصول طوفان الأقصى، وهذا الكلام كان قبل طوفان الأقصى”، وهنا يؤكد الشيخ قاسم على أن الكيان الصهيوني كان قد اتخذ القرارات ووضع الخطط للعدوان على لبنان قبل طوفان الأقصى، ولم تكن “إسرائيل” تخفي ذلك، بل إنها لطالما تبجحت بخططها المستقبلية.
* “بعد طوفان الأقصى وبدء العدوان على لبنان قال نتنياهو، إن ذلك يهدف لتغيير الشرق الأوسط، وقال أحد أعضاء حكومته إنه يريد أن ينشئ مستوطنات في داخل لبنان. واعتبر وزير حربه يوآف غالانت أن وجه الشرق الأوسط سيتغير من لبنان”..
يضع الشيخ نعيم قاسم في كلامه هذا الجميع أمام حقيقة المخطط الذي اضطر قادة الكيان الصهيوني للاعتراف به بعد انطلاق طوفان الأقصى والمتمثل بالتوسع على حساب الجغرافيا اللبنانية.
يختم الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم هذا المحور بالتأكيد على أن كل تلك المعطيات تعكس النوايا العدوانية “الإسرائيلية”، متسائلاً عن صوابية الخيار الذي اتخذه حزب الله : “هل كان يجب انتظارهم لكي ينجزوا مشروعهم بالتوقيت الذي يريدونه؟!”، وبالتالي فإن حجة عدم إعطاء العدو الذريعة للاعتداء على لبنان قد سقطت، وبأن قرار المواجهة الاستباقية بات حتمياً لإفقاد العدو عنصر المباغتة، وبأن الخيار الأسلم و الأفضل أن يكون عندنا مقاومة ذات هجوم دفاعي، “نحن اعتبرنا أنفسنا في إطار الدفاع الاستباقي والجهوزية، وهذا هو مسار الحماية والتحرير”.
ـ المحور الثالث ؛ المقاومة وصناعة المستقبل :
في هذا المحور أوضح الشيخ نعيم قاسم أن المواجهة التي تخوضها المقاومة في لبنان وغزة لا تتوقف على معركة جزئية محدودة الجغرافيا والهدف، بل هي مواجهة مع جبهة أميركية أوروبية “إسرائيلية” تستهدف القضاء على المقاومة من أجل بسط السيطرة على كامل المنطقة وإعادة صياغتها وفقاً للقيم الغربية اللا أخلاقية التي تستهدف الأجيال في منطقتنا، مؤكداً أن الوحشية والإجرام الممارس من قبل “إسرائيل” بغطاء وتبنٍّ أميركي، والذي تسبب بسقوط 43 ألف شهيد و100 ألف جريح معظمهم من الأطفال والنساء يأتي كله في إطار هذا المخطط الذي يستهدف الترهيب من أجل البقاء صامتين للتحكم بمسقبل المنطقة وأجيالها.
“هؤلاء الجماعة هم حثالة البشر بالتصرفات الشريرة التي يرتكبونها، وصمود المقاومة الأسطوري في غزة وفي لبنان، ملحمة العزّة، هي ستصنع مستقبل أجيالنا إن شاء الله تعالى.”
ـ المحور الرابع؛ استقلالية قرار المقاومة:
في هذا المحور ردّ الشيخ قاسم على حملة الكذب والتضليل التي يروج لها السياسيون ووسائل الإعلام الأميركية و”الإسرائيلية” والتابعون لهم والمتخاذلون معهم في المنطقة والداخل اللبناني، والذين يتهمون حزب الله ومشروعه المقاوم والتحريري بالتبعية لإيران وبتنفيذ أجندة إيرانية، مؤكداً وموضخاً أن مشروع حزب الله هو مشروع لبناني يستهدف تحرير الأرض اللبنانية بأيدي المقاومين اللبنانيين، وأنه يرحب بكل من يريد تقديم الدعم لهذا المشروع.
الشيخ قاسم أوضح أن التطابق في القناعات والإيمان مع إيران لا يعني مطلقاً أنها تريد شيئاً من المقاومة، وليست بحاجة لها، وأن دعمها للمقاومة لا يعني بالمطلق أنها تتدخل في قراراتها، ومؤكدًا على استقلالية القرار المقاوم بما يتوافق مع المصلحة اللبنانية بعيدًا عن بروباغندا التضليل المتعمدة والمفضوحة.
توقيت الخطاب
أولاً؛ جاء الخطاب في ظل الفشل “الإسرائيلي” على كامل الجبهات وخاصة الجبهة اللبنانية بعد انتقال حزب الله إلى مرحلة إيلام العدو في العمق وعلى الحدود وارتفاع خسائره العسكرية في العدة و العديد، بالإضافة إلى الخطر الذي يتهدده في الداخل بفعل العمليات النوعية التي تنفذها المقاومة اللبنانية والتي كادت أن تودي بحياة رئيس الوزراء نتنياهو، وكذلك في ظل التخبط العسكري والاستخباراتي “الإسرائيلي” مع استمرار الاستنزاف والانتقال إلى مرحلة الخطر الوجودي للكيان.
ثانياً؛ جاء الخطاب بعد الفشل الذريع والمدوي للعدوان “الإسرائيلي” على إيران، وانتقال زمام المبادرة ليد طهران التي بات ردها المتوقع والحتمي يشكل سيفاً مسلطاً على الكيان الذي يترقبه ويبحث عن الهروب منه.
ثالثاً؛ جاء الخطاب قبل أسبوع من الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تشهد تنافساً متقارباً بين المرشحين الديمقراطي والجمهوري، وفي ظل حاجة إدارة بايدن لتحقيق إنجاز شرق أوسطي يتمثل بوقف إطلاق النار ليكون رافعة للمرشحة الديمقراطية كاملا هاريس.
رابعاً؛ جاء الخطاب بعد أيام من زيارة وفد روسي إلى “تل أبيب” ناقلاً رسالة من بوتين لــ”نتنياهو” تتضمن ضرورة الموافقة على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في غزة، مع العلم أن الدخول الروسي على خط التفاوض فرضه الهجوم الصاروخي الإيراني على “إسرائيل” في مطلع الشهر الحالي، والذي أحدث زلزالاً جيوسياسيًا دفع بايدن للقول بعده بيومين بأنه على استعداد للقاء بوتين في قمة العشرين .
خامساً؛ جاء الخطاب قبيل وصول المبعوث الاميركي عاموس هوكشتاين إلى المنطقة بمهمة مستعجلة في محاولة للتوصل لوقف إطلاق النار، في ظل تفاؤل حذر تحدثت عنه مصادر وأطراف عدة .
سادساً ؛ جاء الخطاب عشية وصول مدير وكالة المخابرات الأمريكية للقاهرة في محاولة للتوصل لوقف إطلاق النار في غزة والحديث عن صفقة جديدة لتبادل الأسرى .
سابعاً؛ أتى الخطاب في ظل تراجع قادة الكيان الصهيوني المتسارع الأهداف التي وضعوها للحرب الوحشية، وخلال أيام فقط تراجعت أهداف نتنياهو في لبنان من تغيير الشرق الأوسط إلى سحق حـزب اللـه، إلى السيطرة على جنوب الليطاني، إلى إبعاد حـزب اللـه شمالاً إلى إعادة المستوطنين إلى الشمال، ثم إلى إنهاء العملية العسكرية خلال أسابيع، ثم أسبوعين، وأخيرًا خلال أسبوع .
في الختام، يتوجب على واشنطن و”تل أبيب” أن يقرؤوا جيدًا الخطاب الأول للأمين العام لحـزب اللـه الشيخ نعيم قاسم، قراءة حصيفة، وأن يعلموا أنه يمثل حداً فاصلاً بين مرحلتين.. وأن طبيعة المرحلة التالية متعلقة بالتنازلات التي ستقدمها “تل أبيب”، أو التي ستفرضها واشنطن على “إسرائيل”، وإلا فإن تلك المرحلة ستشكل “الكابوس” الأكبر على الكيان منذ نشأته.. ولعل رسالة المسيرات التسع التي أطلقها حزب الله والتي جابت أجواء شمال ووسط فلسطين المحتلة مساء أمس لمدة تجاوزت 70 دقيقة قبل أن تضرب أهدافها في ظل عجز عسكري “إسرائيلي” عن التصدي لها تشكل خير دليل على طبيعة ما ينتظر “إسرائيل” في حال ضيّعت فرصة التوصل لوقف إطلاق النار ورفضت الخضوع لشروط المقاومة .