مقالات

تأثير هزيمة اسرائيل على مشتقات الربيع العربي ومنتجات سايكس بيكو .. ابن خلدون وفوكوياما يتقابلان في غزة.

نارام سرجون

لا تستهينوا بما تملكون .. ولاتغرنكم الالقاب والأبهة والفخامة وأصحاب الجوائز العالمية .. فان السيد المسيح لم يحصل على اية جائزة ولكنه غير العالم .. والنبي محمد لم يكن خريج السوريون او كامبريدج بل كان خريج الصحراء ولكنه غير الكون كله .. واليوم هذه القطعة من الأرض التي تسمى غزة هي التي بدأت تتحدى التاريخ ونظرياته ..

وهي أصغر من أي حي من أحياء مانهاتن .. تقف على أعتابها نظريات التاريخ السياسي والاجتماعي .. ويقف على شواطئها فوكوياما وهو يبلل نظرية نهاية التاريخ في بحر غزة .. ويشرب ماءها المالح .. والسبب هو أن نهاية التاريخ الحديث والعصر الامبريالي تتحدد في فلسطين .. فاقامة اسرائيل هي نموذج التفوق الغربي وهي رمز على قوة السطوة الغربية .. وبقاؤها يعني ان اوروبة لاتزال قوية وتحكم العالم .. وأما نهاية اسرائيل فانها تعني نهاية العصور الاوروبية التي حكمت العالم وتجلت كل قوة اوروبة في أنها تتحكم بمصير التاريخ عندما تعبث بالخرائط القديمة وتغيرها .. وتخلق دولة وصفت بأنها ضد التاريخ وضد الجغرافيا وضد المنطق .. ونهايتها هي نهاية لاسطورة قوة اوروبة .. والعنصر الابيض الاوروبي ..كنت دوما أقول ان أمراضنا الاجتماعية ونقص المناعة القومي والقيمي والاخلاقي سببه ان اسرائيل موجودة وهي تنتصر في معاركها .. وتمنعنا من اكتشاف انفسنا .. وانتصار العدو دوما يصيب هيبة الوطن ويثير الشك في قيمه ونظرياته الامنية والثقافية والاقتصادية .. والحضارات التي تنتصر عسكريا فانها تملي نموذجها الثقافي على المهزوم وفق ابن خلدون حتى لو كانت قيما مغايرة للمنطق طالما انها تنتصر ..لأن الذي تصاب ثقافته بالاهتزاز وقلة الثقة بالنفس ونقص المناعة لأن التفوق العسكري قد يفهم منه ان الثقافة التي حملت هذه القوة قوية وهي التي خلقت التفوق العسكري ..لذلك فان ضعف الدولة بسبب انتصار العدو عليها يجعلها تبحث عن انتصارات وهمية بعيدة عن المواجهة مع العدو فتتفجر فيها تناقضاتها .. فتخلق فيها تناقضات نائمة وبعضها يستفيق من تحت ركام الزمن ويخرج من قبور التاريخ ويتحرك مثل الزومبي في المجتمع .. فالثورات الداخلية دوما تندلع عقب الهزائم الكبيرة .. فالثورة الفرنسية لم تندلع فقط لأن ماري انطوانيت طلبت من الشعب الجائع ان يأكل الكاتوه اذا لم يجد خبزا .. بل لأن فرنسا كانت جريحة تتلقى هزائم عسكرية قاسية في الخارج .. وتمكن الانكليز من الحاق عدة هزائم بالفرنسيين في صراع المستعمرات وخاصة في اميريكا الشمالية .. وكانت خسائر الجيش الروسي في الحرب العالمية الثانية سببا في انتشار الافكار البلشفية التي صارت ترى التناقضات الطبقية سببا للهزيمة وثارت كتعويض انتقامي عن هزائم القيصر ولبناء نموذج يختلف عن النمودج القيصري الطبقي المهزوم .. وكذلك فان هزائم العثمانيين تسببت في تشقق امبراطوريتهم وعودة القوميات التي كانت مسحوقة عندما كانت الدولة مهابة وتحقق الانتصارات .. وكانت هزيمة أفغانستان سببا في اعادة النظر في كل النظرية الشيوعية .. وهزيمة العرب في نكبة فلسطين هي التي خلقت ثورات الضباط الاحرار وسلسلة الانقلابات العسكرية في المنطقة لأن للهزيمة ملحقات داخلية اعادة التوازن للمجتمع المغلوب .. فيما كان انكسار المشروع الناصري العروبي عام 67 سببا في موت القومية المهزومة ونشوء نظريات ملء الفراغ واستبدال القومية بالمشاريع القطرية والقطرية والدينية .. فولدت شعارات مصر اولا والاردن اولا .. والاسلام هو الحل ..في هزيمة العراق عام 2003 كان لابد من ظهور تشققات المجتمعات العربية التي أنتجت بذور الربيع العربي حيث صار العرب يبحثون عن اي مشروع يخرجهم من كارثة الهزيمة الماحقة العراقية التي صدمت العقل العربي كما صدمته نكسة 67 .. لكن هزيمة اسرائيل عام 2006 ابطأت التشقق الذي كان يتقدم الى ان حدث طوفان الطوائف والمذاهب والفتن .. والربيع العربي كان موسما للحصاد الاميريكي والاسرائيلي والاوروبي لما بذر في حرب العراق ..في النموذج الغربي يمكن اعتبار اقامة اسرائيل على انه أنه ذروة الانتصارات وعلامة على قوة الغرب وثقافته وهو يفرض بهيبته على العالم كله ان يخضع لقرار خلق اسرائيل ضد التاريخ والجغرافيا والمنطق الانساني .. ولذلك فان هزيمة المشروع الغربي هو هزيمة للنظريات الغربية في التفوق والبقاء في قيادة العالم .. ومقياس الانحسار هو هزيمة اسرائيل .. لان الهزيمة السابقة كانت قبل 900 سنة على يد صلاح الدين والتي اعقبتها خسارة القسطنيطينية (استانبول حاليا) .. والتي انكفأت فيها اوروبة على نفسها وصارت تبحث عن بدائل فاهتدت الى العالم الجديد في اميريكا الذي كان ثورة اوروبة الضعيفة المتشققة ..مما سبق نجد ان كل حدث عسكري كبير يتلوه تغير منحى التاريخ ومساره .. وتغير في لعبة ميزان القوى .. والاستقرار السياسي ومنه تفيض نظريات سياسية وثقافية وفلسفية بديلة لتدارك الهزيمة العسكرية ومعالجة آثارها ..المشروع الصهيوني دخل هذه المرحلة وهو في مرحلة صعبة للغاية .. ومعركة غزة كانت أخطر منعطف لأنها ليست حركة عادية في التاريخ .. بل هي هزيمة عسكرية .. وعقائدية .. وثقافية .. لكل المشروع الغربي .. ولذلك فان الفشل العسكري تلاه فشل ثقافي وانحطاط نفسي شامل ..أنا مذهول من ضعف الجيش الاسرائيلي الذي فشل عام 2006 ان يدخل قرية لبنانية ويبقى فيها .. واليوم بعد تطوير واستفادة من كل المراجعات ومن غياب العراق وسورية وليبيا كجيوش انشغلت بالربيع العربي .. بعد كل هذا تبين ان الجيش الاسرائيلي عاجز عن غزة وأن قتل الناس هو للتغطية على الفشل العسكري واستجداء لأن تعطيه حماس مفاتيح غزة من غير قتال كي يرحم المدنيين .. اي انتصار سهل وخسيس وبلا بطولات .. ولكن اهل غزة هم من لايسمح لحماس ان تتخلى عن موقفها .. في اصرار على قهر الاسرائيليين والتشكيك بقوتهم .. واسرائيل اليوم في اعظم ورطة تمر بها .. فلاهي قادرة على الحسم ولا هي قادرة على التقهقر .. وهنا يكمن انكسار النظرية التي تمثلها اسرائيل ..لكن أهم شيء سيكون هو اضمحلال ملحقات القوة الاسرائيلية وأذرعها الممتدة في المنطقة العربية التي تستمد قوتها من عربدة اسرائيل ومن الشعور ان اسرائيل تحميها وتدعمها .. ولذلك فان ملحقات اسرائيل وأتباعها في لبنان سيخفت صوتهم ويخبو الى ان تستعيد اسرائيل هيبتها وهذه مرحلة ستطول جدا .. كما ان تفرعات المشروع الاسرائيلي المتمثلة بالمعارضات العربية المنتشرة في اوروبة واميريكا والارهابيين في سورية والشرق الاوسط سيضمحل أيضا ..

ونلاحظ ان أذرع اسرائيل في المنطقة خفت صوتها تنظر غير مصدقة ومرعوبة من جولة التأديب التي يتعرض لها الجيش الذي لايقهر .. فمن سيحمي يتامى الجيش الذي لايقهر بعد ان قصم ظهره في غزة ..اذا اكتمل نصر غزة فان الربيع العربي سيموت .. والطوائف ستذوب .. وسيتراجع دور الثورجيين العرب الذين انجرفوا في الربيع العربي لأنهم يظنون ان اسرائيل واميريكا أقدار لاترد .. وان من الافضل تجاهل القدر الذي لايرد ومحاولة البحث عن صناعة أقدار أسهل ..من كان يظن أن فوكوياما سيسقط في غزة؟ ..

والتاريخ كله يخرج من رحم غزة كالمولود الجديد …

وأن غزة تصبح قاهرة مانهاتن .. وأن التاريخ قصة بلا نهاية .. نهايته مفتوحة تتغير بيد من يملك الحبر الاحمر القاني .. الذي يسمى الدم ..انه لقاء نظريتين الاولى لابن خلدون والثانية لفوكوياما .. تتصارع النظريتان .. بين اعلان نهاية الدولة ونهاية التاريخ .. لكن الدم هو الذي يصنع بداية التاريخ .. وسقوط النظريات هو الذي يصنع نهاية تاريخها .. اسرائيل نظرية انتهت .. ودولة تحتضر هي وكل اكسسواراتها التي أحاطت نفسها بها وتزينت بها من خطوط سايكس بيكو وتيجان وملوك العرب .. وفلسطين تخرج من رحم غزة ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى