هل بدأ الافتراق الروسي التركي؟
موفق محادين
قبل تناول المؤشرات المتزايدة على تفكك الشكل السابق لعلاقات بدا أنها استراتيجية بين روسيا وتركيا، لا بد من الإشارة إلى أن هذه العلاقات أخذت أشكالاً من الوحدة والصراع الدموي منذ صعود الدولتين إلى المسرح العالمي.
صعدت روسيا وتركيا في وقت متزامن إلى المسرح الدولي بفعل التحولات الكبرى في طرق التجارة العالمية، وهي التحولات التي منحت البلدين آنذاك امتيازات خاصة على طريق الحرير، كانت مثار صراعات وتفاهمات في الوقت نفسه بينهما، ولا سيما فيما يخص جزيرة القرم. وكان من العناصر التي دفعت إلى التفاهمات تمازج العديد من المكونات العرقية والقبلية الناجمة عن مرحلة قبائل المغول الذهبية في مناطق نفوذهما الواسعة.
وإضافة إلى الحروب البينية التي تأخذ أكبر حصة من عمل المؤرخين المتخصّصين في هذا الجزء من العالم، ثمة محطات مغايرة كانت، بحسب العديد من الباحثين، عاملاً حاسماً في بقاء الدولة التركية، ومن ذلك دور روسيا في إنقاذ تركيا مرتين من الزوال.
كانت المرة الأولى إثر حملة حاكم مصر القويّ محمد علي على بلاد الشام طيلة ثلاثينيات القرن التاسع عشر وتمكنه من هزيمة الجيوش العثمانية وحصار إسطنبول نفسها، في محاولة لنقل المركز الإسلامي إلى القاهرة وإعلان إمبراطورية مصرية عربية إسلامية بديلة للإمبراطورية العثمانية.
ولكن بريطانيا بالتعاون مع إمبراطورية النمسا – المجر وروسيا القيصرية نظمت بدعم من روتشيلد والصناديق اليهودية مؤتمراً في لندن لتمويل حملة بحرية أوروبية تجبر الجيوش المصرية على فك الحصار عن إسطنبول والانسحاب من بلاد الشام وإعادتها إلى السيطرة العثمانية مع نفوذ للقناصل الأوروبيين، وهذا ما حدث تماماً مع دور ملحوظ لأسطول القيصرية الروسية الذي كان يجوب سواحل شرق المتوسط.
أما المرة الثانية، فكانت إثر الحرب العالمية الأولى، حين قرر مصطفى كمال أتاتورك، مستنداً إلى تاريخه العسكري في ليبيا وسوريا، مواجهة الحلف البريطاني – اليوناني واتفاقية سيفر التي لم تبقِ من أراضي الإمبراطورية العثمانية إلا مساحات محدودة داخل تركيا الحالية، وأعطت الكرد والأرمن حقّ إقامة أشكال من السلطة السياسية.
لم يجد مصطفى كمال حليفاً معه إلا روسيا بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية التي قررت بزعامة لينين دعم تركيا وإمدادها بالأسلحة والمستشارين العسكريين وتأمين مناطق واسعة بالجيش الأحمر حتى تتفرغ الوحدات التركية لقتال الإنكليز واليونان. وقد انتهت هذه المجابهة، كما هو معروف، بانتصار أتاتورك واستبدال اتفاقية سيفر باتفاقية لوزان.
في الأزمنة الحديثة، لم تستمر العلاقات الروسية التركية على النحو الذي دشّنه لينين وأتاتورك، إذ ساعدت وفاة الأخير على تفسخ حزب الشعب الأتاتوركي، وصولاً إلى سقوطه في الانتخابات وخسارته السلطة طيلة خمسينيات القرن العشرين لمصلحة الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس؛ الوجه الآخر لنوري السعيد في العراق، الذي اتخذ من “الإسلام الأطلسي” عنواناً مضللاً للتدخّل في الشرق الأوسط.
كان الحزب الجديد بنكهة الإسلام المذكور خليطاً من منشقّين عن حزب الشعب الأتاتوركي ومن رجال أعمال ورأسماليين ورواسب إقطاعية. وقد أظهر منذ يومه الأول رغبته في إدارة الظهر لروسيا وإقامة علاقات وثيقة مع واشنطن والغرب عموماً، وكذلك السعودية وشاه إيران.
شهدت مرحلته تدهوراً في العلاقة مع روسيا، واشتباكاً مع حركة التحرر العربية بزعامة جمال عبد الناصر، الذي أدى دوراً معروفاً بدعم من موسكو في إسقاط حلف بغداد – أنقرة، الذراع الجنوبية لحلف الأطلسي، ومن المعروف أن الحكم الجديد في تركيا شارك في المداولات البريطانية الفرنسية الإسرائيلية التي سبقت العدوان الثلاثي 1956 على مصر.
إضافة إلى السياسة التركية المذكورة، انخرطت حكومة مندريس في حلف الناتو تحدياً لموسكو، وشاركت في الحرب الكورية معه وخسرت معظم جنودها فيها، وأدخلت البنك الدولي في الاقتصاد التركي.
والأسوأ من ذلك أنها كانت مع إيران الشاه من الدول الإسلامية التي اعترفت مبكراً بـ”إسرائيل”، ودخلت في تنسيق معها لاحقاً ضد سوريا التي أدت دوراً معروفاً أيضاً في إسقاط حلف بغداد – أنقرة.
رغم سقوط مندريس وقيام الجيش بإعدامه عام 1960، فإن حكومات الجيش المتتالية حافظت على الموقع الأطلسي لتركيا مع علاقات أقل توتراً مع موسكو، وبالمثل الحكومات المتلاحقة لحزب الشعب وأحزاب الوسط الأخرى، لكن نقطة التحول البارزة التي أضفت مسحة استراتيجية على التخادم التركي – الأميركي خلال الحرب الباردة هي محطة الرئيس تورغوت أوزال، الذي استعاد صفحات من تجربة عدنان مندريس ساهمت في التأسيس لتجربة حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوغان.
كان أوزال، كما مندريس وإردوغان، معنياً بالدور التركي الإقليمي وما يستدعيه من ضرورات سياسية، بما فيها المزج بين علمانية الدولة والإسلام الأطلسي والطورانية التركية، ولم يكن ذلك كله خياراً موضوعياً فحسب، فقد تزامن صعود أوزال والإرهاصات الأولى لحزب العدالة والتنمية مع بداية تفكك الاتحاد السوفياتي فترة غورباتشوف، وصولاً إلى تفككه الكامل مع مجيء يلتسين.
تلك المناخات راحت تغري أنقرة بقضم ما يمكن من المحيط الإسلامي السابق للاتحاد السوفياتي، وهو ما انتبه له الثنائي الإستراتيجي الأميركي المعروف، بريجنسكي وبرنار لويس؛ الأوّل بسبب اهتماماته بالجيوبوليتيك والمحيط الأوراسي لروسيا، والآخر بسبب اهتماماته بتركيا وأطروحة الدكتوراه حولها.
وقد لاحظ كلاهما أن روسيا من الأمم التي لا تغادر التاريخ، إذ سرعان مع تظهر على نحو آخر، من الشيوعية إلى القومية السلافية الأرثوذكسية، ولا سبيل لتطويقها إلا عبر توظيف عدائي للحزام الإسلامي والأوكراني حولها. هكذا تقاطعت الأحلام الإمبراطورية التركية مع القراءات الاستراتيجية الاستخباراتية الأميركية بالتزامن مع نجاح حزب العدالة والتنمية ووصوله إلى السلطة.
لم تكن تلك التحولات خافية عن روسيا وتراثها الذي يعود إلى قرون عديدة فيما يخص العلاقة مع تركيا وأوروبا من خلفها: فرنسا (تحالف الهلال والزنبقة)، ثم بريطانيا في مرحلة العهد الفكتوري ورئيس الوزراء اليهودي القوي دزرائيلي، ثم ألمانيا فريدريك الثاني. ومن المؤكد أن الخبرة الأمنية للرئيس بوتين ساعدت على انتهاج سياسة احتواء ملحوظة بُعيد إسقاط سلاح الجو التركي الطائرة الروسية.
وبدلاً من التصعيد، نجحت موسكو في سياسة الاحتواء المذكورة بالاستناد إلى مجموعة معطيات، من بينها مصالح اقتصادية وتجارية، فتحوّل الصراع الروسي مع الأطلسي عبر تركيا على السيل الجنوبي للنفط والغاز إلى علاقة تفاهم روسية تركية امتدت إلى قطاعات واسعة في السياحة والتبادل التجاري، ناهيك بصفقة الصواريخ الكبرى.
كل ذلك رغم أن بوتين وإردوغان يعرفان جيداً أن ثمة مياهاً كثيرة جرت وتجري تحت القنطرة وستفيض يوماً، فتركيا، مهما اتخذت من إجراءات وسياسات، لا تستطيع الخروج من جلدها الأطلسي بانتظار المزيد من المكاسب، وربما القبول في الاتحاد الأوروبي.
لم يكن بوتين واهماً في علاقاته السابقة بقدر ما كان يراهن على الوقت وعلى مغريات البريكس واتفاقية شنغهاي لبرجوازية الأناضول والتجار الأتراك عموماً، وخصوصاً أن باب الأسواق الأوروبية ظل موارباً أمامهم رغم انخراط تركيا المبكر في الناتو.
قد يكون مفاجئاً للروس ما قام به الرئيس التركي حين أعاد قادة الكتيبة النازية الإجرامية المعروفة باسم آزوف إلى أوكرانيا ليواصلوا القتال من جديد ضد روسيا، وقد يكون مفاجئاً كذلك عدم تحفّظه عن ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، ولكن روسيا في الخطوط العامة للعلاقة مع إسطنبول تعرف أنها تلعب مع دولة عضو في الأطلسي بكل ما يترتب على ذلك من التزامات، وتوظّف أدق التفاصيل لحضور كامل في هذا الحلف.
هذا يعني أن رد الفعل الروسي لن يفقد في أي لحظة حصافته وحنكته وقدرته على تحديد الأولويات وإدارتها بما يؤدي إلى تكفيك ناعم للعديد من خيوط اللعبة التركية نفسها التي سبق أن جربت سياسات مشابهة بعد حادثة الطائرة الروسية، فخسرت في شهر واحد ملايين السياح الروس، وأُغلقت في وجهها أرخص سوق للمواد نصف المصنعة شديدة الأهمية للصناعات التركية.
كذلك، إنّ الحزام الأخضر الإسلامي بأصوله التركية وغير التركية حول روسيا والصين لم يعد كما كان قبل 20 عاماً برسم التوظيف والتهييج الأصولي ضد بلد لم يعد شيوعياً، ويُعامَل فيه المسلمون بأخلاق أفضل ألف مرة من أوروبا التي تسقط يوماً بعد يوم في براثن العنصرية المذهبية والعرقية، ولا سيما ضد المسلمين.
في المحصلة، استدارة إردوغان الواضحة نحو الغرب لن تجلب له مكاسب أفضل من علاقاته بروسيا التي تكسب أكثر في استدارتها الاستراتيجية نحو الشرق.