المقالات

بين بوتين وبريغوجين: تمرّدْ الثاني على الأول.. امْ تخلّص الاول من الثاني.. أم تفاهمْ ؟

د. جواد الهنداوي

عاملان يطرحان علينا افتراضات ثلاثة في العنوان: تمّرد ام تخلّص ام تفاهم ؟

العامل الاول هو شحّ المعلومات او حتى غيابها عن الواقعة المزعومة .

والعامل الثاني هو شخصّية اطراف الواقعة : الرئيس بوتين وهو رجل مخابرات دولة عظمى متشبّع بالفكر الشيوعي وآسف لتفكك الاتحاد السوفييتي، و متمّرس في خلق الذرائع والوقائع والسيناريوهات للوصول للاهداف السياسية. اما غريمه او خصمه او صديقه بريغوجين، فتدرجَ من سارق الى سجين الى رئيس عصابة الى صاحب مطعم يرتاده الرئيس بوتين وضيوفه رؤساء الدول، الى طبّاخ بوتين وصديقة، ثّمَ مستثمر في الشركات الامنية والمرتزقة، ومسيرته تؤهلّه للتمرّدْ وللتفاهم ولا تدعو لثقة و اطمئنان مَنْ يتعامل معه .

هل تمرّدَ الطباخ على سيدهِ، و على من صنعهُ؟

استبعدُ ذلك للاسباب الآتية:

مَنْ يطّلعْ على تفاصيل حياة بريغوجين، العائلية والاجتماعية وما عاناه من فقر وحرمان ومواجهة مستمّرة لتحديات وتصميم وارادة للوصول الى مبتغاه من دون مراعاة قانون او اخلاق او عرف اجتماعي، سيستنتج أنَّ بريغوجين عاشَ طيلة حياته مُتمرداً، و مَنْ يكون ديدنه التّمردْ والقتل لنْ يكتفْي بيوم واحد فقط متمرّداً على خصمه بوتين!

لم يدمْ تمرّد قائد المرتزقة اكثر من ٢٠ ساعة، ليعلن بعدها انهاء التمرّد، بحجة منع سفك الدماء . فالوضع السياسي والعسكري لروسيا، وهي في حالة حرب، كذلك موقف امريكا وحلف الناتو، جميعها مقومات تساعد بريغوجين على المضي في تمرّدهِ، إنْ كان صادقاً في نواياه وفي مسعاه.

هل الواقعة هي سيناريو، من انتاج الرئيس بوتين للتخلّص من صديقه، بعد استخدامه، و خشية تنمّرهِ، و تصدّع العلاقة بين الجيش الروسي و مرتزقة بريغوجين، و انعكاس ذلك على سير المعارك بين روسيا و اوكرانيا والغرب والناتو؟

لا نعتقد برغبة الرئيس بوتين التخّلص من بريغوجين . فأمام بوتين اكثر من وسيلة للتخّلص من بريغوجين، إنْ كانت له نيّة في ذلك.

روسيا لا تزال بحاجة الى قوات بريغوجين، في الحرب في اوكرانيا، وكذلك في افريقيا و آسيا.

روسيا تتعامل بحذر وبانضباط شديدين مع قوات او ميليشيات فاغنر، منذ تأسيسها عام ٢٠١٤ ، حين أقدمت روسيا على ضّم جزيرة القرم. وتتعظ روسيا من تجربة الولايات المتحدة الامريكة في تأسيسها وتمويلها لتنظيم القاعدة في افغانستان، وتجارب الادارات الامريكية المتعاقبة مع التنظيمات المسلحّة، والتي انتشرت في منطقة الشرق الاوسط.

مؤشرات ووقائع تجعلنا نعتقد أنَّ ما حدثَ بين الرئيس بوتين و بريغوجين هو تفاهم ثلاثي بمشاركة رئيس روسيا البيضاء . تفاهم ذو اهداف عسكرية و سياسيّة : يفضي عسكريا الى اعادة تموضّع لميليشيات فاغنر واعطاء دور جديد لبريغوجين، ويفضي سياسياً الى خلط الاوراق لدى خصوم و اعداء روسيا، والذين هم في حالة حرب مع روسيا. وشاهدنا تعدّد وتنوع التكهنات و التفسيرات لدى دوائر الغرب العسكرية والاستخباراتية لحّل او لتفسير لغز ما حدث في روسيا.

يكفي كدليل، يكاد ان يكون قاطعا على صحة ما نراه من تفاهم ثلاثي، هو سرعة تدخل رئيس روسيا البيضاء، الكسندر لوكاشينكو، على خط الواقعة، وسرعة اتيانه بالحّل، وسرعة قبول الرئيس بوتين و بريغوجين، الحّل المقترح . سابقة في التاريخ الحديث أنْ يحدث تمّرد و يُطرح حّلْ ويُقبَلْ من الاطراف المتخاصمة، في غضون ٢٠ ساعة !

اعادة تموضّعْ (وليس رحيلا) بريغوجين الى العاصمة مينسك، عاصمة روسيا البيضاء، مع الالاف من قواته أمرٌ لا يخلو من اعتبارات عسكرية وسياسية متعلقة بالحرب الروسية الغربية، والتي تدور رحاها في اوكرانيا . وقد اثار هذا التموضّع شكوك وتحذير امريكا وحلف الناتو من قيام روسيا بفتح الجبهة الشمالية لاوكرانيا، و انطلاق مرتزقة بريغوجين، من اراضي روسيا البيضاء نحو شمال اوكرانيا .

توجد قوات و اسلحة روسية في روسيا البيضاء، وعلى الحدود الاوكرانية، وقد سَبَقَ للرئيس بوتين زيارتها وتفقدها نهاية عام ٢٠٢٢، ما يجعل من شمال اوكرانيا جبهة مواجهة مؤجّلة، وربما تنتظر وصول بريغوجين و قواته.

رئيس المركز العربي الاوربي للسياسات وتعزيز القدرات /بروكسل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى