} د. حسن أحمد حسن*
المقال الاسبوعي – جريدة الىناء
https://www.al-binaa.com/archives/374894
عن أيّ بيت يتحدّث قطاع الطرق ومصّاصو الدماء؟ وأي حديقة تلك التي يتوهّمون بالتنزه فيها، وهم يؤكدون بعدوانيتهم المتوحشة أنهم العنصريون الجدد من أحفاد عصابات «شتيرن» و«الهاغانا» وغيرهما من التنظيمات الصهيونية التي جمعوا شتاتها من كلّ أصقاع الدنيا لاغتصاب فلسطين وتسليمها لحفنة من المجرمين الذين امتهنوا الدجل والنفاق، وأوْغلوا في اللصوصية والسرقة والقتل والإجرام؟ وقبل هذا وذاك من قال لأولئك إنّ لهم بيتاً، وهم الأعلم أنّ كلّ ما في البيت وحوله فلسطيني الهوى والهوية والانتماء.. فلسطيني النبض والنَفَسِ والعروق والدماء… فلسطيني الوجود سيرورة وصيرورة رغم أنوف الطغاة الأدعياء… فلسطينياً كان وسيبقى ولو طبقت على الأرض السماء…
هل تعلمون لماذا؟ لأنّ في فلسطين رجالاً يعلّمون الصخر الصلابة واليقين بسطوع الشمس وانتشار الضياء.. لأنّ في فلسطين نساء لسن كبقية النساء.. نساء يلدن مع كلّ طفل أيقونة كرامة وإباء.. صرخة الولادة لأطفال فلسطين لا تنتهي ذبذباتها كبقية الأصوات وتتلاشى في الفضاء، لأن الصوت الفلسطيني معقود بمقلاع وحجر ونظرة حقد وتحدّ وإصرار راكمته عقود من الظلم والقهر والكذب والرياء.. مقلاع وحجر حوّلته عقول أبناء فلسطين إلى صواريخ إرادة وأعاصير قدرة وبأس ومضاء بدعم المقاومين الأنقياء الشرفاء. ومَن يحلم بحديقة وادعة يتنزه بين أفيائها كيف يشاء عليه أن يجمع تلابيبه ويستعدّ للعودة بجواز سفره الأصلي من حيث أتى، لا أن تذهب به الظنون وأحلام اليقظة إلى درجةٍ يخال بها أنّ «جنين» أو أي أرض فلسطينية أخرى تقبل بأن تطأها أقدامه القذرة وتستقرّ بها، وإذا كانت عملية «سيف القدس» بترت يد ما أسموه «حارس الأسوار» فعملية «بأس جنين» ستهدم سقف «بيت» أراد ساكنوه التطاول على حديقة جنين وغيرها من الحدائق الغناء المحيطة بذاك البيت المسروق والمصادر والمحتلّ، وإذ أصرّ أصحاب الرؤوس الحامية على التلذذ بدماء الأبرياء فلينتظروا انهيار السقف فوق رؤوس مَن استملكوا ـ ما ليس لهم ـ زوراً وبهتاناً، وليس أمام أولئك إلا التفكير بهذه الحقيقة والاستعداد لمعايشتها واقعاً قائماً، لا حلماً ولا توهّماً، فأوهن البيوت يبقى قابلاً للخراب وإنْ تطاولت خيوطه وتشابكت حلقاته، وسيان عند أصحاب الحق والإرادة أن تميد الأرض أو تفيض السماء بكلّ ما قد يخطر على الذهن أو لا يخطر من تداعيات حتميّة قد تُسهم بإشعال المنطقة من حيث يدرون ولا يدرون، وسواء تناسب التوقيت مع أجندة اليانكي الأميركي أم تعارض مع أولوياته، ولا فرق وقتذاك بين شبكة عنكبوتيّة نسجت في الزاوية الأعلى من البيت، أم تحت أسرّة النوم، ومن المؤكد أن تعمّ المساواة الجميع عندما يقرّر أصحاب الحق والملكية الشرعية تنظيف البيئة من العناكب والعقارب والأفاعي والثعابين ووحوش الليل المسعورة، وهم يعلمون علم اليقين أنّ ضريبة تنظيف البيئة كبيرة وتكلفتها مرتفعة، لكنهم مستعدّون لدفعها مهما بلغت، وإذا كان مايسترو جوقة الأنغام الناشزة أو ضمن قوامها مَن يخشون على أبواق صولجاناتهم العطب فعليهم تحمّل مسؤولية إنزال القرود من الشجرة العالية التي تسلقوها، ولجم المسعورين ومنعهم من الاستمرار بمقامراتهم الخاسرة لتأجيل موعد الاشتباك الكلي الأكبر، والإذعان لقواعد الاشتباك وفق عرف أصحاب القضية المستعدين للتضحية في سبيلها بكلّ غالٍ وثمين، وما هو ممكن الآن قد لا يكون متاحاً بعد حين.
لم أكن قط بوارد الكتابة بمثل هذه اللغة الأدبية الموشاة بعبق ثقافة المقاومة الموقنة بوهن بيت العنكبوت، لكنها أمواج المدّ سابقت الغد، ووصلت شاطئ الكتابة على أنغام صمود جنين وأبطال جنين، وما ينشره إعلام المعتدين من خشية وتردّد وانقسام وتخوّف من خروج الأمور عن السيطرة وتدحرجها نحو الهاوية جراء سعار عدوانية عنصرية ممزوجة بعجز متفاقم يزداد ويتراكم، وقد يسبق هزيم الرعد لمعان البرق، فارتقاء عشرة شهداء وإصابة مئة آخرين وأكثر ليس مجرد كلام يُقال. والدماء الزكية التي روت أرض جنين لا تنبت فقط الأرجوان والليمون والزيتون والياسمين، بل تنبت أيضاً بساتين الصبَّار المتراصة والمتداخلة بأشواكها القاسية والمتطاولة القادرة على حماية الثمار الشهية من أيدي العابثين المعتدين، وإنْ مسّتهم نار الخيلاء والصلف والهوى المردي.
قد يكون من المفيد هنا التذكير بما تضمّنته افتتاحية صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية صبيحة اليوم التالي للعدوان، إذ وصفت ما يجري في جنين بأنه «عملية امتصاص صدمات» تهدف إلى عرض «عضلات قوية»، ومن شأن عمليات كهذه أن تنمّي «الوهم الخطير بأنّ أسس المقاومة الفلسطينية تكمن في مخيم واحد أو في مدينة واحدة، وأنه يمكن تدمير أسسها بضربة واحدة»، كما أكدت الصحيفة المذكورة أنّ «حرباً قويةً تجري على ظهر الجيش الإسرائيلي»، وأنّ رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، «رزح تحت صيحات يأس المديرين الحقيقيين لحكومته»، وأمام هذا الواقع المتشابك بضبابيّته وانفتاحه على المجهول يمكن التوقف عند بعض العناوين والأفكار المهمة، ومنها:
ـ تحديد مدة العملية عند انطلاقها بـ /72/ ساعة يتكامل مع اعتماد عنوان: «بيت وحديقة»، ويتضمّن رسالة مفادها: كلّ الأراضي الفلسطينية حديقة إسرائيلية يحقّ لسلطات الاحتلال دخولها والخروج منها متى شاءت، وهي مَن يحدّد تاريخ البداية والنهاية لأي أعمال قتالية ميدانية في جنين أو غيرها. وقد أشارت بعض الصحف الإسرائيلية إلى أنّ القيادة العليا في الجيش الإسرائيلي تتطلع لإنهاء العملية «بسرعة نسبية، خشية أن يؤدّي القتال المستمر إلى ارتفاعٍ في عدد الخسائر، ومن ثمّ إلى تصعيد في ساحات أخرى».
ـ اعتراف الإعلام الإسرائيلي بفشل العمليات العسكرية السابقة ضدّ جنين، فلا عملية «السور الواقي» عام 2002 نجحت في أن توفر أي وقاية لكيان الاحتلال، ولا عملية «كاسر الأمواج» عام 2022 استطاعت أن تقلل من قوة اندفاع الأمواج الفلسطينية المتتالية والمستمرة بزخم تصاعدي، والعملية العسكرية الحالية ضد جنين «لن تغيّر قواعد اللعبة»، بل هي دليل على فشل كل ما سبقها من عمليات.
ـ محدودية أهداف العدوان المعلنة تبرهن على قناعة العدو بقدرة المقاومة على التصدّي لجبروته العسكري وعدوانيته المنفلتة من كلّ عقال. وهذا يعني أنّ أحد الأهداف الأساسية للعدوان إعلامي لرفع معنويات المستوطنين ومحاولة لتخفيف الضغط الداخلي عن نتنياهو.
ـ تجريف الأرض والبنية التحتية، وإرغام الأهالي والسكان على إخلاء منازلهم ومغادرتها يخفي نية عدوانية مبيتة لفرض «ترانسفير» جديد على سكان المخيم، وهذا ما يجب العمل بكل السبل لمنع حدوثه.
ـ إسقاط أربع طائرات مُسيّرة، واستخدام عبوات ناسفة جديدة مصنّعة ذاتياً، وبقوة تدميرية كبيرة مؤشر واضح على تنامي قدرات المقاومة وتطورها كماً ونوعاً.
ـ الوحشية المفرطة في التعامل البعيد كلّ البعد عن الإنسانية وقيم المجتمع الدولي، وبخاصة تلك المتعلقة بمنع سيارات الإسعاف من نقل المرضى والمصابين، وما كان لهذه العدوانية المتوحشة أن تستمرّ لولا يقين حكام تل أبيب بأنّ العصا الغليظة الأميركية المرفوعة فوق رأس العالم قادرة على حمايتهم ومنع مساءلتهم عن الجرائم النكراء التي تقترفها أياديهم الآثمة.
ـ قدرة المقاومة على إنزال خسائر بشرية في صفوف القوات المهاجمة عامل ردع يجب ترسيخه أكثر فأكثر، ودخول عناصر الجيش الإسرائيلي إلى جنين يشكل فرصة للاشتباك مع العدو من المسافة صفر وزيادة أعداد القتلى والمصابين في صفوف جنود العدو وقوته. وهذا ما يجب إيلاؤه الأهمية القصوى.
ـ قد لا يكون مفيداً التعويل على موقف رسمي عربي أو إقليمي أو دولي ضاغط لوقف العدوان، والمعادل الموضوعي الوحيد المتاح ممكن التبلور عبر موقف الداخل الفلسطيني ذاته، وفي جميع الأراضي الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة والأراضي المحتلة 1948.
ـ النتائج النهائية لهذه الجولة الجديدة من الصراع ستتحوّل أوتوماتيكياً إلى أحد محدّدات وقواعد الاشتباك سلباً أو إيجاباً.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية
