مقالات

الصين وروسيا: دروس للماركسيين العرب

وليد عبد الحي

ما الذي يجمع نيكولاي كوندراتيف (1921) ويوهان غالتنغ (1980) وأندريه امالريك (1976) وايمانويل تود (1976) ورافي باترا (1978) وهيلين كارير دونكوس (1978)؟ انه التنبؤ بانهيار الاتحاد السوفييتي. ولكن لماذا غابت التحولات العميقة في الصين بعد موت ماوتسي تونغ عن هؤلاء رغم ان التحول في الصين (بل والصراع على السلطة بين دينغ هيساو بنغ وعصابة الاربعة كما تُسمى) سبق انهيار الاتحاد السوفييتي بحوالي 12 عاما؟ من العسير حقيقة الزعم بأن النظام السياسي الاقتصادي الصيني حاليا هو نظام اشتراكي بخصائصه التقليدية، فالقطاع الخاص يصل حاليا الى حوالي نسبة ال 40% من حجم الاقتصاد الصيني (منها 33% خاص تماما و 11% مشترك حكومي مع خاص)، ولا تعد الصين ضمن الدول الاكثر عدلا في توزيع الثروة طبقا لمقياس غيني (Gini Index). لكن الملفت للنظر هو ليس تواري النموذج الماركسي في البلدين فقط، وإنْ كان تواريه في الصين يتم بقدر أقل من الضجيج السوفييتي، بل – الملفت – هو التحول في الادبيات السياسية فيهما. فجعلُ البنية الفوقية هي “اساس” التحول لا “البنية التحتية” كما طرحتها الماركسية التقليدية امر ملفت للنظر؛ فرغم التطور التكنولوجي والانتقال نحو المجتمع الصناعي والوقوف على عتبة المجتمع ما بعد الصناعي في البلدين، فان العودة “لمنظومة القيم الثقافية التاريخية” في كل من المجتمعين تسيطر بشكل جلي تماما في ادبيات البلدين.

والدعوة المحمومة من الكسندر دوغين (او من يسميه الغربيون عقل بوتين) للعودة للقيم الأرثوذكسية والعائلة والنظرة القومية وبناء التحالفات على اساس “الشرق/غرب”، ليست منفصلة عن إحياء محموم مقابل في الصين للتراث الكونفوشي والذي يتجلى في العمل المثابر على نشر هذا التراث عالميا ليصل حاليا الى أكثر من 500 مركز ثقافي كونفوشي في 160 دولة من دول العالم، رغم ان شعار الثورة الوطنية في الصين زمن صن يات صن كان “هدم بيت كونفوشيوس” وبقي ذلك مستمرا طيلة فترة ماوتسي تونغ.وإذا كان الكسندر دوغين ومعه مالأوفييف وبمساندة من الكنيسة الارثوذوكسية يشكلان التنظير الاكثر جذبا للسلطة السياسية في روسيا المعاصرة، فإن وانغ هنينغ (Wang huning) المنظر الأهم بجوار جينغ بيجيان (Zheng Bijian) في الصين يرى “ان العوامل الثقافية للمجتمع، لا تنظيمه الاقتصادي، هي من تخلق سياساته، فالتغيرات في البرمجيات الاجتماعية (القيم والمشاعر والبناء السيكولوجي) هي التي على الارجح ستشكل مستقبل المجتمعات”.

ترى اليس صعود المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وتنامي اليمين في اوروبا ووصول حزب باراتيا جاناتا الهندوسي القومي للسلطة في الهند، ناهيك عن تنامي النزعة الدينية في اغلب الدول الاسلامية وحتى في اسرائيل، يتسق من هذه الناحية الثقافية الاجتماعية والتوجه الفكري في كل من روسيا والصين وايران … الخ.

ان العولمة في شكلها الرأسمالي المتوحش، وفي سعيها لفرض قيمها على كل المجتمعات، دفعت قسرا نحو “عولمة مضادة” مهمتها استحضار الشخصية التاريخية للمجتمعات وتحويل العلاقات الدولية من نموذجها الصفري (الذي تتبناه العولمة الرأسمالية) الى النموذج غير الصفري الذي تدعو له هذه “العولمة المضادة”.

لقد ادرك رواد العولمة المضادة أن الترابط التكنولوجي والاقتصادي بين مجتمعات العالم اتجاه اعظم (Mega –trend) لا يمكن وقفه، فقد ترابطت اقتصاديات العالم ترابطا محكما (فأي هزة في اقتصاديات اي دولة ينعكس على الدول الأخرى كما يفعل الحجر الذي يُلقى في البركة، وكلما كان الحجر اكبر كانت تداعيات القائه اكبر)، وتتثاقف المجتمعات تثاقفا متواصلا، فكل طلاب العالم يدرسون نفس المواد العلمية التطبيقية والاجتماعية وكأن المنظومة المعرفية يجري توحيدها، وما عاد من الممكن فصل الترابط التكنولوجي … الخ.

وفي تقديري ان البريكس وشنغهاي وغيرها مؤشرات على محاولة تشكيل عولمة مضادة عابرة للحدود الاقليمية، كما ان هذه العولمة المضادة لا تنفي إطلاقا وجود الصراعات والتضاد في المصالح، بل تعتبره مظهرا جوهريا وطبيعيا، ولكنها تحاول قدر الامكان إدارة الصراع بمعادل اخلاقي للحرب -أي بالتنافس السلمي-، وهو ما يشكل نقطة الجذب الاخلاقي في إدارة العلاقات الدولية المعاصرة. ومن هنا تُطل عمليات استحضار المنظومات الثقافية الاجتماعية التاريخية لإدارة الصراع غير الصفري..

فهل تنجح؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى