غزة تهز الشارع عربياً وإسلامياً ودولياً
تحول “طوفان الأقصى”، في الأيام والأسابيع التي تلت ذلك الحدث الجلل، من عملية عسكرية مبهرة إلى ظاهرة سياسية مستجدة تتجاوز غزة وغلافها جغرافياً بآلاف الأميال. وكان طوفان الشارع، عربياً وإسلامياً وغربياً، نتيجة عملية “طوفان الأقصى” وتداعياتها بالذات، من أهم معالم التحولات الجديدة في المشهد السياسي التي تستحق التوقف عندها.
لعل الأكثر أهميةً هنا حراكُ الشارع العربي إذ هب بالملايين رافعاً راية فلسطين والمقاومة، من صنعاء وصعدة إلى الرباط وطنجة، مروراً بمعظم الأقطار العربية، ولا سيما المركزية منها مثل العراق وسورية ومصر، ناهيك عن الجزائر واليمن، والحراكات الشعبية العملاقة في البحرين والأردن ولبنان وتونس وليبيا والمغرب، إضافةً إلى الحراكات الشعبية الخليجية المتميزة في الكويت وعُمان وقطر.
ولا ننسى الضفة الغربية طبعاً التي قرنت حراكها الشعبي بمئات أعمال المقاوِمة المجيدة، والتي كان آخرها إثخان جيش الاحتلال الصهيوني في طولكرم، لكنْ رب قائل إن أولئك فلسطينيون، وإن بيت القصيد تفاعل الشارع العربي مع فلسطين. وإن هذا موثقٌ جيداً لمن لم يرَ مئات الآلاف بالعين المجردة أو يشاهد مئات الفيديوهات التي تصور حراكهم. وإذا كان لهذا الحراك من دلالات، فلا بد من أن يكون على رأسها: أ – أن الرأي العام العربي حي، وأن فيه روحاً تنبض، وأنها روحٌ واحدة من المحيط إلى الخليج. وكان كثيرون قد سارعوا إلى إعلان وفاة الشارع العربي، أو راهنوا على ذلك على الأقل. أما الآن، فيمكن أن نعلن وفاة مقولة “أين الملايين؟!” التي طالما مثلت ذريعةً مفتعلة لتبرير المواقف الانتهازية والمستسلمة. ب – أن فلسطين والمقاومة تكسران أصفاد الحس القُطري الضيق والهم اليومي المحدود. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك مثال المواطنين السوريين الذين خرجوا بكثافة في معظم محافظات البلاد دعماً لغزة والمقاومة ومساندةً لهما، على الرغم من ضنك العيش وشدة معاناتهم من الحصار وآثامه. ج – أن ذلك الحراك الشعبي العربي دفع العدو الصهيوني إلى إخلاء سفاراته في البحرين والأردن ومصر والمغرب، أي أنه حقق أيضاً إنجازاً ميدانياً وسياسياً كبيراً إذ أغرق غلاف السفارات بطوفانٍ مناهضٍ للتطبيع يمثل رديفاً لعملية “طوفان الأقصى” في غلاف غزة. د – أن الأنظمة العربية كانت قد ساوت “بين الطرفين”، في بيان الجامعة العربية المخزي عشية عملية “طوفان الأقصى”، فأضطرت إلى تعديل مواقفها نسبياً في محاولة لاستيعاب الشارع المتأجج الذي يطالب بفتح الحدود، وبمساندة غزة والمقاومة ميدانياً، وبديهياً، بإعلان بطلان المعاهدات والاتفاقيات ووقف التطبيع، كما تثبت شعارات المتظاهرين أو محاولة اقتحام سفارتي العدو أو حرقهما في البحرين أو الأردن مثلاً. هـ – أن هذا المد الشعبي العربي لا تحركه جهة واحدة، أو حتى عدة جهات متحالفة، بل يترجم بصدق حس المواطن العربي العادي المدفوع بالعروبة والإسلام ومناهضة الصهيونية، وأهمية ذلك أنه يجعل من الصعوبة بمكان تجييره أو السيطرة عليه أو إجهاضه في مساومات انتهازية. يمكن القول إذاً إن المواطن العربي العادي فرض حضوره بقوة سياسياً كما لم يفعل منذ سنواتٍ طوال، وإن ذلك المتغير رجع، منذ “طوفان الأقصى”، متغيراً أكثر أهميةً بكثير في المشهد السياسي العربي. و – أن بوصلة الحراك الشعبي العربي مؤخراً جاءت مناهضة بوضوحٍ وحدةٍ للصهيونية والإمبريالية. لاحظوا مثلاً التوجه ضد السفارة الفرنسية في تونس، أو الأحذية، أجلكم الله، التي رفعها الأردنيون في وجه بايدن عندما جاء إلى عمان، أو اصغوا للشعارات التي رددها المتظاهرون ضد الإدارة الأمريكية وسياساتها. وإن هذا مهمٌ جداً لأنه يمثل نقيضاً مباشراً لمسار ما يسمى “الربيع العربي” بأبعاده الليبرالية أو الطائفية أو التطبيعية، وبخطابه الملوث، وبقواه المشبوهة. إنها لحظة استعادة الشارع العربي، لحظة يقظة قومية حقيقية، يمكن أن نصفها أيضاً بأنها لحظة إعلان وفاة “الربيع العربي” ومرحلته رسمياً. ز – أن فلسطين والمقاومة استنهضت الشارع العربي ووحدت صفوفه وفعّلته سياسياً ووزجته في الساحات. لكنّ تلك مجرد بداية، وتبقى مهماتٌ كبيرةٌ لا بد من إنجازها إذا أردنا لهذه الطاقة العملاقة أن لا تنكص وأن تترجم إلى عمل ملموس. وعلى رأس تلك المهمات تطوير الحراك إلى حركة شعبية عربية منظمة، عابرة لحدود التجزئة، كإطار فضفاض غير حزبي، لكن يتسع للأحزاب أيضاً، مهمته قض مضجع التطبيع والمطبعين، ودعم المقاومة، وانتهاك الحصارات المفروضة غربياً من اليمن إلى سورية إلى غزة، إما مباشرةً بالقوافل الشعبية العربية أو من خلال ممارسة الضغط الحثيث من الشارع لموازنة التأثير الغربي على الأنظمة بقوة الشعب العربي. حـ – أن الشارع العربي أثبت مجدداً، كما أثبت تاريخياً من قبلُ، أنه يقدم دعماً غير محدود لكل نقطة صدام مع الاحتلالات وقوى الهيمنة الخارجية، وأنه يعلي راياتها ويتدثر بعباءتها ويتوشح برموزها، لكنّ ذلك لا يعني أن الشعب العربي يسير خلفها بلا عقلٍ مهما فعلت، ويمكن أن يتحول عنها كما تحول عن غيرها من قبل إذا انحرفت. اسمحوا لي أن أتحدث بوضوح، لا من قبيل المزايدة، معاذ الله، ولا يزايد قاعدٌ على مجاهد، بل حرصاً على الإنجاز العظيم الذي تحقق في “طوفان الأقصى” وأملاً في البناء عليه: إن المشروع هو تحرير فلسطين كاملة، وتفكيك الكيان الصهيوني مجتمعاً وجيشاً ومؤسسات، وهذا ما استبشرنا فيه خيراً عميماً في عملية “طوفان الأقصى”، دلالاتٍ وبوصلةً ومنهجاً. فإذا وجدنا أنفسنا فجأة أمام اتفاقية مثل “كامب ديفيد” بعد حرب 1973، أو إذا تقهقرنا مجدداً إلى مسار “الربيع العربي” وخياراته الإقليمية، وإلى حديث “المقاومة المدنية السلمية”، أو إلى الحديث عن سلطة في غزة أو عن “هدف تحقيق دولة مؤقتة في حدود 1967″، أو “وثائق الوحدة الوطنية الفلسطينية” التي تعترف بحق الكيان الصهيوني بالوجود، فإن من يسير نحو تحرير فلسطين تسير معه الحاضنة الشعبية قلباً وقالباً حتى النصر أو الاستشهاد، ومن ينحرف عن ذلك الهدف ينحرف وحده. أما الآن، فإن علينا أن ندعم من يقاتل ما دام يقاتل، خصوصاً أن الطرف الأمريكي-الصهيوني يبدو مصمماً على اجتثاث ظاهرة المقاومة المسلحة في غزة برمتها، لا أكبر فصائلها فحسب. لكن وجب التنبيه، للتاريخ، أن أخطر ما يمكن أن يهدد الحراك الشعبي العربي المساند لغزة والمقاومة اليوم هو الانزلاق نحو مقايضات “الحلول السياسية” مع الاحتلال، كما فعلت م. ت. ف منذ السبعينيات، مجهضةً التعاطف الشعبي العربي الكبير معها. في الحراك الشعبي المساند لغزة والمقاومة في العالم الإسلامي قدحت عملية “طوفان الأقصى” والمجازر التي ارتكبها الاحتلال في غزة شعلة المظاهرات الشعبية المناصرة لغزة والمقاومة في البلدان المسلمة، ولا سيما أندونيسيا وماليزيا وباكستان وبنغلادش وتركيا وغيرها كما لم يحدث في أي جولة من الجولات السابقة التي اعتدى فيها الكيان الصهيوني على غزة منذ نهاية عام 2008. وقد تحول ذلك الحراك الشعبي بدوره إلى جزء من الظاهرة التي أطلقها “طوفان الأقصى”. إبراهيم علوش – الميادين نت لم أذكر المسيرات والتجمعات الجماهيرية العارمة في إيران في السياق ذاته لأن الشعب الإيراني معبأ سياسياً بالأساس، وتشكل فلسطين ومقاومتها عنواناً رئيسياً من عناوين الخطاب الرسمي للدولة ونخبها. لذلك لم يأتِ تفاعل الإيرانيين مع “طوفان الأقصى” وتداعياته مفاجئاً كما جاء بالنسبة إلى غيرها من الدول المسلمة. كما أن إيران حاضنة لقوى المقاومة والممانعة، عسكرياً وسياسياً ومادياً، الأمر الذي تستغله بعض القوى المناوئة للتحريض على الدولة في خضم الحصار والعقوبات والأزمات الاقتصادية والمعيشية الناتجة عنهما. ومن المعروف أن الخطاب الإسلامي، حتى بعيداً عن الإسلام السياسي، يعد فلسطين مهد الأنبياء ويعد الأقصى مسرى الرسول محمد (ص)، وأولى القبلتين وثالث الحرمين، ويعد فلسطين أرضاً مباركة قرآنياً. وثمة شبه إجماع بين العلماء، على ما رأيت، على أن فلسطين أرض وقف إسلامي. إن أهمية هذا الأمر، سياسياً، في سياق مشروع تحرير فلسطين تحديداً، تفوق التصور. فهو يعني فيما يعنيه: أ – أن فلسطين ليست للصهاينة، وأن مشروع تهويدها يصطدم بعقيدة أكثر من ملياري مسلم، بحسب إحصاءات عام 2023، يمثل العرب ربعهم تقريباً. ب – أن تفسير مسألة “الوقف الإسلامي” بمعنى الحق العام، لا بمعنى الملكية الخاصة لكل الأصول الموجودة على أرض فلسطين، كما في حالة أوقاف المساجد والجمعيات الدينية مثلاً، يعني أن التفريط في ذلك الوقف بيعاً أو تنازلاً محرمٌ شرعاً، وهذا يُسقِط تلقائياً مشاريع التسوية مع العدو الصهيوني أو أي محتل.
ج – أن الصراع على هوية المسجد الأقصى، ولا سيما حائطه الجنوبي الغربي، حائط البراق، لا يتعلق بقضية فقهية أو خلاف عقاري بمقدار ما يتعلق بجوهر القضية الفلسطينية: من يملك الأرض؟ وهل هي عربية، أم يهودية؟ فالأقصى عنوان القدس، وليست بديلاً عنها، والقدس عنوان فلسطين، وليست بديلاً عنها، لكنّ من يفرض ملكيته للأقصى، ومن يثبت روايته الدينية التي تؤكد تلك الملكية، يؤسس للظفر بكل فلسطين، وتلك مسألة سياسية في جوهرها: مسألة تحرير فلسطين. د – أن الشعوب الإسلامية، بناءً على ذلك، تتحول إلى احتياطيٍ استراتيجيٍ ضخمٍ لمشروع تحرير فلسطين، لا يجوز التفريط به أو التقليل من أهميته، حتى لو كانت فلسطين قضية عربية بالأساس، لكنها بالضرورة أهم من الرأي العام الغربي أضعافاً مضاعفة لأنها أكثر استعداداً للتضحية، ولا تطلب منا تقديم التنازلات المبدئية. هـ – أن الهوية الإسلامية، كهوية ثقافية حضارية، أثبتت صلابة عالية في مواجهة مشاريع الاختراق الثقافي الغربي، وأنها بالتالي احتياطيٌ استراتيجي لمشروع التعددية القطبية، أي لمناهضة الهيمنة الغربية على كوكبنا، الأمر الذي يدركه الروس والصينيون جيداً ويتعاملون على أساسه، وإن هذا أكثر أهمية بالنسبة إلينا الآن بمقدار ما يبدو أن المواجهة مع الكيان الصهيوني ستتحول إلى مواجهة مع الغرب برمته. و – أن الشعوب المسلمة، بناءً عليه، لا تحتاج بأن نقنعها أن مقاومتنا مشروعة، أو أنها ردٌ صغيرٌ على جرائم الاحتلال ومجازره يحتاج إلى تبرير، لأنها مهيأة نفسياً ودينياً لدعمها، لا بل للانخراط فيها، بناءً على كل ما سبق، إلا عندما يتعلق الأمر بالمخترقين ليبرالياً والمتغربين طبعاً، الأمر الذي ينطبق على مخترقي الشعب العربي أيضاً بأية حال. ز – أن علينا أن نميز بين فصائل الإسلام السياسي وتياراته وصراعاته من جهة، والإسلام كإرث ثقافي حضاري لمجموعة من الشعوب، وعلى رأسها الشعب العربي الذي نزل الإسلام عنده وبلغته ونهض على أكتافه. كما أن علينا أن نميز بين الإسلام كثقافة تحتاج إلى تجديدٍ دائم بما يناسب العصر، استناداً إلى القرآن الكريم طبعاً، وبين إصرار البعض على بعض صيغ القرون الوسطى التي تنفر الناس من الدين وتشعرهم أنه خارج العصر. لكن الإسلام يبقى وعاءً وجزءًا أساسياً من هويتنا وثقافتنا كعرب، حتى عند غير المسلمين وغير المتدينين منا، وتلك صلة وصل أساسية من صلات العروبة والإسلام، قد يطول الحديث فيها.
وإذا كان الغرب قد عمل على توظيف الإسلام والإسلاميين سياسياً في التاريخ الحديث ضد حركات الاستقلال وحركات التحرر الوطني المنتفضة عليه، من الهند إلى مصر، وإذا كانت بعض الأنظمة العربية التابعة للغرب قد تلفعت بعباءة التدين كي تدق إسفيناً بين الحركات الوطنية والقومية والاجتماعية من جهة وحواضنها الشعبية من جهةٍ أخرى في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ومن ثم عادت لتوظيف الخطاب الطائفي لمحاصرة حزب الله في الشارع العربي، خصوصاً بعد 2006، أو توظيفه لتفكيك بعض الدول العربية في سياق “الربيع العربي”، فإن من مآثر عملية “طوفان الأقصى” وتداعياتها أن لحظة تلك المعركة، أولاً، وحدت السنة والشيعة، وأنها، ثانياً، وحدت العرب وغير العرب من المسلمين، وأنها، ثالثاً، وحدت الوطنيين والقوميين مع الإسلاميين من جديدٍ، تحت راية مناهضة الصهيونية والإمبريالية. تمثل عملية “طوفان الأقصى”، بهذا المعنى، لحظة تاريخية تتجاوز أثرها العسكري المباشر. ونلاحظ هنا، على وجه الخصوص، تقاطع ما أصدره الأزهر الشريف، وما صرح به الإمام الخامنئي، رداً على من أدانوا استهداف المستعمرين المستوطنين في غلاف غزة، بأن المستعمر المستوطن ليس “مدنياً” ولا يعد كذلك، وهو الموقف القومي العربي والوطني المقاوم أيضاً عندما لا يكون مخترقاً ليبرالياً.
في الحراك الشعبي المتضامن مع غزة والمقاومة في الدول الغربية إن ازدواجية المعايير الغربية، وانحياز النخب الغربية المفرط مع ما هو يهودي أو صهيوني، بات من فضلات الكلام، الأمر الذي يفترض أن يجعل الساعين عبثاً إلى كسب تلك النخب إلى صفنا يكفون عن هدر وقتهم ووقتنا، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتقديم تنازلات على المبدأ والحقوق القومية والوطنية أملاً في نيل رضاهم. أما الجديد اللافت الذي أبرزته عملية “طوفان الأقصى” وتداعياتها فهو ظاهرة الاحتجاجات الشعبية، الكبيرة أحياناً، في الدول الغربية ذاتها، ضد العدوان الصهيوني على غزة. إنها ظاهرة التضامن الأممي مع فلسطين وقضيتها التي كان عمادها يسارياً في الماضي.
وفي المصطلح، يقال تضامنٌ عندما يتعلق الأمر بالبعيد، أما القريب فيفترض أن يدعم ويساند، فلا يعقل أن يسمي العربي دعمه لمواطنه العربي “تضامناً”، لأنه ليس بعيداً، وعندما يحتج مواطنٌ غربي على مجازر الاحتلال في غزة مثلاً، فإن ذلك يسمى تضامناً. فأنت تتضامن مع مواطن مظلوم من قبائل الأسكيمو أو الزولو مثلاً، لكنك تساند مقاوماً عربياً وتدعمه. في جميع الأحوال، شكلت ظاهرة التضامن الأممي مع غزة في الأيام الفائتة حالةً لافتة، من أستراليا إلى بريطانيا وفرنسا والدول الأوروبية عموماً إلى الولايات المتحدة. وهي ظاهرةٌ لافتة لعدة أسباب على رأسها:
أ – أنها ظاهرة شارك فيها مواطنون غربيون بكثافة، على الرغم من انخراط الجاليات العربية فيها بقوة أيضاً، إذ أدت فيها تلك الجاليات دوراً مهماً وفعالاً، وهو دورٌ لا بد من أن يشكل ركناً رئيسياً من أركان الحركة الشعبية العربية المنظمة الذي جرى التطرق إليه سابقاً.
ب – أنها مثلت حالة تمرد على الإعلام الغربي الذي روج للرواية الصهيونية بصوتٍ وإيقاعٍ واحد، أكثر مما يفعل أي إعلام في دولة “شمولية” في أي قضية. على الرغم من ذلك، فإن قطاعاً من الرأي العام الغربي لم يقع فريسةً له، ولعل أحد أسباب ذلك الجاليات العربية التي تتفاعل مع بيئتها، والتي تنشر الرواية العربية في وسائل التواصل الاجتماعي، تحت قيود “مقاييس المجتمع” الفاشية المتصهينة.
ج – أنها مثلت حالة معارضة لسياسات الدول الغربية ونخبها. لذلك، فإنها أصبحت جزءاً موضوعياً من مشروع مناهضة الإمبريالية (وثمة ظاهرة تصنف علمياً كإمبريالية، وهي غير الاستعمار).
لكن التدابير المشددة التي اتخذتها بعض الدول الغربية، مثل فرنسا وألمانيا، لمنع مظاهر تأييد فلسطين، أدت إلى تجذر تلك المعارضة وإثارة التساؤلات حول معنى تخلي الدول الغربية عن واجهاتها الليبرالية.
د – أنها حالة انطلقت من رفض المجازر المرتكبة في قطاع غزة، والسياسات الاستئصالية التي يتبعها الاحتلال هناك، حتى لو كانت أجزاء كبيرة منها مناهضة للمقاومة الفلسطينية ومتمسكة بحق الكيان الصهيوني بالوجود، لكنها تحولت مع تصاعدها إلى عبءٍ على النخب الغربية الداعمة علناً لاستمرار المجازر في القطاع، والمستعدة للانخراط في حربٍ شعواء دفاعاً عن الكيان الصهيوني، أي أنها غذت حالة الانقسام الداخلي في المجتمعات الغربية، وهذا جيد، ولو أنه ليس بأهمية عودة الرأي العام العربي إلى الميدان أو دعم الشعوب الإسلامية لمشروع تحرير فلسطين. أخيراً، وفي السياق الدولي، لا بد من الإشارة إلى أن تحريك مجموعات حاملات الطائرات الأمريكية إلى شرقي المتوسط قرّب موقف روسيا والصين من المقاومة الفلسطينية سياسياً، لذلك بتنا نرى سقفهما يرتفع تدريجياً، على الرغم من وسطية موقفيهما المبدئي في القضية الفلسطينية. لكن تحريك قوات أمريكية وبريطانية إلى البحر المتوسط يقرأ بأعين روسية وصينية بأنه تثبيت لرقعة نفوذ أمريكية على رقعة الشطرنج الكبرى، تماماً كبحر الصين الجنوبي أو أوروبا الشرقية، وهذا جيدٌ جداً من منظور مصلحة الشعب العربي ومحور المقاومة، خصوصاً إذا طفحت المواجهات من خارج إطار قطاع غزة إلى الإقليم. أما من ينتظر تحليلاً حول موعد انخراط محور المقاومة في المعركة مع الاحتلال (والقوى الغربية فعلياً) بكل ثقله، فأقول له إن الأولى بنا أن نفكر بما يمكن ويجب أن نفعله نحن لدعم المقاومة، وهو ما فعله الشعب العربي في الشارع فعلاً، من دون انتظار الخلاص من أحد، كما يجدر به أن يفعل. أما محور المقاومة فلا يقصر بالدعم، ومتى قرر أن الوقت حان لفتح المعركة الكبرى، فله كل الدعم والمساندة، مثل كل من يقاتل “إسرائيل”.