قصة قصيرة بعنوان: لا تقطع عهداً إذا لم تستطع أن تحافظ عليه
يقول مازن: اضطررت لبيع منزلي لشدة احتياجي لبعض المال ريثما أجد عملاً بدل الذي فقدته منذ شهر، و لأن لدي طفلة مصابة بالسرطان ،فكنت محتاجاً للكثير من المال لأستطيع متابعة علاجها، بِعتُ المنزل و بدأت أصرف من ماله، بحثت عن عمل لكنني لم أجد، كنت سابقاً أعمل في محل بيع الخردوات لأحد رفاق عمي، و عندما مات صاحب الدكان، سكب أولاده كأس ماء باردة على رأسي، و تقاسموا حصتهم من المحل، حال ابنتي كان يزداد سوءً يوماً بعد يوم، و المال بدأ ينقص من درج الخزانة، في أحد الأيام كان موعد جلسة علاجها ، لكن الدرج كان فارغاً، لم يكن في جيوب سراويلي سوى المناديل، و محفظة زوجتي المتوفية كانت تصفر، أودعت صغيرتي عند الجارة ، و قصدت حيَّنا القديم، كان لوالدي صديق يسكن هناك، عندما وافت أبي المنية قال لي في آخر لحظاته أن له صديقاً كالزند، شهماً ،خدوماً، لا يردُّ طلبَ طالب، و قد أوصاني إذا ما جار عليَّ الزمان في يومٍ أن لا أتردد في قصده، طيلة الطريق و أنا أفكر كيف سأفاتحه بالموضوع، أنا رجل سيء، فقدت عملي، و صرفت مالي،و بعت بيتي، و أنا جالس…ها هو الباب البني ذو الإطار الذهبي، ها هو النقش الذي وصفه لي أبي بالضبط عليه، طرقت الباب ، و ابتعدت قليلاً، فتح لي عجوز بعمر الثمانينات يضع نظارة بعدسات بيضوية، و يتعكَّز بعكازة طويلة رأسها مكسور، عرفت أنه العم فيصل من الشامة الكبيرة بجانب أنفه فقد كانت العلامة التي أخبرني عنها أبي سابقاً أيام حياته
-أهلاً، ماذا تريد يا بني؟ تفضل
-أهلاً عمي كيف حالك؟ أنا مازن ابن مروان صاحبك
-مازن!! كم كبُرت!! صرت شاباً وسيماً، و قد غدوت أطول من أبيك، ما الذي استذكرك بصديق والدك العجوز أخبرني؟
أدخلني داره، و أجلسني في غرفة الضيوف في صدر الغرفة، و قال: إنَّ لك صدر البيت يا عزيزي، و العتبة لنا، بعدها صبَّ لي قهوة مُرَّة، و وضع أمامي صحن تمر، ترددت في بدء الحديث، و لكن ليس باليد حيلة جلسة الكيماوي ضرورية، شرحت له ما مررت فيه بعد وفاة والدي:
بعد عودتي من السفر تزوجت باكراً، و قد أنجبت بابنة سمّيتها لينا، و بعد فترة لم تكتمل فرحتي بها فقد أصيبت بالسرطان، صرفت كامل ما جلبت من غربتي في علاجها ،و عملت في دكان صديق عمي لكنه مات، و زوجتي توفيت بعد حادث سيارة صدمتها أثناء عودتها من محل الخضروات، و استأنفت بغصة: لم تكن حياتي يا عم جيدة، أظن أن عدم رضا أمي ، و سفري الذي لم تكن ترضاه عندما كنت صغيراً، جعل هذه الحوادث تقع يوماً بعد يوم، كنت أزور قبرها باستمرار مع أبي، و الآن أزورهما سوياً مع لينا، أجلس تحت شجرة الصفصاف و أبكي كالطفل، قام العم فيصل و انحنى و ضمَّني إلى صدره بقوة، ثم داعب شعري و قال: أظن أنَّ الدنيا قد أثقَلت عليك، موت الأحبة صعب لا يطاق، أظنكَ جئت طالباً بعض المال لإكمال علاج لينا ريثما تجد عملاً صحيح؟ أخبرني أنَّه الآن لم يعد يملك من المال إلا القليل،فيقوم بشراء ما يحتاج من طعام و شراب ما يبقيه على قيد الحياة، إلا أنَّ له ابناً يتردد عليه بين الحين و الآخر، يعمل في التجارة، دلَّني على مكان تواجده فسافرت إليه، و قد أجّلت موعد جلسة لينا بضعة أيام، وصلت إلى المكان الصحيح هذا هو المخزن الذي يعمل فيه سعيد ابن العم فيصل، كان سعيد رجلاً في العقد الرابع من عمره يكبرني بأربعة أعوام فقط، عند سؤالي عنه و إخباره بوجودي، استقبلني استقبالاً رائعاً و أحسن ضيافتي، و بعد إخباره عن الموضوع، وقفَ، و وضع يده على صدره قائلاً: يا أخي، والدانا كانا أكثر من إخوة، إن لوالدكَ فضل كبير علينا، من الغد إرجع إلى ابنتك ،و كامل تكلفة علاجها عليَّ، و لا تقل شيئاً هذا من فضل الله و فضل أبيك، ما استطعت مقاطعته مستغرباً أخلاقه و كرمه، ليستئنف: و من الآن أنت تعمل معي يا مازن، لكن أريد منكَ طلباً صغيراً، كما علمت أنت و ابنتك تعيشان في منزل صغير، و بعيد عن المدينة، أريدك أن تجلبها و تسكن مع والدي، إنَّ عملي يقف عارضاً بيني و بينه، و أخاف أن أكون مرة في سفر لأعود، و أجده طريح الفراش، بات أبي وحيداً في آخر عمره، هل تستطيع أن تكون مكاني، و تعتني به، كان سعيد يحب التجارة و السفر لدرجة كبيرة، و مع حاجتي الماسة، قبِلتُ بالعرض، و عدت لأنتقل إلى منزل العم فيصل، و باشرت في مضاعفة عدد جلسات علاج لينا، و قد تعافت بعد سنة و نيِّف، كنتُ قد فتحت دكاناً أقوم فيه بإدارة بعض أعمال سعيد، فقد أوكل إليَّ جمع الديون، و تسجيل بعض الطلبيّات، مرَّ الوقتُ، و أنا أعمل، و أعتني بالعم فيصل و بابنتي لينا، و كان سعيد يتردد إلينا كل عدة أشهر، بعد فترة جاء سعيد للدكان و أخبرني أنه مسافر إلى بلد بعيد بُغية صفقة تجارية كبيرة مع أحد كبار التجار ، و أكدَّ عليَّ طلبه القديم، أعتني بوالده و أن لا أفارقه مهما حصل، و أنَّ الغلال و ما في الدكان أمانة لدي ريثما يعود، فوعدته بذلك و طمأنته، ودّعني و مضى عند مغيب الشمس..
تأخر سعيد هذه المرة، مرت تسعة أشهر، لم يأتي ،و لم يُرسل لي أحد لأخذ الدَّين، ساءت حالة العم فيصل، و حانت لحظاته الأخيرة، خرجت لأجد لينا تبكي و تصرخ، هل سيموت جدي فيصل يا أبي قل لي؟
فضممتها و قلت أنَّ ذلك ليس صحيحاً، بعد أيام دخلت إلى العم فيصل و معي صحن حسائه لأجده يغط في النوم حاولت إيقاظه لكن عبثاً، رفعت يده اليمنى للأعلى و تركتها فسقطت، غادر العم فيصل بهدوء دون ضجة فما غلَّبني يوماً، و كان نِعم الأب الحاني، أقمت العزاء له، و دفنته بالقرب من والديّ، سعيد لم يظهر و لم أستطع أن أصل إليه ،أو لأحد ممن يعرفه، مستودعه مغلق منذ سفره ،و لا أحد يعرف عنه شيئاً ، مرَّت الأيام، جمعت أغراضي و غادرت المدينة، و قد جمعت كل ديون سعيد و أخذتها، صار لدي حانوت خاص بي، و صرت تاجراً معروفاً من كبار التجار، تزوجت ابنتي من أحد رجال الأعمال، و تحسنت حياتي، و صرت كالملوك.
في إحدى ليالي الشتاء الماطرة، يُطرق الباب، يفتح الحارس و يخبرني أنه هناك رجل رثُّ المظهر يطلب رؤيتي، و يقول أنه ابن صاحب أبيك القديم، تذكرت سعيد ،و انتفضتُ بعصبية ما الذي أظهر هذا بعد كل تلك السنين، خرجت إليه، رأيته بمظهر سيء، كانت لحيته طويلة و متسخة، كان المطر قد بلل قميصه الرقيق الممزق من طرف الكتف، وقفت في عرض الباب و قلت: أهلاً، كيف يمكن أن أساعدك؟
نظر إليَّ سعيد باستغراب، و كأن أحداً صفعه، فتابعت: لمَ تنظر مستغرباً، أين كنت يا رجل، رميت والدك المريض، و ذهبت دون أن تسأل عن أخباره، لقد مات غاضباً عليك، أيُّ ولدٍ بارٍّ أنت!! هل أغوَتكَ الدنيا… لم أتركه يرد، و لم يكن يهمني ذلك أصلاً ، دفعته ، فأوقعته أرضاً، و أغلقت الباب في وجهه، و لم أعرف إلى أيِّ مكانٍ ذهب.
غيَّر حالي المال و الجاه، نسيت من أكون، نسيت أنني ابن مروان حسنُ الأخلاق، كريم المعشر، ذلك الرجل الذي عاش حياته على قياسه لا طامعاً بها، نسيت أمي الحاجّة الفاضلة، نسيت زوجتي التي عاشت معي على كسرات الخبز، حتى ابنتي الوحيدة سافرت مع زوجها، و قطعت اتصالها بي تماماً، أنا الآن عجوز وحيد أنتظر موتي على أحرّ من الجمر، أعاني هلوسات كثيرة، لا أستطيع النوم بشكل جيد بسبب الكوابيس، لم أعد أذهب للطبيب لأنه لم يعد هناك أهمية، أنا مريض بالقلب، أعيش من قلة الموت، لم أعد أتردد للمقبرة منذ عقد، أجلس في المنزل ليل نهار، هذا كان جزاء طمعي، لم أكن شخصاً جيداً رغم أهلي الطيبين، رغم بيئتي المتواضعة، نهشت لحمَ الشخص الذي انتشلني من بئر مشاكلي، و نقضت وعده، لم أكن من الرجال الذين يحفظون العهود.
تمت بتاريخ ١أيلول/٢٠٢٣